الرئيسية
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
إيطاليا رائدة النهضة
النهضة الأوربية عصر قائم بذاته، فهو عصر الآداب البديعة والفنون الخلاقة، عصر أنهيار القيم القديمة وتصدع جدران التقليد والأتباع، عصر العلم الجديد والقيم الجديدة، عصر المغامرة والإستكشافات الجغرافية، عصر التحول والأنتقال من العصور المظلمة الي عصور الحداثة والأنوار، عصر النبل والوفاء والمرح والجدية، ولكنه أيضاً عصر الأستبداد والغدر والخيانة، وعصر الآلام والتهكم.
إن مظاهر النهضة لم تقتصر علي بلد أوربي دون سواه، ولاجري تطورها أو ذبولها بذات الوتيرة والنمط نفسه، فقد تباينت هذه المظاهر بحسب ظروف كل بلد من تلك البلدان، إلا أنه يمكن القول بوجود نوع من الإجماع العام علي أساس أن إيطاليا مهد النهضة الأوربية، وفيها بدأت الحركة الإنسانية التي رفعت راية النهضة وجعلت من الإنسان محور الآداب والفنون والعلوم والفلسفة والأخلاق.
مهدت للنهضة في إيطاليا عوامل عديدة سجلت لها السبق علي باقي الأقطار الأوربية، حيث كان لها من الخصال المهمة ما تمثل في حركة إحياء العلوم والآداب القديمة، وظهور اللغة الإيطالية الحديثة، مع رغبة عارمة في التجديد خاصة في مجال الآداب والفنون الجميلة، الأمر الذي أمتد الي غربي أوربا الذي نهد إلي معارج النهضة حتي بزّ إيطاليا في ما بعد في رحلات استكشاف العالم الجديد، والأصلاح الديني، والتفوق العلمي والسيطرة علي زمام أمور العالم، غير أن إيطاليا تبقي الأرض التي ظهرت فيها أفكار النهضة قبل غيرها بفعل مجموعة عوامل متفاعلة ومتداخلة:
أولاً: ملتقي العالم القديم
أدي الموقع الجغرافي لإيطاليا دوراً حاسماً في التمهيد لنهضتنا، حيث إنها تشكل ملتقي الطرق المؤدية إلي العالم القديم ، فهى تطل علي البحر المتوسط في وسطه تقريباً، وتتوسط بين الأندلس وشرق البحر المتوسط حيث الحضارة الإسلامية، وبين بيزنطة "القسطنطينية" عاصمة الامبراطورية البيزنطية، فنهلت من علوم جامعات ومعاهد الأندلس الشيء الكثير، ولاسيما تمثلها لأفكار إبن رشد العقلية وشيوع الرشدية في أوساطها الفكرية، وأستفادت كثيراً من علوم العرب وآدابهم والتي انتقلت إليها من طريق صقلية وأثناء الحروب الصليبية مع الفلول المندحرة للصليبيين، وتجلي ذلك واضحاً في كتابات دانتي وبيكاشيو علي سبيل التمثيل لا الحصر، ناهيك عما أفادته من خزائن علوم الإغريق التي انتقلت إليها من بيزنطة ومن الشرق.
أعطي هذا الموقع لإيطاليا أهمية اقتصادية بوصفها مراكز التبادل التجاري بين الغرب والشرق، وقام التجار الطليان بدور الوسيط، فحملوا أنواع السلع من الحرير والجواهر والمسكوكات الذهبية والعاج والتوابل .. الخ من موانيء الإسكندرية ويافا وعكا والقسطنطينية إلي الموانيء الإيطالية مثل جنوا وفلورنسا والبندقية؛ مما ساعد علي زيادة الثروات لدي أبناء المدن الإيطالية، فيما راحت إيطاليا تنقل تلك البضائع المستوردة من الشرق إلي غربي أوربا بالطرق البرية، ثم مخروا عباب البحر عبر مضيق جبل طارق إلي انجلترا وبحر الشمال، ثم يعودون إلي سواحل شرق البحر المتوسط محملين بالأصواف والجلود والكتان والفرو والذهب الخام والفضة .. الخ
هذه الثروة المتنامية ساعدت علي انحلال العلاقات الإقطاعية في إيطاليا قبل غيرها، فيما بدأت بوادر ازدهار النظام الرأسمالي، وظهور متطلبات المجتمع الجديد.
