[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
موقع الجفاف في مناخ المغرب
د. محمد صباحي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية (شعبة الجغرافيا )
يعتبر الجفاف ظاهرة طبيعية توجد في مناطق معلومة بخاصياتها الجغرافية، وهي مرتبطة بأسباب كونية مناخية. فالجفاف لا يرتبط بمناخ معين أو بمنطقة ما، بل هو عبارة عن ظاهرة مناخية عامة تعرفها جميع أنواع المناخات. لكن حدتها وترددها يختلف من مناخ إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى. فهو ظاهرة مركبة تتداخل وتتفاعل فيها كثير من العوامل لا تنحصر في الظروف الجوية فحسب، بل تشمل أيضا البيئة الطبيعية والبيولوجية والبشرية.
يمكن تصنيف مناخ المغرب ضمن المناخ الجاف، حيث يتميز بدينامية متحركة على مستوى الزمان، والتي تطغى عليها سمات الجفاف أكثر من الرطوبة. ظاهرة تبدو مألوفة في الوضعية الهيدرومناخية، لكن ترددها منذ الثمانينات حتى اليوم، أصبح يطرح أكثر من علامة استفهام على مستقبل احتياطي الموارد المائية الذي يسير نحو الإنخفاض.
فالمغرب يتميز بسياق هيدرولوجي يطبعه غياب الانتظام في الكميات المتوفرة من المياه في الزمان والمكان. وإن كل المؤشرات توحي بتفاقم العجز الكمي للمياه بفعل تعاقب السنوات الجافة التي أضحت ذات أهمية في المناخ المغربي. ويشكل هذا عائقا ملموسا لمسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتهيئة المجال. " تعتبر فترات الجفاف التي يعرفها المغرب من فترة لأخرى والخصاص المتزايد في مخزونه المائي من بين المشاكل التي تعيق تنمية البلاد " .
1- مفهوم الجفاف وأنواعه:
لغويا كلمة الجفاف مشتقة من جف، ومعناه القحط الذي يصيب الأرض بسبب انحباس المطر. ويدل مصطلح الجفاف على عجز في الميزانية المائية العامة في منطقة محددة، خلال فترة زمنية معينة. هذا العجز ينتج عنه شح في كمية الموارد المائية الواردة عن التساقطات. إذاك تصبح الإمكانات المائية الآنية أقل بكثير عن ما كانت عليه سابقا.
إذا، الجفاف مفهوم يدل على سيادة فترة زمنية معينة طويلة أو قصيرة من الطقس الجاف، بحيث تؤدي حالة الجفاف المستمر إلى ظهور حاجة ماسة إلى الماء من قبل الإنسان والحيوان والنبات، فتبدو الأرض جافة ينعدم فيها الجريان السطحي للماء ونضوب العديد من الآبار والعيون.
ويساهم انحباس المطر لمدة طويلة في اتساع القحولة والتصحر. ويمكن اعتبار القحولة (جفاف دائم) ظاهرة طبيعية تعرف انطلاقا من معايير مناخية صرفة ناتجة عن العجز المائي الكبير أو نضوبه. وهي الحالة السائدة في المناطق الصحراوية وهوامشها. وفي نظر ريمون فيرون 1 : " أن مناخ الصحراء يتميز بانعدام التساقطات المطرية لسنين متتالية، لكنها قد تحدث وبشكل مفاجئ خلال أية فترة زمنية".
أما التصحر، فهو التحول الطارئ الذي يصيب الأراضي الزراعية في المناطق القاحلة والشبه قاحلة، أي تدهور قدرة الإنتاج البيولوجي للأرض بفعل نشاط الإنسان وشح في المياه. ويمكن اعتبار المناطق الجافة* وشبه جافة أكثر المناطق تعرضا لظاهرة الجفاف، بسبب قلة التساقطات المطرية. وإن مؤشر الامتداد المجالي للعجز المطري يعد أهم مقياس جغرافي لدراسة مظاهر الجفاف. ويمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من الجفاف، وهي كالآتي:
- الجفاف المناخــي: يعني أن كميات التساقطات المطرية والثلجية المحصل عليها في منطقة معينة تكون أقل من العادية، أي حدوث عجز في كمية التساقطات مقارنة مع المعدل. ويرتبط ذلك بارتفاع فترات التشميس ودرجات الحرارة، مما يؤدي إلى ارتفاع كمية التبخر والنتح.
