[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
صورة المشرق العربي من خلال رحلات الجزائريين في العهد العثماني
سميرة أنساعد : مجلة التراث العربي - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب - دمشق العدد 97 - السنة الرابعة والعشرون - آذار 2005 - آذار 1425
تقديم:
يرتبط مفهوم الرحلة في الأصل اللغوي العربي، بركوب الإبل، أو الجياد ونحوهما، وترويضها حتى تصير "راحلة"، وقد نقل ابن منظور عن أبي زيد قوله: "أرحل الرجل البعير(...) إذا أخذ بعيراً صعباً، فجعله راحلة"(1)، ثم يضيف ابن منظور: "الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله.."(2) ونستنتج من هذا القول، أن تحقيق متعة الاكتشاف من ناحية والرغبة في مكابدة الشدائد، والتغلب عليها من ناحية أخرى، هما من الأضداد التي ينشدها الإنسان في الرحلة، ويختم ابن منظور القول: "وقال بعضهم: الرحلة الارتحال، والرحلة بالضم الوجه الذي تأخذ فيه وتريده"(3).
وتختلف الرحلات باختلاف الأغراض البشرية، التي تستدعي القيام بها، غير أن هناك أغراضاً أخرى استدعت كتابتها بعد ذلك، فالرحالون لم يهتموا برحلاتهم إلا في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، واستمر التأليف فيها إلى أن أصبحت فناً أدبياً مميزاً، حدده الباحثون حديثاً، وصنفوه ضمن أنماط السرد الذي يتخذ الرحلة موضوعاً له، لكن فريقاً آخر من الباحثين، يرون أن لهذا الفن قيمتين: الأولى علمية، والأخرى أدبية؛ فهو يتناول الكثير من نواحي الحياة الواقعية: "إذ تتوفر فيه مادة وفيرة مما يهم المؤرخ والجغرافي وعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخي الآداب والأديان والأساطير"(4).
وهذا يعني، أن أي رحلة كي تعد فناً، لا بد أن تحمل في الوقت نفسه هاتين القيمتين، أعني العلمية والأدبية، لكن نسبة إحداهما إلى الأخرى، متفاوتة في الرحلات العربية على الأقل، فبعض الرحلات يغلب عليه الجانب العلمي، الجغرافي والتاريخي، وبعضها الآخر يغلب عليه الجانب الذاتي أو الأدبي الوجداني.
وقد كان اهتمام الرحالين بتدوين رحلاتهم، كبيراً جداً، ويضيق بنا في هذا المحل تعداد كل المؤلفين في الرحلة من جغرافيين ومؤرخين وأدباء، وغيرهم من المتخصصين، ونخص بالذكر أشهرهم، كأحمد بن يعقوب (ت. 284هـ)، مؤلف كتاب "البلدان"، وأحمد بن يحيى البلاذري (ت. 279هـ)، صاحب كتاب "فتوح البلدان"، والمقدسي (380هـ) مؤلف "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، كما تواصل تأليف الرحلات ذات الطابع الجغرافي والتاريخي وعظم، وخاصة على يد أمثال البكري، وابن جبير الأندلسي، وابن بطوطة المغربي، وأبي القاسم بن يوسف التجيبي التلمساني، وعبد الرحمن بن خلدون(5).
وقد ألف الرحالون المغاربة المذكورون رحلاتهم، في الفترة ما بين القرنين الرابع والتاسع الهجريين، وبعد هذه الفترة، شهدت الرحلات المغربية بعض التراجع في التأليف، وذلك لاشتداد وطأة الحروب بين المسلمين والأعداء الأوروبيين كالإسبانيين والبرتغاليين، ولكن الرحلات ما لبثت أن عادت إلى نشاطها ورواجها المعهود في القرن الحادي عشر وما بعده، والمؤسف أن الكثير منها تعرض إلى الضياع ولاسيما الرحلات الجزائرية، وهي حالة سببتها ظروف وعوامل مرت بها بلادنا، مثل الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي كانت مستمرة في هذا القطر، وكذلك نظام الحكم الذي ظل عسكرياً طوال العهد العثماني، وبعده خلال الحكم الفرنسي، وهذا ما جعل الحركة العلمية والثقافية تتأخر، والاهتمام بالتعليم يقل، وقد تركز في المساجد والزوايا فقط، التي لولاها لكان مصير اللغة العربية مجهولاً في الجزائر.
ويبقى استمرار التّأليف الأدبي في موضوع الرّحلة عند المغاربة. ولاسيما موضوع الرّحلات إلى المشرق عامّة، والحجاز خاصّة. دليلاً واضحاً، على أنّ المشرق لا يزال محط أنظار المغاربة، ويسترعي اهتمامهم. لما تضمّه بيئة المشرق من معالم روحيّة ودينيّة، تُقصد للعبادة والتبرّك والاعتبار، ومن علماء كبار في مختلف العلوم. ولما يحسّه الرّحالة من روابط تاريخيّة وحضاريّة، واشتراك في الأهل والنسب أحياناً كثيرة، فالإحساس بالوحشة والاغتراب والحزن يكاد ينعدم عند المغربيّ، وهو يزور المشرق، أو يمكث فيه. ولاسيما عند مجاورته الرّسول (، في الحجاز.
