العلوم المساعدة لدراسة التاريخ لمحترفى البحث فى التاريخ
سبق وعرفنا أن التاريخ يشمل دراسة الإنسان فى الزمن فى كافة المجالات الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية و الثقافية و الفكرية و القانونية و العسكرية و مع تطور علم التاريخ على هذا النحو لم يعد يكفى القول بأن فلانا يدرس التاريخ أو انه يدرس تاريخ شعب معين فى عصر معين بل اصبح من الضرورى كشرط لدراسة التاريخ دراسة علمية أن يقال أن فلانا يدرس التاريخ الاقتصادي او الاجتماعي او السياسى لشعب معين فى فترة زمنية محددة , و بتخصيص مجال النشاط موضوع الدراسة يصبح لكلمة تاريخ معنى محددا .
و لقد فرض هذا التطور لموضوع التاريخ عبئا لا يستهان به على كاهل الباحث فى التاريخ إذ يشترط ضرورة الإلمام بكثير من العلوم و المعارف المتعلقة بموضوع البحث فضلا عن الأدوات و المهارات الأساسية التى يشترط إتقان الباحث لها للدخول فى موضوع البحث .
و أحيانا يطلق على هذه العلوم اسم العلوم المساعدة او العلوم الموصلة أو الخادمة للباحث فى التاريخ
ويمكن تقسيم العلوم المساعدة للبحث فى التاريخ إلى قسمين :-
القسم الأول :- يتعلق بالعلوم الاجتماعية و الإنسانية التى تدرس نشاط الإنسان
وهذه العلوم لها علاقة وثيقة بدراسة التاريخ حسب موضوع البحث و تخصص الباحث.
القسم الثاني :- يتعلق بالمهارات و الأداوت الأساسية اللازمة للباحث حسب الموضوع محل الدراسة و بعضها ليس علوما بالمعنى الاصطلاحي.
و فى كل الأحوال فالباحث يجب أن يميز بين علوم ينبغى له أن يتعلمها و علوم ينبغى أن تكون ملكة راسخة فيه و علوم تبقى على هيئة معلومات يمكن أن يتزود بها كلما أراد.
و
فيما يلي سوف نستعرض معا أهم هذه العلوم للباحث التاريخي :-
أولا العلوم الاجتماعية و الإنسانية :-
1-علم الإنسان ( الأنثروبولوجي )
ربما كان هذا العلم من اكثر العلوم الاجتماعية ملائمة للمؤرخين ذلك ان علماء الإنسان والمؤرخين يواجهون مشكلات متشابهة فى الرأي عند بحثها غير ان علماء الإنسان يدرسون ثقافة الإنسان البدائى بشكل عام على حين يدرس المؤرخون الإنسان المتحضر .
و ليس لعلم الإنسان وجود منفصل كالعلوم الطبيعية بل هو موجود من حيث انه ميدان يلتقى فيه كل من لهم اهتمام بالإنسان لهذا ظهرت أربعة فروع منفصلة لعلم الإنسان هي:-
1- علم الانسان الطبيغى
و هو يدرس التطور البيولوجى للإنسان و تغير السلالات البشرية .
2- علم الآثار
يسعى لاكتشاف طبيعة و ثقافة إنسان ما قبل التاريخ من خلال الكشوف الأثرية .
3- علم اللغات الأنثروبولوجي
يحلل الثقافات الشفهية والمدونة .
4- علم الانسان الثقافي
يدرس الثقافات المعاصرة للقبائل البدائية و الشخصيات و العلاقات البشرية ,
و بوجه عام يعالج علم الانسان المسائل التاريخية عند تتبعه مجرى التطور البشرى و انتشار البشرية و مناهج علم الآثار وعلم الانسان الطبيعى هي نفسها مناهج دراسة التاريخ مع تعديلات تتطلبها الدراسة المتخصصة .
وعلى هذا الأساس فالباحث فى التاريخ لا يمكن ان يستغني عن الدراسات الأنثروبولوجية عندما يدرس مثلا التطور الثقافي فى مجتمع ما لكى يسجل حقيقة مراحل هذا التطور ومدى عملية التأثير و التأثر .
2- علم الجغرافيا
الجغرافيا من العلوم المرتبطة بالتاريخ فالارتباط وثيق للغاية بين التاريخ و الجغرافيا أو بمعنى آخر بين الزمان و المكان فالأرض هى المسرح الذى حدثت عليه وقائع التاريخ وهى ذات أثر فى توجيه البشر وبالتالي لها نفس الأثر على سير التاريخ و ذلك تبعا لنوع تفاعل الانسان مع بيئته و مواجهته لظروفها ومن هنا يلزم للمؤرخ ان يلم بجغرافية المنطقة التى يريد دراستها و الظروف و الظواهر الجغرافية التى تسودها و تؤثر فيها ولقد بلغ من أهمية الجغرافيا ان ظهرت نظرية لتفسير حركة التاريخ عن طريق الجغرافيا .