ويمكن أن يتخذ الجفاف المناخي، شكل جفاف دائم (ما يصطلح عليه بالقحولة)، يمس المناطق الصحراوية وهوامشها. أو جفاف فصلي، يهم المناطق ذات المناخ المتوسطي إبان فصل الصيف والمناطق شبه المدارية أثناء فصل الشتاء. أو جفاف عرضي، يكون على شكل نوبات مفاجئة من الطقس الجاف والتي تهيمن خلال فترات داخل الموسم العادي للأمطار.
- الجفاف الهيدرولوجي: يراد به عجز حاد في الموارد المائية، نتيجة شح الأمطار. بحيث يلاحظ انخفاض كبير في صبيب الأودية وفي نزول مستوى المياه الباطنية عن مستواها العادي، وقد ينتهي الأمر بجفاف العيون والينابيع ونضوب مياه الآبار.
ويرتبط الجفاف الهيدرولوجي ارتباطا وثيقا بالجفاف المناخي، ذلك أن حدوث عجز كبير في كمية التساقطات ينجم عنه انخفاض في الموارد السطحمائية والباطنية. لكن في بعض الحالات بالرغم من هذا العجز يظل الجريان السطحمائي في وضعية عادية. ويفسر ذلك بوجود مدخرات مائية باطنية مهمة غير متأثرة بالجفاف المناخي، بحيث تستمر في تغذية الأودية بالموارد المائية.
- الجفاف الفلاحي : يأتي إما نتيجة ندرة التهاطلات المطرية، أو بفعل سوء توزيعها بين فصول السنة. وبالإمكان أن يظهر هذا النوع من الجفاف بالرغم من أهمية التساقطات إن هي جاءت متأخرة عن الدورة الزراعية أو العكس ( المقصود هنا الزراعة بالأراضي البورية). وهو ما يعني، أن الجفاف الفلاحي لا يتحدد بكمية الأمطار وحدها، وإنما كذلك بأسلوب التوزيع الفصلي للأمطار، ومدى مطابقته للمتطلبات المائية للمزروعات.
وللجفاف الفلاحي ارتباط وثيق بالجفاف المناخي، فانحباس المطر لمدة طويلة يؤدي إلى انخفاض في مخزون التربة من الماء، بل ومع مرور الوقت قد تجف، مما يتسبب في ذبول المزروعات وموتها. وتختلف حدة الجفاف الفلاحي وتأثيراته على المزروعات حسب نوع المناخ، ووثيرة نظامه المطري، وكذا حسب الفصول التي يحدث فيها.
2- أهم فتر ات الجفاف التي عرفها مناخ المغرب:
إذا تناولنا البعد الطبيعي نجد أن الجفاف ثابت بنيوي في تاريخ المغرب ومستقبله، فهو ظاهرة قديمة كما تدل المعلومات التاريخية. فعلى امتداد تاريخه الطويل عرف المغرب فترات عصيبة قذفت به نحو براثن المجاعات والأوبئة. فكل مظاهر البؤس والانحطاط قديما وحتى الاضطرابات السياسية والسوسيو-اقتصادية اقترنت بأزمات الجفاف. " رغم اختلاف العلماء ...، اضطر البعض أن يعترف أن طقس شمال إفريقيا دخل طور جفاف متزايد عندما دخلت المنطقة حيز التاريخ ... "1.
إن استقراءنا لتاريخ الجفاف المناخي بالمغرب يؤكد بأن بلادنا شهدت قبل القرن العشرين مجاعات متعددة. وقد كان شح المياه وضعف وسائل تعبئتها السبب وراء انتشار المجاعات بكل مظاهرها المأساوية. وتردد فترات الجفاف على المغرب كان يتم على شكل دورات زمنية مختلفة." … إن تردد فترات الجفاف شكل باستمرار عنصرا أساسيا في التطور الزمني لمناخ المغرب منذ القديم. وكانت هذه الفترات في تناوب أبدي مع فترات الرطوبة والفيض المطري؛ فالبلاد عاشت في رهان دائم مع التقلب البيسنوي الشديد في الأحوال المناخية … "2.