صورة المشرق العربي من خلال رحلات الجزائريين في العهد العثماني
سميرة أنساعد : مجلة التراث العربي - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب - دمشق العدد 97 - السنة الرابعة والعشرون - آذار 2005 - آذار 1425
تقديم:
يرتبط مفهوم الرحلة في الأصل اللغوي العربي، بركوب الإبل، أو الجياد ونحوهما، وترويضها حتى تصير "راحلة"، وقد نقل ابن منظور عن أبي زيد قوله: "أرحل الرجل البعير(...) إذا أخذ بعيراً صعباً، فجعله راحلة"(1)، ثم يضيف ابن منظور: "الراحلة من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله.."(2) ونستنتج من هذا القول، أن تحقيق متعة الاكتشاف من ناحية والرغبة في مكابدة الشدائد، والتغلب عليها من ناحية أخرى، هما من الأضداد التي ينشدها الإنسان في الرحلة، ويختم ابن منظور القول: "وقال بعضهم: الرحلة الارتحال، والرحلة بالضم الوجه الذي تأخذ فيه وتريده"(3).
وتختلف الرحلات باختلاف الأغراض البشرية، التي تستدعي القيام بها، غير أن هناك أغراضاً أخرى استدعت كتابتها بعد ذلك، فالرحالون لم يهتموا برحلاتهم إلا في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، واستمر التأليف فيها إلى أن أصبحت فناً أدبياً مميزاً، حدده الباحثون حديثاً، وصنفوه ضمن أنماط السرد الذي يتخذ الرحلة موضوعاً له، لكن فريقاً آخر من الباحثين، يرون أن لهذا الفن قيمتين: الأولى علمية، والأخرى أدبية؛ فهو يتناول الكثير من نواحي الحياة الواقعية: "إذ تتوفر فيه مادة وفيرة مما يهم المؤرخ والجغرافي وعلماء الاجتماع والاقتصاد ومؤرخي الآداب والأديان والأساطير"(4).
وهذا يعني، أن أي رحلة كي تعد فناً، لا بد أن تحمل في الوقت نفسه هاتين القيمتين، أعني العلمية والأدبية، لكن نسبة إحداهما إلى الأخرى، متفاوتة في الرحلات العربية على الأقل، فبعض الرحلات يغلب عليه الجانب العلمي، الجغرافي والتاريخي، وبعضها الآخر يغلب عليه الجانب الذاتي أو الأدبي الوجداني.
وقد كان اهتمام الرحالين بتدوين رحلاتهم، كبيراً جداً، ويضيق بنا في هذا المحل تعداد كل المؤلفين في الرحلة من جغرافيين ومؤرخين وأدباء، وغيرهم من المتخصصين، ونخص بالذكر أشهرهم، كأحمد بن يعقوب (ت. 284هـ)، مؤلف كتاب "البلدان"، وأحمد بن يحيى البلاذري (ت. 279هـ)، صاحب كتاب "فتوح البلدان"، والمقدسي (380هـ) مؤلف "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، كما تواصل تأليف الرحلات ذات الطابع الجغرافي والتاريخي وعظم، وخاصة على يد أمثال البكري، وابن جبير الأندلسي، وابن بطوطة المغربي، وأبي القاسم بن يوسف التجيبي التلمساني، وعبد الرحمن بن خلدون(5).
وقد ألف الرحالون المغاربة المذكورون رحلاتهم، في الفترة ما بين القرنين الرابع والتاسع الهجريين، وبعد هذه الفترة، شهدت الرحلات المغربية بعض التراجع في التأليف، وذلك لاشتداد وطأة الحروب بين المسلمين والأعداء الأوروبيين كالإسبانيين والبرتغاليين، ولكن الرحلات ما لبثت أن عادت إلى نشاطها ورواجها المعهود في القرن الحادي عشر وما بعده، والمؤسف أن الكثير منها تعرض إلى الضياع ولاسيما الرحلات الجزائرية، وهي حالة سببتها ظروف وعوامل مرت بها بلادنا، مثل الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي كانت مستمرة في هذا القطر، وكذلك نظام الحكم الذي ظل عسكرياً طوال العهد العثماني، وبعده خلال الحكم الفرنسي، وهذا ما جعل الحركة العلمية والثقافية تتأخر، والاهتمام بالتعليم يقل، وقد تركز في المساجد والزوايا فقط، التي لولاها لكان مصير اللغة العربية مجهولاً في الجزائر.
ويبقى استمرار التّأليف الأدبي في موضوع الرّحلة عند المغاربة. ولاسيما موضوع الرّحلات إلى المشرق عامّة، والحجاز خاصّة. دليلاً واضحاً، على أنّ المشرق لا يزال محط أنظار المغاربة، ويسترعي اهتمامهم. لما تضمّه بيئة المشرق من معالم روحيّة ودينيّة، تُقصد للعبادة والتبرّك والاعتبار، ومن علماء كبار في مختلف العلوم. ولما يحسّه الرّحالة من روابط تاريخيّة وحضاريّة، واشتراك في الأهل والنسب أحياناً كثيرة، فالإحساس بالوحشة والاغتراب والحزن يكاد ينعدم عند المغربيّ، وهو يزور المشرق، أو يمكث فيه. ولاسيما عند مجاورته الرّسول (، في الحجاز.