أدي هذا التحول الجديد إلي اهتزاز الحياة الاجتماعية، وتغير وسائل العمل والعيش، فيما تمظهرت إيطاليا بطبيعة تنزع إلي التجديد في كل شيء، فأقيمت الجسور علي الأنهار، وجددت الطرق الرومانية القديمة، كما فتحت طرق أخري جديدة. ثم شرع بتقنين التعامل التجاري داخلياً وخارجياً مما أظهر الحاجة إلي الاتفاقيات الدولية، في حين بدأت تظهر بعض تكتلات التجار الذين أسسوا البنوك، ثم وضعت للعملة أسس للاستقرار والتداول الاعتيادي لم تشهد له إيطاليا مثيلاً.
ثانيًا: نمو المدن:
كالبندقية التي ازدهرت فيها صناعة الأقمشة وصناعة السفن التي تُعلِم علي ازدهار التجارة الخارجية، وفلورنسا حيث تقدمت فيها الصيرفة بشكل لافت للنظر، الأمر الذي أثر بشكل بين في الاقتصاديات الأوربية الأخري .. وهكذا ظهرت أولي المؤسسات ذات الطابع الرأسمالي علي الصعيد العالمي؛ مما شجع علي نمو سكان تلك المدن وتوسعها وثرائها. إن ازدهار الحضارة كان عاملاً محفزاً علي نمو الصناعات المختلفة في تلك المدن، فتكونت نتيجة لذلك نقابات للصناعيين، والتي تضامنت بدورها مع نقابات التجاريين، فكونت تجمعاً سيطر علي الحياة الاقتصادية في تلك المدن، ودعم تقدمها الاقتصادي والاجتماعي.
وتمتعت إيطاليا بالسلام لمدة طويلة، الأمر الذي هيأ للإيطاليين جواً من الراحة والدعة ورغيد العيش، ساعد كثيراً في انغماسهم في الدراسة والبحث والتذوق والتحرر والتفاؤل، وتميزت إيطاليا بقيام حكومات مستنيرة ارتبطت بالصناعة والتجارة مثل أسرة مديتشي في فلورنسا وباقي المدن، وراحت تلك العوائل الحاكمة تتسابق في تشجيع الآداب والفنون وتدعيم التجارة والصناعة.
ثالثًا: علوم العرب
وشكلت إيطاليا حلقة وصل ثقافية مهمة بين الشرق والغرب كما ذكرنا آنفاً، وبشكل خاص في مرحلة الحروب الصليبية التي اتفق أكثر المؤرخين علي تأثيرها الجلي في نقل مقومات الحضارة الإسلامية إلي الغرب، وتحديداً في مدينة جنوا الإيطالية التي كانت أكثر المدن بروزاً في هذا المجال، حيث أقامت لها في كل من سوريا وفلسطين مراكز تجارية، تسربت من خلالها علوم العرب ونظمهم الاجتماعية والحياتية إلي إيطاليا أولاً ثم إلي باقي الأقطار الأوربية.
ومن العوامل الاجتماعية التي أدت إلي سبق إيطاليا في مضمار الحضارة كون طبيعة الأهالي فيها تميل للحياة والجمال والتمتع، وكرههم للحروب التي يتركونها للمرتزقة، وترافق ذلك مع رخائهم الاقتصادي، وجمال الطبيعة، الأمر الذي شجعهم علي التذوق والإبداع، فضلاً علي التبدل الذي حصل في حياتهم الاجتماعية بعد نفورهم من رتابة حياة الفلاح التي تتميز بالدورة الاقتصادية الطويلة فيما تعتمد أرباح عمله علي الأقدار، ويتسم عمله بالإجهاد حيث يستمر من طلوع الشمس إلي غروبها، وإقبالهم علي حياة التاجر التي تتميز بقلة صعوبة العمل، وله من الوقت ما يسمح له بتبادل الآراء مع الآخرين والقراءة والتنزه والتأمل. بالأضافة إلي أرباحه الطائلة المبنية علي حسابات السوق الواقعية .. وهكذا غلبت روح المدينة القائمة علي التمتع بالحياة والاهتمام بالإنسان حتي سادت المدن الإيطالية.
