أثر التدخل الإنساني على التلوث الزراعي
نبذة تاريخية
عندما قطن اليونانيون المنطقةَ أسموا النهرَ باراديسوس paradeisos، أي "الفردوس". وعندما أتى العرب استخدموا الكلمة نفسها مع تعديل لفظي طفيف، فعُرِفَ بعدهم باسم "بردى". أذكر من أيام طفولتي أننا كنَّا في بعض الفصول نشرب ماء هذا النهر. أما الآن فإن لا أحد يتجرأ أن يمدَّ يده إلى ذلك الماء في الفصول كلِّها. لقد أصيب النهر بعجز كامل! ولم يتوقف الأمر، في الواقع، عند تلوث مياهه فقط، بل إن هذا التلوث بات الآن يطال الإنسان عبر عدة عوامل، كالسقاية من مياهه وإسقاء الحيوانات منها. وإن تلوث النهر يُفقِد الأرض خصوبتها.
لقد أصبح بردى الكهريز الرئيسي لمدينة دمشق وكلِّ القرى الواقعة في حوضه. لذا فإن 80% من مياهه هي مخلفات بشرية؛ وهي، والحالة هذه، وسطُ تنميةٍ نَشِط لأنواع الجراثيم والبكتريا والفيروسات المعادية للحياة كافة. ومن أبرز سمات عدائها للحياة تخفيضها كمية الأكسجين المنحل في المياه إلى درجة خطيرة.
وتصبُّ في مياه بردى كلُّ مخلَّفات الصرف الزراعي المشبعة بالمواد الكيميائية المستخدمة كأسمدة. ومن بين هذه المواد الفوسفات والآزوت اللذان يُعتبَران الغذاء الأساسي لنموِّ البكتريا والأشنيات. وهذا، بدوره، يعطي مدًّا أكبر للتلوث البيولوجي الذي ذكرناه. إن مشكلة الأسمدة الكيميائية هي مشكلة عالمية. فمعظم البحيرات في العالم، وعدد غير قليل من الأنهار، انتفتْ فيها الحياة الحيوانية والنباتية بسبب هذه الأسمدة؛ بينما يمكن للاستخدام الفعال للأسمدة الطبيعية أن يطعم العالم كلَّه، بما في ذلك جياعه.
وتسيء بعض المصانع الصغيرة المنتشرة على طول مجرى بردى إلى بقاياه. فهناك معامل النسيج، وما تنتجه من مواد الكالسيوم والمغنزيوم ومواد القصارة وحمض الكبريت وحمض كلور الماء والأصبغة الحاوية على الكروم، شديد السمية، والكبريت. أما أعمال الدباغة فهي مصدر عالٍ للتلوث؛ إذ تتصف مخلَّفاتها بقلوية عالية، وهي كريهة الرائحة، قابلة للتعفن، كما تُعتبَر موطنًا لتأثير البكتريا والفيروسات. وكذلك شأن تصنيع الخميرة. وبالمقابل يزيد صنع الكرتون وغسل الصوف من نسبة المواد العالقة بدرجة خطيرة. ويدلي معمل الحليب بدلوه أيضًا، فيزيد التلوث العضوي ونسب المواد العالقة والقلوية؛ بينما يزيد معمل الكبريت من نسبة الكبريت السام. ولن نستطرد في جرد هذه المعامل الصغيرة، ولكننا نتساءل عن مدى ضرورتها لحياتنا. وإذا كانت ضرورية، فلماذا لا يعاد إنشاؤها في أمكنة أخرى؟ أو على الأقل، أن تُلزَم بنظام حماية للبيئة يقي الطبيعة من نفاياتها.
لا يقتصر خطر التطور المعاصر على الأنهار على تلويث مياهها فقط؛ بل إن هذا التطور يُنقِص كمية هذه المياه إلى درجة تسيء إساءة عميقة إلى توازن الطبيعة. وليس هذا بعجيب؛ إذ يكفي أن نتذكر ضخامة الصناعات الحديثة، وأن نقوم فكريًّا بجداء مقدار هذه الدلائل في حجم المياه اللازمة لصنع هذه المنتجات أو تلك: يتطلب إنتاج طن واحد من الصلب 50 طنًّا من الماء؛ وبصورة مناظرة، يتطلَّب إنتاج طن واحد من الأصباغ إنفاق مقدار متوسط من الماء يبلغ 500 طن؛ ويحتاج الطن الواحد من الحرير الصناعي إلى 1500 طن من الماء، والطن الواحد من النايلون إلى 2500 طن من الماء.