إن المعلومات التاريخية القديمة حول تاريخ الجفاف بالمغرب قليلة، فمجملها جاء على شكل قصصات ناقصة وغير شافية. ومنذ القرن السادس عشر الميلادي، توسع اهتمام المؤرخين بظاهرة الجفاف ومخلفاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فقد لوحظ تحسن على مستوى سرد الأحداث ووصفها. وابتداء من منتصف القرن العشرين وتمشيا مع التطور التقني الذي شهده قطاع الأرصاد* الجوية الوطنية، أضحت الكتابات والدراسات التحليلية الخاصة بالجفاف تعتمد أساسا على قياسات شبكة المحطات الرصدية.
إن الدراسة التي أنجزها الباحث المناخي الأمريكي 1 STOCKTON ومجموعته تعد من الدراسات الحديثة التي اهتمت بظاهرة الجفاف بالمغرب، فقد اعتمدت أساسا على تقنية تحليل تطور حلقات** الأشجار المسنة (أشجار الصنوبر والأرز) بسلسلة الأطلس الكبير والمتوسط. وقد مكنت نتائج هذه الدراسة من توفير معلومات قيمة عن تاريخ حدوث فترات الجفاف ودوريتها وتطورها.
لقد سجلت هذه الدراسة التي شملت العشرة قرون الأخيرة، أن تردد الجفاف على المغرب يتغير كل عشرين سنة، وأن حالات الجفاف التي تدوم ست سنوات تأتي كل 455 سنة. واعتمادا على تطبيق طريقة التقويم الشجري، فالمغرب تعرض خلال الألفية الثانية للميلاد لعدد من سنوات الجفاف الشديد تجاوز عددها 90 سنة جافة. وهي حالات ذات عجز مطري قوي.
وتدل عينة الأشجار، التي أخذت من موقع فج الزاد بالأطلس المتوسط، أن الوضعيات الأكثر جفافا قد سجلت خلال السنوات الآتية: 64-1069م و 1118، 1126 و 1151 و 64-1165 و75-1376 و 1386 و 1415 و 68-1469، 1521 و 1526، 1613 و 26-1629 و 34-1635 و1661 و 82-1683 و93-1697، 19-1735 و 34-1735 و 90-1794 و 1800-1804 و49-1850 ثم 76-1882م.
وفي نفس السياق، تشير دراسة أنجزتها وزاراة الفلاحة والتجهيز والبيئة سنة 1997، إلى أن المغرب شهد منذ سنة 1896 إحدى عشرة أزمة جفاف عمت مناطق عديدة من البلاد، وكان ذلك في السنوات الآتية: 1904–1905، 1917–1920، 1930–1933، 1944–1945، 1948–1950 و1960–1961 و1974–1975 و1981–1984 و1986– 1987 و1991–1993، ثم سنة 1994–1995.
بالإضافة إلى ذلك، عرف المغرب فترات جفاف جزئية اقتصر تأثيرها على بعض المناطق، وقد همت السنوات التالية: 1906 –1907 و 1910 –1914 و 1924–1927 و 1952–1953 و1965–1967 و 1972–1973.
أ- فترة القرن الثامن – الخامس عشر الميلادي:
ابتداء من منتصف القرن التاسع إلى نهاية القرن الخامس عشر الميلاديين تفشت بالمغرب مجاعات على الأقل تسع عشرة مرة. وهو ما يعني، مجاعة في كل 34 سنة وثلاث إلى أربع مجاعات في كل قرن. في هذا الصدد، جاء في كتاب أبو العباس أحمد ابن خالد الناصري1: " أنه في سنة أربع وعشرين و سبعمائة كانت المجاعة بالمغرب، وارتفعت الأسعار في جميع البلاد. فبلغ المد من القمح بفاس خمسة عشر درهما ودام ذلك إلى قرب منتصف السنة بعدها …".
وتبرز رواية ابن أبي زرع الفاسي 2 " أن المغرب عرف مجاعة دامت 12 سنة (من 253 هـ/867 م إلى 265 هـ/878 م)، وأخرى دامت 17 سنة من 619 هـ/1222 م إلى 637 هـ/1239 م. أيضا من سنة 1323 إلى 1325 م، شهد المغرب مجاعة عظيمة بلغت فيها الحاجة مبلغا لا عهد للناس بمثله، فقد قلت المواد الغذائية بشكل خطير، كما ارتفعت الأسعار ارتفاعا كبيرا " .