رابعًا: العامل المعنوى:
إن إيطاليا تعد مهداً للحضارة الرومانية القديمة وثقافتها التي أعطت التطور النهضوي حقنة معنوية كبيرة؛ فلقد عادت أنظار الطليان إلي آثار الرومان الماثلة أمامهم، تستوحي منها، ثم انتقلت إلي آثار الإغريق التي تناغمت مع طبيعة الإيطاليين تستنبط منها، مما تحول إلي حافز معنوي مهم لرجال النهضة، وظهر تأثير ذلك في أفكارهم وآدابهم وفنونهم.
خامسًا: العامل الدينى:
فإيطاليا مقر الكنيسة الكاثوليكية وعاصمة البابوية وقبلة العالم المسيحي الغربي، ومن ثم كان الإصلاح الديني الكاثوليكي وتطوير الكنيسة قد أنطلق منها، وما يشكله ذلك من رأسمال رمزي يثير اعتزاز الإيطاليين واعتدادهم بأنفسهم، ودرجت الأمم الأوربية علي جباية الأموال إلي عاصمة البابوية كالتزام ديني مقدس؛ فكان ذلك مدعاة لبعض البابوات المستنيرين في أن ينفقوا من تلك الأموال علي نشر العلم، وإنشاء المكتبات، وجمع المخطوطات وأقامة الجامعات، بل وإنشاء المتاحف التي تضم تحفًا فنية رائعة ونادرة، مما دفع هؤلاء البابوات في طريق المنافسة مع الكثير من الأمراء في رعاية العلوم والآداب والفنون.
وفي مجال اللغة والأدب قد عُرفت إيطاليا بروعة طبيعتها التي أغنت لغتها الدارجة، ولم يزدهر الأدب فيها حتي كتب باللغة الدارجة. هذا التحول من اللغة اللاتينية إلي اللغة الشعبية، صار مصدر طاقة جياشة للإبداعات الخلاقة فيها في حقول الفنون والآداب التي تفيض من مكنونات تنطوي علي أحاسيس مرهفة سريعة التغير والتطور بخلاف النتاجات العلمية والتقنية التي تحتاج الي زمن طويل.
كذلك نبغ الإيطاليون قبل غيرهم من الأوربيين في ميدان الفنون الجميلة، وساهموا في عصر النهضة بنتاجات ذات قيمة فنية عالية، وازدهرت تلك الفنون علي أيديهم ثم انتشرت إلي بقية أنحاء أوربا، وسار الفن من الاقتباس صوب الابتكار متأثراً بروح العلم وبالحياة العلمية، وتحرر من تقاليد القرون الوسطي، فيما استوحي من الفن الإغريقي والروماني، وانتهي إلي نوابغ الفن الإيطالي العظام كدافنشي وأنجيلو.
وبهذا فقد سجلت إيطاليا قصب السبق بالنسبة لعموم أوربا في ميدان النهضة نتيجة للعوامل مارة الذكر، وتعاضد مقوماتها، وتنامي تواشجها، فقد قامت النهضة في إيطاليا قبل غيرها ثم ساحت منها إلي بقية أقطار أوربا.
في خلال عصر النهضة قام عدد كبير من العلماء والفنانين الأوروبيين في إيطاليا خاصة بدراسة علوم بلاد اليونان وروما القديمة وفنونهما. أراد هؤلاء بعث روح الثقافتين الإغريقية والرومانية في أعمالهم الفنية والأدبية والفلسفية. وكانت الثقافتان اليونانية والرومانية القديمتان تعرفان غالبًا بالتراث الكلاسيكي. وكان العرب قد أولوا اهتمامًا بالعصور الإغريقية والرومانية، وبخاصة في مجال العلوم، وكانت مثل هذه المعارف قد أصبحت مفقودة في أوروبا؛ لذلك كان الإسهام العربي الكبير في نقل أغلب إنجازات الإغريق والرومان وما أضافوه من المخترعات والعلوم هو الأساس الذي فجر النهضة في أوروبا، وكان عصر النهضة بعثًا لهذه الثقافات، ولذلك يعرف أيضًا بأنه إحياء العصور القديمة أو إحياء المعرفة.