إن المصانع الحديثة الضخمة للكيميائيات وتحويل المعادن وإنتاج السللوز والورق والمحطات الحرارية لتوليد الكهرباء "تشرب" أنهارًا كاملة بكلِّ معنى الكلمة! ولا يزال التقدم التكنولوجي مقترنًا بزيادة حادة في استهلاك المياه للحصول على القطعة الواحدة من المنتجات. ويبدو ذلك في واقع الحياة كالتالي: في مصنع النسيج القديم نسبيًّا لإنتاج الأقمشة الصوفية الطبيعية، يتطلب إنتاج الطن الواحد من النسيج 300 طن من الماء؛ أما البديل الاصطناعي للصوف فيتطلب قدرًا من الماء يزيد بـ5-6 مرات عن ذلك. وبما أنه من المؤكد تقريبًا أن المصنع الجديد أقدر، وينتج كمية أكبر من المنتجات، ندرك بسهولة شدة زيادة ما يتم استهلاكه إجماليًّا من الماء. وأخيرًا، فإن الصناعة الحديثة تتطلَّب ماء أنقى، تصعب تصفيته بعد الاستعمال في معظم الأحيان.
أذكر، في معرض الحديث عن بردى، النزهات على ضفاف النهر وفي حوضه التي تزيد نسبة المواد العالقة في مياهه. يبدو للوهلة الأولى أن زيادة تلوث النهر ستؤدي إلى إنقاص عدد تلك النزهات، لأن تلوث الطبيعة يخفف إمكانات الاستمتاع بها. ولكن – لشدة العجب! – يزداد ذلك العدد باطِّراد، وكأن التلوث قد أصاب بدوره الآليةَ الروحية التي إذا عملت استمتع صاحبها بالطبيعة. لقد اندثرتْ اللغة الأصلية للتخاطب مع الطبيعة، وأصبحت تلك النزهات غاية في حدٍّ ذاتها.
*
لن أدخل في تفاصيل ما تسببه النزهات من تلوث؛ ولكنني سأتوقف عند معلومة صغيرة، وهي أن كلَّ ما نستخدمه من أكياس وأدوات حفظ بلاستيكية، نتركها عندما نتنزه، وكذلك يتركها أصحاب المطاعم والمقاهي، هي مواد عجيبة حقًّا. إنها مواد ثابتة؛ ولكن هذا الثبات هو مصيبة في حدٍّ ذاته؛ فهي تتأكسد ببطء وبصورة غير تامة. رُبَّ قائل يقول إن هذا الشيء ممتاز؛ إذ إن العلماء جميعًا يبحثون بإلحاح عن مختلف الإضافات الباعثة على الاستقرار، التي من شأنها أن تعيق بكافة السبل عمليات الأكسدة. إلا أن هذا يفضي، من ناحية أخرى، إلى أن هذه المواد تصير نفايات ثابتة أكثر فأكثر، مع العلم أن دور هذه المواد يزيد طوال الوقت، وتجرُّ إلى فلكها عددًا متزايدًا من الفلزَّات والمعادن. وسابقًا، عندما كانت المنتجات الزراعية العضوية هي التي تمثل الإنتاج أساسًا، كان يمكن للنفايات أن تتأكسد بسهولة كبيرة، فتحلِّلها الكائنات الدقيقة، وتذوب، فتحملها المياه الجارية بتركيز قليل. لا ينطبق ذلك على المواد المصنوعة الجديدة، إضافة إلى أن هذه المواد الجديدة سامة في معظم الحالات. إن أقل هذه المواد ثباتًا سيحتاج لألف سنة على الأقل حتى يتحلَّل. لذلك سيأتي وقت – ولا شك – تعجز الطبيعة عنده عن إرجاع أيِّ شيء. فهل سنترك الطبيعة للأجيال القادمة تستمتع بها، أو تعيش عالة عليها؟ سؤال علينا أن نتأمل معناه بهدوء.