لقد استأثر القرن الثالث عشر الميلادي بحصة الأسد من حيث فترات الجفاف، إذ سجلت فيه ست مجاعات تميزت بامتدادها وتقاربها الزمنيين، أغلبها حدث عندما كانت الدولة الموحدية تمر بدورها النهائي. أما القرنين الرابع والخامس عشر الميلاديين، فقد عرفا أيضا عدة سنوات جافة، إلا أن المعلومات حولهما تظل ضئيلة وغامضة، والشيء المؤكد هو أنها كانت أقل حدة من سابقاتها.
ب- فترة القرن السادس عشر – السابع عشر الميلادي:
استنادا إلى معطيات تاريخية، عرف المغرب خلال القرنين السادس والسابع عشر سنوات عجاف طويلة. كان من نتائجها انتشار المجاعات والأوبئة وموت الإنسان والدواب، نظرا لندرة المواد الغذائية بفعل الجفاف. وقد وصل عدد السنوات الجافة في القرن السادس عشر إلى إحدى عشرة فترة، بينما بلغ مجموعها في القرن السابع عشر سبع وعشرون فترة جافة.
وتقدم لنا مجاعة 1520–1521 م مثالا حيا عن الوضعية المتأزمة التي عاشها المغرب آنذاك. " فلقد شمل الجفاف البلاد كلها، إلا أن سهول الشاوية ودكالة وعبدة والحوز كانت الأكثر تضررا . وتفاديا للموت جوعا، أضحى المغاربة يبيعون كل ما لديهم لتجار الرقيق البرتغاليين بآسفي وأزمور بثمن زهيد، وأحيانا مقابل تعهد المشتري بضمان القوت اليومي …" 1 وللمزيد من التوضيحات حول فترات جفاف القرن السادس عشر، انظر رسالة د. محمد استيتو (1988): الكوارث الطبيعية في تاريخ المغرب خلال القرن السادس عشر.
أشار F. Braudel 2: " أن مغرب القرن 11 هـ /17 م كان أسوء حالا، فقد عرف كغيره من بلدان حوض البحر المتوسط أزمات حادة أكثر خطورة من تلك التي حدثت في القرن السابق. وذلك بفعل أوبئة فتاكة كثيرة ومجاعات شديدة وأحوال مناخية سيئة...". وفي نفس السياق، جاء في إحدى مقالات ذ.محمد الناصري3 : " أن المغرب في عهد السلطان المولى إسماعيل عرف خمس فترات جفاف. الأولى لم تكن طويلة من سنة إلى سنتين: 1672–1673م و 1679–1680م و 1682–1683 م … بعد ذلك، شهد المغرب فترتين من الجفاف استمرت الأولى ثلاث سنوات (1693–1695م)، والثانية أربع سنوات ( 1714–1717م) ".
ج- فترة القرن الثامن عشر – التاسع عشر الميلادي:
كانت المجاعات في القرنين الثامن والتاسع عشر تتردد على المغرب بعد كل 13 سنة كحد أدنى، و 38 سنة كحد أقصى. خلالها هلك عدد كبير من الناس نتيجة ندرة المواد الغذائية. وقد أكدت كل المصادر التاريخية المعنية، أنه قبل وفاة مولاي إسماعيل ببضع سنوات ضربت البلاد سنوات عجاف امتدت أربع سنوات من 1721 إلى 1724 م.
وفي سنة 1737–1738م، هبت على المغرب مجاعة عظيمة ارتبطت بنضوب المياه وكثرة الحروب الأهلية والأمراض والوفيات. وفي هذا الإطار، جاء في إحدى مقالات د. محمد استيتو ما يلي: " مجاعة عظيمة و سعال (1150 هـ/ 37-1738م)، أكلت النخالة وقشور الفول وعجم النبق وعجم التمر وعجم تاسلغو (الخروب) والفيتور، وأكلت الميتة جهارا والأدمي خفية خاصة الصبية والأطفال والنساء. وفي شهر جمادى الأولى دفن من المرستان فقط سبعة آلاف جثة. وبلغ الموت في شهر رجب 150 يوميا ممن كانوا يدفنون من المرستان..." 4.