تداخل عصر النهضة مع نهاية حقبة في التاريخ الأوروبي تعرف بالعصور الوسطى، بدأت في القرن الخامس الميلادي. رفض قادة عصر النهضة عددًا كبيرًا من مواقف العصور الوسطى وأفكارها. فقد اعتقد مفكرو أوروبا في العصور الوسطى على سبيل المثال بأن الواجب الرئيسي للناس هو الصلاة والاهتمام بخلاص أرواحهم، وأن المجتمع مملوء بالمغريات الشريرة. لكن مفكري عصر النهضة ركزوا من ناحية أخرى على مسؤوليات الناس وواجباتهم تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه، واعتقدوا أن المجتمع يستطيع أن يجعل الناس متحضرين أكثر مما يجعلهم أشرارًا.
كانت دراسة اللاهوت، في العصور الوسطى، أكثر فروع المعرفة أهمية. لكن عددًا كبيرًا من مفكري عصر النهضة أعاروا اهتمامًا أكبر للدراسات الإنسانية. ومحَّصوا الإنجازات الكبرى للثقافات المختلفة، وبخاصة ثقافتي اليونان وروما القديمة، وتأملوا طويلاً مؤلفات العرب وشروحهم على ما نقلوه.
رسم فنانو العصور الوسطى أشكالاً إنسانية كانت تبدو متجهمة وغير واقعية، وغالبًا ما تخدم أهدافًا دينية رمزية. لكن فناني عصر النهضة ركّزوا على جمال الجسم الإنساني. وحاولوا أن يجذبوا الانتباه إلى سمو الكائنات الإنسانية وعظمتها في رسومات ومنحوتات نابضة بالحياة.
جرت المتغيرات التي أحدثها عصر النهضة تدريجيًا دون أن تحدث تأثيرًا مباشرًا على معظم الأوروبيين. فعندما وصلت هذه الحركة إلى أوجها، ما بين أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلاديين، لم تكن الأفكار الجديدة التي جاءت بها مقبولة إلا من عدد قليل من الناس.
وقد ثبت أن تأثير عصر النهضة في الأجيال التالية، كان كبيرًا جدًا، في ميادين عديدة، بدءًا من الفن والأدب إلى التربية والعلوم السياسية والتاريخ. وبناء على هذه الحقيقة وافق معظم العلماء ـ منذ مئات السنين ـ على أن الحقبة الحديثة من التاريخ الإنساني بدأت مع عصر النهضة.
==========إيطاليا رائدة النهضة
النهضة الأوربية عصر قائم بذاته، فهو عصر الآداب البديعة والفنون الخلاقة، عصر أنهيار القيم القديمة وتصدع جدران التقليد والأتباع، عصر العلم الجديد والقيم الجديدة، عصر المغامرة والإستكشافات الجغرافية، عصر التحول والأنتقال من العصور المظلمة الي عصور الحداثة والأنوار، عصر النبل والوفاء والمرح والجدية، ولكنه أيضاً عصر الأستبداد والغدر والخيانة، وعصر الآلام والتهكم.
إن مظاهر النهضة لم تقتصر علي بلد أوربي دون سواه، ولاجري تطورها أو ذبولها بذات الوتيرة والنمط نفسه، فقد تباينت هذه المظاهر بحسب ظروف كل بلد من تلك البلدان، إلا أنه يمكن القول بوجود نوع من الإجماع العام علي أساس أن إيطاليا مهد النهضة الأوربية، وفيها بدأت الحركة الإنسانية التي رفعت راية النهضة وجعلت من الإنسان محور الآداب والفنون والعلوم والفلسفة والأخلاق.
مهدت للنهضة في إيطاليا عوامل عديدة سجلت لها السبق علي باقي الأقطار الأوربية، حيث كان لها من الخصال المهمة ما تمثل في حركة إحياء العلوم والآداب القديمة، وظهور اللغة الإيطالية الحديثة، مع رغبة عارمة في التجديد خاصة في مجال الآداب والفنون الجميلة، الأمر الذي أمتد الي غربي أوربا الذي نهد إلي معارج النهضة حتي بزّ إيطاليا في ما بعد في رحلات استكشاف العالم الجديد، والأصلاح الديني، والتفوق العلمي والسيطرة علي زمام أمور العالم، غير أن إيطاليا تبقي الأرض التي ظهرت فيها أفكار النهضة قبل غيرها بفعل مجموعة عوامل متفاعلة ومتداخلة:
أولاً: ملتقي العالم القديم
أدي الموقع الجغرافي لإيطاليا دوراً حاسماً في التمهيد لنهضتنا، حيث إنها تشكل ملتقي الطرق المؤدية إلي العالم القديم ، فهى تطل علي البحر المتوسط في وسطه تقريباً، وتتوسط بين الأندلس وشرق البحر المتوسط حيث الحضارة الإسلامية، وبين بيزنطة "القسطنطينية" عاصمة الامبراطورية البيزنطية، فنهلت من علوم جامعات ومعاهد الأندلس الشيء الكثير، ولاسيما تمثلها لأفكار إبن رشد العقلية وشيوع الرشدية في أوساطها الفكرية، وأستفادت كثيراً من علوم العرب وآدابهم والتي انتقلت إليها من طريق صقلية وأثناء الحروب الصليبية مع الفلول المندحرة للصليبيين، وتجلي ذلك واضحاً في كتابات دانتي وبيكاشيو علي سبيل التمثيل لا الحصر، ناهيك عما أفادته من خزائن علوم الإغريق التي انتقلت إليها من بيزنطة ومن الشرق.