ولا يمكن للباحث فى التاريخ ان يستغنى عن الدراسات الجغرافية فى كافة فروعها مثل الجغرافيا الاقتصادية و السياسية و البشرية و الإنتاج ، فالباحث فى التاريخ الاقتصادي مثلا عليه ان يعرف مناطق الإنتاج و نوع التربة و أنواع الغلات و ظروف نموها وموسمها لان الباحث سوف يربط ذلك بالسياسة الاقتصادية .
وإذا أراد باحث دراسة التوجهات السياسية لبلد ما فسوف يجد ان الطبيعة الجغرافية تتحكم فى هذه التوجهات لحد كبير فمثلا امتداد نهر النيل من بلاد الحبشة يفرض على مصر علاقات معينة و خاصة بينها و بين دول حوض النيل .
ومما يوضح لنا أثر الجغرافيا فى تغيير مجرى التاريخ ان البحر كان السبب الرئيسي الذى أعاق تقدم تيمورلنك عن التقدم بعد ان هزم بايزيد الأول فى موقعة أنقرة 1402 و بذلك لم يتمكن من القضاء على الدولة العثمانية الناشئة و سرعان ما استعادت قوتها وأدت للشرق الأدنى دورها التاريخي فى مرحلة قوتها .
كذلك ساعدت العواصف و الأنواء الأسطول الإنجليزي على التغلب على ألا رمادا الأسبانية 1588 مما أدى إلى فرض إنجلترا لسيطرتها على البحار وارتفاع شأنها .
و سهول روسيا الواسعة و شتاؤها القارس كانت عوامل أدت إلى فشل حملة نابليون بونابرت عليها 1812 كذلك الحال بالنسبة لزحف جحافل هتلر عام 1941 م.
و لقد ارتبط تاريخ العديد من الأقطار بموقعها الجغرافي و ظروفها الطبيعية فمثلا موقع مصر فى الركن الشمالي الشرقي من قارة أفريقيا و سواحلها المطلة على البحرين المتوسط والأحمر كان هذا عامل مؤثر فى اتصال مصر المستمر بالحضارات التى نشأت فى حوض المتوسط و على سواحله بالإضافة إلى تحكمها فى طرق التجارة بين الشرق و الغرب عبر البحرين المتوسط و الأحمر .
وفى السهول الخصبة و الوديان كوادي النيل و دجلة و الفرات قامت أقدم و اعرق الحضارات البشرية التى عرفها التاريخ الإنساني , أما البيئات الجبلية و الصحراوية فهي بيئات طاردة للسكان تدفع الانسان للرحيل فمثلا الطبيعة الجبلية لبلاد اليونان أدت من الناحية السياسة إلى تكوين دولة المدينة وأدت كذلك إلى هجرة اليونانيين و تكوينهم لمستعمرات خارج بلاد اليونان .
والعوامل الجغرافية المختلفة تؤثر فى نشاط الانسان كما تؤثر فى طباعه و أخلاقه ومزاجه و فى شحذ ذهنه .
من كل ما سبق يتضح مدى أهمية الجغرافيا كعلم مساعد لدراسة التاريخ فى الواقع أحيانا أرى ان التاريخ والجغرافيا شريكان متساويان فى دراسة الانسان و تاريخه .
3- علم الاقتصاد و الاقتصاد السياسى
هما من العلوم الأساسية التى تخدم دراسة التاريخ فالعوامل الاقتصادية و توزيع الثروة بين الطبقات و كذلك وسائل الإنتاج ونوعه وأسلوب التوزيع للثروة و الاستهلاك كلها عوامل حاسمة و لها دورها فى تشكيل نوع الدولة وطبيعة النظم فيها والطبقة الحاكمة و أجهزتها و قوانينها إلى غير ذلك من العوامل الهامة فى تفسير التاريخ تفسيرا علميا لفترة معينة أو لمنطقة معينة من تاريخ البشرية والجدير بالذكر أيضا ان هناك مدرسة فسرت وقائع التاريخ على أساس اقتصادي بحت ومن ضمن أقوال هذه المدرسة ان تاريخ البشرية كله ما هو إلا تاريخ البحث عن طعام .
و يتضح أهمية هذا العلم من هذا المثال فمثلا إذا كانت الزراعة هى النشاط الأساسي للاقتصاد فى بلد ما فسوف نجد ان الطبقات الاجتماعية الأساسية فى هذا البلد تتكون من طبقتين هما الملاك و المستأجرين وسوف نجد ان طبقة الملاك وخاصة الكبار منهم يتميزون فى المجتمع و تراهم يمارسون النشاط السياسى و يدخلون فى السلطات التشريعية و التنفيذية و يوجهون سياسة الدولة الداخلية والخارجية ، و هذا يدخل فى باب الاقتصاد السياسى الذى يبحث عن النظام السياسى الأمثل لادارة شئون الدولة حسب الاقتصاد الأساسي لها و القوى الاجتماعية فيها .
يتبع