المغـرب بيـن الانجـذاب الأوربـي والانتمـاء الإفريقـي
تعزز الدور المغربي الكبير في إفريقيا جنوب الصحراء، بدخول العلاقات المغربية الغابونية مرحلة متقدمة من التعاون، اثر الزيارة الرسمية الأخيرة، التي قام بها الرئيس الغابوني "الحاج علي بونغو أونديمبا" للمغرب. وتأتي هذه الزيارة لترسيخ وتدعيم الحوار السياسي بين الرباط وليبروفيل، وإعطاء دفعة قوية للعلاقات الثنائية.
وتجسدت ملامح جودة العلاقات بين البلدين بالتوقيع على خمس اتفاقيات للتعاون في مجالات التكوين المهني والطاقة والمناجم والبيئة والسياحة، خلال حفل ترأسه الملك محمد السادس والرئيس الغابوني "علي بونغو" ستمكن الطرف الغابوني من الاستفادة من الخبرة المغربية في مجالات التكوين المهني والسياحة والسياحة الإيكولوجية، التي تحتل مكانة هامة في "غابون الخدمات" الذي دعا إليه الرئيس علي بونغو أونديمبا.
ورأى المهتمون بالعلاقات الدولية أن تزامن زيارة الرئيس الغابوني للمغرب وانتهاء القمة الأوربية المغربية، فإنما يحمل دلالات سياسية قوية، مفادها أن المغرب لن يفرط في هويته الإفريقية، امتداده الجغرافي والثقافي والتاريخي الأصيل، طبقا لمقولة المغفور له الحسن الثاني التي شبه فيها المغرب بشجرة جذورها المغذية في إفريقيا ومتنفس أغصانها في أوروبا. ولذلك ظل المغرب وعلى الدوام يشكل حلقة وصل وجسرا بين الشمال والجنوب، وهو ما يجعل أولوياته اليوم تنفيذ مشروع الربط القاري عبر مضيق جبل طارق.
وإذا كان هذا البعد الإفريقي في السياسة المغربية قد أملاه الامتداد الطبيعي والاستراتيجي للمغرب في إفريقيا، فإنه نابع أيضا من إرادة العهد الجديد في إرساء تعاون متنوع مع الدول الإفريقية، التي تعكس بحسب خبراء العلاقات الدولية تطلعات المغرب إيجاد موطئ قدم قوي في إفريقيا بعد انسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1984، علـى خلفيـة قبول عضوية ما يسمى الجمهورية العربية الصحراوية، وقد كان من مؤسسا لهذه المنظمة في 25 مايو 1963 بأديس أبابا.
وقسم المراقبون مراحل الدبلوماسية المغربية في إفريقيا إلى مرحليتين، مرحلة حكم الحسن الثاني، وخروج المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية، ليتراجع الدور المغربي في إفريقيا جنوب الصحراء، منجذبا نحو أوربا. ثم مرحلة حكم محمد السادس، حيث سعى المغرب إلى استغلال امتداداتها الثقافية في العمق الإفريقي، فأعد النظر في استراتيجية دبلوماسية في العمق الإفريقي، وهو الآن يتوفر على 23 ممثليه دبلوماسية بالقارة الإفريقية، ولم تعد إلا 8 دول افريقية لا تزال تعترف بالجمهورية العربية الصحراوية، وأن هذه الدول ليست ذات التأثير دبلوماسي على المستوى الإفريقي باستثناء الجزائر وجنوب إفريقيا.
ورغم ارتباطات المغرب مع أوربا فإنه ظـل يعتبـر نفسـه جزءا لا يتجزأ من الأسـرة الإفريقيـة الكبيرة على المستويات الجغرافية والثقافية والحضارية. وتجسدت هذه الرؤية بمبادرة العاهل المغربي محمد السادس بعد أشهر معدودة على اعتلائه العرش بالإعلان، في القمة الأورو-افريقية الأولى بالقاهرة (ابريل 2000) عن قرار إلغاء المغرب لديونه المستحقة على الدول الإفريقية الأقل نموا وإعفاء منتوجاتها الواردة إلى المغرب من الرسوم الجمركية.