أعطي هذا الموقع لإيطاليا أهمية اقتصادية بوصفها مراكز التبادل التجاري بين الغرب والشرق، وقام التجار الطليان بدور الوسيط، فحملوا أنواع السلع من الحرير والجواهر والمسكوكات الذهبية والعاج والتوابل .. الخ من موانيء الإسكندرية ويافا وعكا والقسطنطينية إلي الموانيء الإيطالية مثل جنوا وفلورنسا والبندقية؛ مما ساعد علي زيادة الثروات لدي أبناء المدن الإيطالية، فيما راحت إيطاليا تنقل تلك البضائع المستوردة من الشرق إلي غربي أوربا بالطرق البرية، ثم مخروا عباب البحر عبر مضيق جبل طارق إلي انجلترا وبحر الشمال، ثم يعودون إلي سواحل شرق البحر المتوسط محملين بالأصواف والجلود والكتان والفرو والذهب الخام والفضة .. الخ
هذه الثروة المتنامية ساعدت علي انحلال العلاقات الإقطاعية في إيطاليا قبل غيرها، فيما بدأت بوادر ازدهار النظام الرأسمالي، وظهور متطلبات المجتمع الجديد.
أدي هذا التحول الجديد إلي اهتزاز الحياة الاجتماعية، وتغير وسائل العمل والعيش، فيما تمظهرت إيطاليا بطبيعة تنزع إلي التجديد في كل شيء، فأقيمت الجسور علي الأنهار، وجددت الطرق الرومانية القديمة، كما فتحت طرق أخري جديدة. ثم شرع بتقنين التعامل التجاري داخلياً وخارجياً مما أظهر الحاجة إلي الاتفاقيات الدولية، في حين بدأت تظهر بعض تكتلات التجار الذين أسسوا البنوك، ثم وضعت للعملة أسس للاستقرار والتداول الاعتيادي لم تشهد له إيطاليا مثيلاً.
ثانيًا: نمو المدن:
كالبندقية التي ازدهرت فيها صناعة الأقمشة وصناعة السفن التي تُعلِم علي ازدهار التجارة الخارجية، وفلورنسا حيث تقدمت فيها الصيرفة بشكل لافت للنظر، الأمر الذي أثر بشكل بين في الاقتصاديات الأوربية الأخري .. وهكذا ظهرت أولي المؤسسات ذات الطابع الرأسمالي علي الصعيد العالمي؛ مما شجع علي نمو سكان تلك المدن وتوسعها وثرائها. إن ازدهار الحضارة كان عاملاً محفزاً علي نمو الصناعات المختلفة في تلك المدن، فتكونت نتيجة لذلك نقابات للصناعيين، والتي تضامنت بدورها مع نقابات التجاريين، فكونت تجمعاً سيطر علي الحياة الاقتصادية في تلك المدن، ودعم تقدمها الاقتصادي والاجتماعي.
وتمتعت إيطاليا بالسلام لمدة طويلة، الأمر الذي هيأ للإيطاليين جواً من الراحة والدعة ورغيد العيش، ساعد كثيراً في انغماسهم في الدراسة والبحث والتذوق والتحرر والتفاؤل، وتميزت إيطاليا بقيام حكومات مستنيرة ارتبطت بالصناعة والتجارة مثل أسرة مديتشي في فلورنسا وباقي المدن، وراحت تلك العوائل الحاكمة تتسابق في تشجيع الآداب والفنون وتدعيم التجارة والصناعة.