إذا كانت الأسمدة الكيميائية ملوثة، فماذا عن مصانعها؟ تسود في بيئة تلك المصانع الغازات الملوِّثة، كأكاسيد الآزوت والفحم والنشادر، والغازات القلوية السامة جدًّا وأكاسيد الفوسفور؛ وبعض هذه المركَّبات تتحول إلى محاليل ملوِّثة وخطرة على التربة والمياه. يتصاعد الأمر في صناعة الفوسفات بشكل درامي: فهناك المواد المشبعة، كالأورانيوم والراديوم؛ ويحتاج الأمر، في هذه الحالة، إلى برنامج دقيق لتلافي الأثر السيئ لهذه المواد المشعة.
*
تتحرك المواد الملوِّثة في البلدان الصناعية مئات وآلاف الكيلومترات، مؤدية إلى الظاهرة المعروفة باسم "المطر الحامضي" acid rain. والمطر الحامضي هو مفتاح التصحُّر desertification، بل إنه الخطوة الأولى لإنهاء الحياة. فهو ينقص إنقاصًا كبيرًا ما يمكن أن نسمِّيه بالكائنات الحية "الصديقة" في الجو. ويصل تأثيره حتى أعالي الغلاف الجوي، فيهدِّد طبقة الأوزون التي تُعتبَر الدرع المنيع لحمايتنا من الأشعة الكونية الضارة، وخاصة الأشعة فوق البنفسجية القاتلة القادمة من الشمس.
نتطرق، في هذا السياق، إلى الغلاف الجوي، مُثبِتين الحقيقة الهامة التالية: إن الحياة، بكلِّ أشكالها، هي امتداد للغلاف الجوي المؤلَّف من مواد مختلفة بنسب متباينة، الذي استغرق زمنًا طويلاً حتى وصل إلى حالته الراهنة، عبر سلسلة مديدة من التحولات والتطورات. إننا لا نغالي إطلاقًا إذا اعتبرنا الغلاف الجوي، في حدِّ ذاته، كائنًا حيًّا، تلعب فيه الكائنات الحية المعروفة دور الأعضاء والنسج والخلايا. ولا بدَّ لنا في هذا المعرض من التذكير بالأهمية البالغة لنِسَب المواد المساهِمة في بناء الكائن الحي، وبالضرر العميق الذي يصيب ذلك الكائن إذا تغيرتْ تلك النِّسَب، ولو بكميات طفيفة. لدينا، إذن، الكائن الحي الأساسي: الغلاف الجوي، بأجزائه المختلفة: كلُّ أشكال الحياة على الأرض.
تطال الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس الغلافَ الجوي، فتؤثر على الأكسجين الجزيئي في أعاليه، محوِّلة إياه إلى أكسجين ثُلاثي الذرات، هو الأوزون O3 الذي أشرنا إليه للتو. وتفكِّك تفاعلات طبيعية أخرى هذا الأوزون، معيدة إياه إلى الشكل الجزيئي. والنتيجة أن كمية الأوزون تبقى ثابتة ومساوية لثلاثة مليون مليون كغ. يؤدي نقص الأوزون إلى تدفق الأشعة فوق البنفسجية ووصولها حتى سطح الأرض. وتفكِّك هذه الأشعة جزيئات الماء؛ وهي لذلك تصيب بالضرر العضويات الحية كافة، لأن الماء يساهم في تلك العضويات بنسب تتراوح بين 60% و95%.