ثم جاءت بعدها جولات زيارة العاهل المغربي لعدد من الدول الإفريقية سنة 2001 ابتدأها من موريتانيا إلى الكونغو الديمقراطية، مرورا بالسينغال وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية والكامرون وبنين وغامبيا والنيجر وغيرها، واطلع على العديد من المشاريع والبرامج الممولة من طرف المملكة.
فأشرف على وضع الحجر الأساس لإقامة مدرج الحسن الثاني في جامعة المستقبل الإفريقي. وأمر بإرسال مبعوثين من أجل القيام بدراسات حول الأشغال قبل التكفل بالنفقات الخاصة بأشغال ترميم مسجد دكار. وحظي مسجد تيفوان، مقر الطريقة التيجانية في السينغال بعنايته، حيث تم ترميمه أيضا.
ودعا خلال جولته الإفريقية تلك إلى عقد مؤتمر إفريقي حول البيئة من أجل وضع برنامج لحماية البيئة يتعين بالضرورة أن يندمج في جميع مخططات التنمية في إفريقيا.
وفي هذا الإطار استجاب المغرب لطلب السينغال فيما يخص تقديم المساعدة في مجال الأمطار الاصطناعية، وهو البرنامج الذي سبق لبوركينا فاصو أن طبقته بنجاح منذ سنوات. وقد عرف هذا البرنامج نجاحا كبيرا باعتراف من سلطات هذا البلد، وذلك بفضل الدعم التقني واللوجستيكي للمغرب.
ووضع المغرب فريقا من الخبراء والتقنيين رهن إشارة البلد الصديق لمواجهة اجتياح الجراد وآثاره المدمرة، وجعل رهن إشارة شركائه الأفارقة المئات الآلاف لتر من المبيدات وعددا من الطائرات وكمية البذور المنتقاة والمتنوعة، وإيفاد فرق وبعثات طبية مدنية وعسكرية لتقديم الإسعافات في عين المكان للساكنة القروية بعدة دول إفريقية.
وتناغم توجه القطاع الخاص والتوجه الرسمي للمغرب، وفي هذا الصدد، بادرت العديد من المقاولات المغربية، مدعومة باسترتيجية الدولة في هذا المجال، بإحداث فروع لها للاستثمار بإفريقيا خاصة في قطاعات البناء والأشغال العمومية والنقل الجوي والاتصالات والأبناك والصناعات الغذائية، وفي إطار ربط علاقات شراكة تحفز على نقل المهارات وخلق الثروات واستغلال الإمكانات بما يحقق التنمية المستدامة للدول الإفريقية المعنية.
ويشير المتتبعون أن الدبلوماسية العهد الجديد للمغرب عرفت تطورا لافتا على المستوى الإفريقي، تجلى في إعادة توجيه سياستها على البعد الديني، وتعميق الارتباطات الدينية، والتي ظلت وثيقة ولا تزال، وتجليات هذا الارتباط متعددة وبارزة في النهل المشترك من المذهب المالكي، وهو السائد في كثير من الدول الإفريقية وفي الطرق الصوفية، كما أن الكثير من العادات والمواسم والتقاليد في الزواج والمناسبات متشابهة.
وتشير الدراسات التاريخية عن الارتباط الروحي للأفارقة بالمغرب، فد أشارت الرسائل التاريخية أن لأفارقة كانوا يلجؤون إلى السلطان المغربي كلما أحسوا بالخطر الفرنسي يتهددهم، هذا من الناحية السياسية أما من الناحية الدينية فقد أشارت الكتابات التاريخية أن الدعاء كان للسلطان المغربي في الصلوات.