ثالثًا: علوم العرب
وشكلت إيطاليا حلقة وصل ثقافية مهمة بين الشرق والغرب كما ذكرنا آنفاً، وبشكل خاص في مرحلة الحروب الصليبية التي اتفق أكثر المؤرخين علي تأثيرها الجلي في نقل مقومات الحضارة الإسلامية إلي الغرب، وتحديداً في مدينة جنوا الإيطالية التي كانت أكثر المدن بروزاً في هذا المجال، حيث أقامت لها في كل من سوريا وفلسطين مراكز تجارية، تسربت من خلالها علوم العرب ونظمهم الاجتماعية والحياتية إلي إيطاليا أولاً ثم إلي باقي الأقطار الأوربية.
ومن العوامل الاجتماعية التي أدت إلي سبق إيطاليا في مضمار الحضارة كون طبيعة الأهالي فيها تميل للحياة والجمال والتمتع، وكرههم للحروب التي يتركونها للمرتزقة، وترافق ذلك مع رخائهم الاقتصادي، وجمال الطبيعة، الأمر الذي شجعهم علي التذوق والإبداع، فضلاً علي التبدل الذي حصل في حياتهم الاجتماعية بعد نفورهم من رتابة حياة الفلاح التي تتميز بالدورة الاقتصادية الطويلة فيما تعتمد أرباح عمله علي الأقدار، ويتسم عمله بالإجهاد حيث يستمر من طلوع الشمس إلي غروبها، وإقبالهم علي حياة التاجر التي تتميز بقلة صعوبة العمل، وله من الوقت ما يسمح له بتبادل الآراء مع الآخرين والقراءة والتنزه والتأمل. بالأضافة إلي أرباحه الطائلة المبنية علي حسابات السوق الواقعية .. وهكذا غلبت روح المدينة القائمة علي التمتع بالحياة والاهتمام بالإنسان حتي سادت المدن الإيطالية.
رابعًا: العامل المعنوى:
إن إيطاليا تعد مهداً للحضارة الرومانية القديمة وثقافتها التي أعطت التطور النهضوي حقنة معنوية كبيرة؛ فلقد عادت أنظار الطليان إلي آثار الرومان الماثلة أمامهم، تستوحي منها، ثم انتقلت إلي آثار الإغريق التي تناغمت مع طبيعة الإيطاليين تستنبط منها، مما تحول إلي حافز معنوي مهم لرجال النهضة، وظهر تأثير ذلك في أفكارهم وآدابهم وفنونهم.
خامسًا: العامل الدينى:
فإيطاليا مقر الكنيسة الكاثوليكية وعاصمة البابوية وقبلة العالم المسيحي الغربي، ومن ثم كان الإصلاح الديني الكاثوليكي وتطوير الكنيسة قد أنطلق منها، وما يشكله ذلك من رأسمال رمزي يثير اعتزاز الإيطاليين واعتدادهم بأنفسهم، ودرجت الأمم الأوربية علي جباية الأموال إلي عاصمة البابوية كالتزام ديني مقدس؛ فكان ذلك مدعاة لبعض البابوات المستنيرين في أن ينفقوا من تلك الأموال علي نشر العلم، وإنشاء المكتبات، وجمع المخطوطات وأقامة الجامعات، بل وإنشاء المتاحف التي تضم تحفًا فنية رائعة ونادرة، مما دفع هؤلاء البابوات في طريق المنافسة مع الكثير من الأمراء في رعاية العلوم والآداب والفنون.
وفي مجال اللغة والأدب قد عُرفت إيطاليا بروعة طبيعتها التي أغنت لغتها الدارجة، ولم يزدهر الأدب فيها حتي كتب باللغة الدارجة. هذا التحول من اللغة اللاتينية إلي اللغة الشعبية، صار مصدر طاقة جياشة للإبداعات الخلاقة فيها في حقول الفنون والآداب التي تفيض من مكنونات تنطوي علي أحاسيس مرهفة سريعة التغير والتطور بخلاف النتاجات العلمية والتقنية التي تحتاج الي زمن طويل.