وتُنقِص معظم النشاطات التكنولوجية كمية الأوزون إنقاصًا ملحوظًا. دعونا نضرب على ذلك مثلاً واحدًا وحسب: تُستخدَم طريقة النفث من حاويات معينة لذرِّ بعض مركبات الفلور والفحم أو الكلور والفحم ونثرها لتحقيق غايات معينة. وتُستعمَل هذه المواد عادة في التبريد. تتَّسم هذه المواد بعدم قابليتها للانحلال في الماء وبعطالتها الكبيرة، الأمر الذي يسهل اندفاعها من سطح الأرض ووصولها إلى أعالي الغلاف الجوي. وهناك تُلاقي الأشعة فوق البنفسجية، فتتحلَّل مطلقةً غاز الفلور أو غاز الكلور؛ وكلٌّ من هذين الغازين كفيل بتفكيك الأوزون وإنقاص كميته. إن الأوزون غاز سام. ومن المفارقات الكبرى في هذا المجال أن بعض النشاطات التكنولوجية تزيد من كميته عند سطح الأرض. وقد عرفنا للتوِّ أن نشاطات أخرى تُنقِص من كميته في أعالي الغلاف الجوي، بينما يرتبط استمرار الحياة بكمية كبيرة منه في أعالي الغلاف الجوي وأخرى قليلة للغاية عند سطح الأرض.
*
تطرح النشاطات الإنسانية كلَّ عام 150 مليون طن من ثاني أكسيد الكبريت السام؛ وتُطرَح معظم هذه الكمية في الغلاف الجوي. يطال الضررُ من هذه المادة حتى ما أنجزه الأقدمون. فمثلاً الآثار القديمة، بدءًا من تاج محل في الهند إلى أكروبوليس أثينا، ستذيبها هذه المادة. وهكذا فأخطبوط التلوث قد لا يكتفي بإنهاء الحياة فقط، بل وكل أثر لها، مهما كان قديمًا. هل يمكن أن يأتي يوم على كوكب الأرض يصبح فيه ممسوحًا، حتى دون أيِّ أثر دال على وجود سابق لكائن واعٍ كالإنسان؟ نتمنى من القلب ألا تصل الأمور إلى هذا الحدِّ – رغم أن الأمنيات لا تكفي!
***
لم يُبدأ باستخدام الفحم الحجري على نطاق واسع إلا في النصف الثاني من القرن الماضي. غير أن مجموع ما استُخرِجَ إبان النصف الأول من قرننا من الفحم والبترول والغاز زاد على 100 مليار طن. وبعد احتراق هذا الوقود، قُذِفَ في الجوِّ بما لا يقل عن 3 مليارات طن من الرماد. ويدخل قسم منها في التربة والمياه بالأرض، ولا يقل عن 1.5 مليون طن من الزرنيخ و1.2 مليون طن من الأنتيموان والتوتياء اللذين لا يقلان سُمِّية عن الزرنيخ. ويُستهلَك سنويًّا مقدار ستة مليارات طن من الأكسجين في احتراق الوقود الأحفوري المستخرَج. وكان بالمستطاع أن يملأ هذا المقدار البحر الأبيض المتوسط كلَّه بالأكسجين.
لقد أظهرت الأبحاث أن المدن الكبرى في العالم تعاني من نقص كبير في الأكسجين. وتنخفض كمية الطاقة التي يحصل عليها سكان هذه المدن من الشمس بنسبة 30% بسبب غازات السيارات. نضرب مثلاً على ذلك مدينة نيويورك: يقول الطيارون إن من السهل إيجاد نيويورك في أيِّ طقس كان، بدون خارطة أو أجهزة، وذلك باستنشاق رائحتها. وليس في ذلك أية مبالغة؛ إذ تخيِّم على مدينة نيويورك، دائمًا وبدون حركة، سحابة رمادية هائلة يراها الطيارون بوضوح في جوِّ الصحو، وهم على مسافة كبيرة من المدينة. ويفسِّر الخبراء ذلك بأن السحابة ناجمة عن المدينة العملاقة التي تنفث في الهواء يوميًّا 3200 طن من ثاني أكسيد الكبريت و280 طنًّا من الغبار و4200 طن من أول أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكربون وأكاسيد الآزوت، وغير ذلك من المواد السامة. وتعيد السحابة، بدورها، رواسب يبلغ مقدارها 4 أطنان لكلِّ كيلومتر من المدينة. فلا ضرورة للعجب إذا ما كان يموت سنويًّا في نيويورك، بسبب تسمُّم الجوِّ وحده، حوالى عشرة آلاف شخص؛ ويشكل ذلك 12% من جميع الوفيات المسجَّلة.