وأن كل من تقصّى تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بإفريقيا الغربية، لا يمكنه أن يتجاهل الدور الحاسم للمغرب بهذا الشأن. فقد كانت المصنفات المغربية - في جل العلوم السائدة وقتئذ - رائجة ومعتمدة في مناهج التدريس وحلقات العلم بالمنطقة، كما أن أسماء العلماء والفقهاء المغاربة كانت تتردد في مؤلفات السودان بطريقة تلقائية.
وبرز الحضور الديني القوي للمغرب في إفريقيا من خلال الزاوية التيجانية وانتشارها في بلدان حوضي السنغال والنيجر وما وراءهما، وإلى يومنا هذا، ما تزال تحافظ على استمرارية الروابط التاريخية التي جمعت بين المغرب وبلدان السودان الغربي عبر تاريخه الإسلامي.
وتواصل هذا الحضور في القرن الإفريقي الذي يجمع كلا من إيريثيريا وإثيوبيا والصومال، خرجت زاويتان من رحم النهج الإدريسي: الأحمدية والصالحية؛ وهاته الأخيرة، ليست سوى زاوية مستقلة عن الزاوية "الرشيدية" بالسودان، وانتشرت الزاوية السنوسية في دول تشاد والنيجر وشمال نيجيريا ودارفور.
ويرى عدد من الفاعلين الاقتصاديين أن إفريقيا هي مستقبل المغرب والمقاولات المغربية، حيث يأتي المغرب في المرتبة العشرين على صعيد الاستثمارات في إفريقيا بقيمة استثمارات تقارب 400 مليون دولار والتي لا تمثل سوى 0, 4 في المائة من إجمالي الاستثمارات في إفريقيا. وتراوحت المبادلات التجارية المغربية مع إفريقيا جنوب الصحراء بين 300 و 400 مليون دولار أي ما يعادل 2 في المائة من المبادلات التجارية المغربية الخارجية. وكانت الكفة مائلة لفائدة الدول الإفريقية إلى حدود سنة 2003 ليتغير الوضع لصالح المغرب حيث تم تحقيق فائض لصالحه بحوالي 97 مليون دولار.
ويهيمن على الصادرات المغربية والواردات موارد الطاقة والصناعة الغذائية، في حين فإن وارداته من إفريقيا حوالي 50 في المائة منها مواد غذائية و مواد الطاقة 46 في المائة، أما الصادرات الغذائية فتشكل 54 في المائة كما أن النسيج يشكل 15 في المائة ونسبة الصادرات الكيماوية 18 في المائة من إجمالي الصادرات نحو إفريقيا.
وفي العهد الجديد اقتنع المغرب بتعزيز دوره الإفريقي، فارتفع حجم الاستثمارات المباشرة للشركات المغربية في الخارج 13.76 مليار درهم في سنة 2008، مقابل 10.31 مليار في 2007 (الدولار يساوي 8.1 درهم)، أي بزيادة 33.4 في المائة، حسب ما ورد في التقرير الأخير لمكتب الصرف المغربي (مؤسسة رسمية مكلفة بمراقبة عمليات الصرف بالمغرب).
وذكر التقرير أن القارة الأفريقية استقطبت 54.7 في المائة من هذه الاستثمارات، إذ بلغ حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة للمغرب في أفريقيا 7.5 مليار درهم خلال سنة 2008، بزيادة 50.7 في المائة مقارنة مع سنة 2007. في حين استقطبت أوروبا 40 في المائة من الاستثمارات الخارجية المباشرة للمغرب، وبلغت 5.6 في المائة بزيادة 19.2 في المائة.
وارتفع حجم الاستثمارات المغربية المباشرة للمغرب في الدول المغرب العربي بنسبة 40 في المائة، وبلغ 517 مليون درهم، ممثلة نحو 4 في المائة من مجموع الاستثمارات المغربية المباشرة بالخارج، واستقطبت موريتانيا 63 في المائة من هذه الاستثمارات مقابل 32 في المائة لتونس، و5 في المائة للجزائر.