كذلك نبغ الإيطاليون قبل غيرهم من الأوربيين في ميدان الفنون الجميلة، وساهموا في عصر النهضة بنتاجات ذات قيمة فنية عالية، وازدهرت تلك الفنون علي أيديهم ثم انتشرت إلي بقية أنحاء أوربا، وسار الفن من الاقتباس صوب الابتكار متأثراً بروح العلم وبالحياة العلمية، وتحرر من تقاليد القرون الوسطي، فيما استوحي من الفن الإغريقي والروماني، وانتهي إلي نوابغ الفن الإيطالي العظام كدافنشي وأنجيلو.
وبهذا فقد سجلت إيطاليا قصب السبق بالنسبة لعموم أوربا في ميدان النهضة نتيجة للعوامل مارة الذكر، وتعاضد مقوماتها، وتنامي تواشجها، فقد قامت النهضة في إيطاليا قبل غيرها ثم ساحت منها إلي بقية أقطار أوربا.
في خلال عصر النهضة قام عدد كبير من العلماء والفنانين الأوروبيين في إيطاليا خاصة بدراسة علوم بلاد اليونان وروما القديمة وفنونهما. أراد هؤلاء بعث روح الثقافتين الإغريقية والرومانية في أعمالهم الفنية والأدبية والفلسفية. وكانت الثقافتان اليونانية والرومانية القديمتان تعرفان غالبًا بالتراث الكلاسيكي. وكان العرب قد أولوا اهتمامًا بالعصور الإغريقية والرومانية، وبخاصة في مجال العلوم، وكانت مثل هذه المعارف قد أصبحت مفقودة في أوروبا؛ لذلك كان الإسهام العربي الكبير في نقل أغلب إنجازات الإغريق والرومان وما أضافوه من المخترعات والعلوم هو الأساس الذي فجر النهضة في أوروبا، وكان عصر النهضة بعثًا لهذه الثقافات، ولذلك يعرف أيضًا بأنه إحياء العصور القديمة أو إحياء المعرفة.
تداخل عصر النهضة مع نهاية حقبة في التاريخ الأوروبي تعرف بالعصور الوسطى، بدأت في القرن الخامس الميلادي. رفض قادة عصر النهضة عددًا كبيرًا من مواقف العصور الوسطى وأفكارها. فقد اعتقد مفكرو أوروبا في العصور الوسطى على سبيل المثال بأن الواجب الرئيسي للناس هو الصلاة والاهتمام بخلاص أرواحهم، وأن المجتمع مملوء بالمغريات الشريرة. لكن مفكري عصر النهضة ركزوا من ناحية أخرى على مسؤوليات الناس وواجباتهم تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه، واعتقدوا أن المجتمع يستطيع أن يجعل الناس متحضرين أكثر مما يجعلهم أشرارًا.
كانت دراسة اللاهوت، في العصور الوسطى، أكثر فروع المعرفة أهمية. لكن عددًا كبيرًا من مفكري عصر النهضة أعاروا اهتمامًا أكبر للدراسات الإنسانية. ومحَّصوا الإنجازات الكبرى للثقافات المختلفة، وبخاصة ثقافتي اليونان وروما القديمة، وتأملوا طويلاً مؤلفات العرب وشروحهم على ما نقلوه.
رسم فنانو العصور الوسطى أشكالاً إنسانية كانت تبدو متجهمة وغير واقعية، وغالبًا ما تخدم أهدافًا دينية رمزية. لكن فناني عصر النهضة ركّزوا على جمال الجسم الإنساني. وحاولوا أن يجذبوا الانتباه إلى سمو الكائنات الإنسانية وعظمتها في رسومات ومنحوتات نابضة بالحياة.
جرت المتغيرات التي أحدثها عصر النهضة تدريجيًا دون أن تحدث تأثيرًا مباشرًا على معظم الأوروبيين. فعندما وصلت هذه الحركة إلى أوجها، ما بين أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلاديين، لم تكن الأفكار الجديدة التي جاءت بها مقبولة إلا من عدد قليل من الناس.
وقد ثبت أن تأثير عصر النهضة في الأجيال التالية، كان كبيرًا جدًا، في ميادين عديدة، بدءًا من الفن والأدب إلى التربية والعلوم السياسية والتاريخ. وبناء على هذه الحقيقة وافق معظم العلماء ـ منذ مئات السنين ـ على أن الحقبة الحديثة من التاريخ الإنساني بدأت مع عصر النهضة.
ليل الغربة