وفي معرض قراءتنا لأطروحة د. محمد1 الأمين البزاز، خلصنا بأن المغرب خلال القرن الثامن عشر شهد مجاعة قاسية تجلت مظاهرها المأساوية في كل المرافق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فقد باع الناس خلالها ممتلكاتهم لشراء القليل من القوت بأثمان باهظة، وذلك لندرته في الأسواق من جراء السنوات العجاف وتكالب أسراب الجراد. ولهذا وصفتها المصادر المغربية بـ " المجاعة الكبيرة ". إذ تواصلت بلا انقطاع طيلة سبع سنوات من 1190 إلى 1196هـ ( 1776– 1782 م).
من جهة أخرى، يفيدنا د.إبراهيم2 حركات في كتابه، أن المغرب ضربته مجاعة أخرى خلال الفترة 1810-1818 م، أثناءها ارتفعت أسعار المواد بشكل غير معتاد وهلك الجوع أعدادا كبيرة وتوالى زحف الجراد وعمت المجاعة أنحاء البلاد. وهذا كله، نتيجة حتمية لشح التساقطات المطرية إذ كانت تنحبس طورا وتنزل بقلة طورا آخر.
وفي نفس السياق، جاء في كتاب: المجتمع المغربي في القرن 19 لأحمد توفيق حول مجاعة 1851: " لقد ذكرت وثيقة للماجطني أن ثمن القمح قد بلغ من جراء مجاعة 1267 هـ (1851م) 10 مثاقيل للخروبة، بينما بلغ ثمن الشعير 7 مثاقيل للخروبة في سوق دمنات"3.
أما مقال ذ. نور4 الدين الموادن، فيؤكد أن المغرب في القرن 19 عرف مجموعة من الأوبئة، منها طاعون 1818م. إضافة، إلى ستة أوبئة كوليرا وخمس مجاعات كبرى. ولعل أشدها تلك التي امتدت من سنة 1878 إلى 1882م. ويمكن القول، أن المغرب عرف في هذا القرن 12 كارثة، معظمها إن لم نقل كلها ناتج عن قلة الأمطار وندرة المياه.
د- فترة القرن العشرين:
استنادا إلى التسجيلات الرصدية للتساقطات المتوفرة، يلاحظ أن المغرب تعرض خلال القرن العشرين لسلسلة من السنوات الجافة. فكل المؤشرات تدل على ارتفاع حدة الجفاف في هذا القرن. " … لقد كشفت الأبحاث التي قامت بها مديرية الأرصاد الجوية الوطنية، أن سنوات 34-1935 و 44-1945 و 82-1983 و 94-1995، هي التي مرت بحالات الجفاف الحار. ويعتبر الجفاف إحدى خصائص المناخ في المغرب … "5.
لقد شهد مغرب القرن العشرين ثلاث فترات جافة رئيسية: امتدت الأولى من سنة 1917 إلى 1932م. خلالها سجلت التساقطات تراجعا كبيرا خصوصا ما بين سنة 1924– 1927م و 1928-1932 م. أما الثانية، فقد امتدت ما بين سنة 1943 و1953 م. و" تعد سنة 44-1945 م من السنوات الأشد جفافا ونكبة في تاريخ البلاد نظرا لما ترتب عنها من خسائر بشرية واقتصادية" 1. فيما الفترة الثالثة، فتمتد من 1980 إلى سنة 2000 ، ويمكن اعتبارها من ضمن أطول الفترات الجافة في تاريخ البلاد، بل وأكثرها حدة من حيث العجز المطري.
فخلال فترة 80-1985 2، تراوح العجز الإجمالي للأمطار حسب المناطق ما بين 30 % و 45 %:
- أقل من 30 % بالمناطق المطلة على المحيط الأطلنتي ؛
- بين 30 % و 40 % بالأطلس الكبير والمتوسط ؛
- أكثر من 40 % بالجنوب الشرقي ومناطق وسط البلاد ؛
- في المناطق الأخرى قدر العجز بحوالي 30 %.
في فترة الجفاف هاته، انخفضت الموارد المائية السطحية بنسبة تتراوح ما بين 50 % و 90 %. وتعتبر الأودية التي تأخذ منابعها من سلسلة الأطلس الأكثر تضررا، بحيث بلغ عجز السيلان 70 % إلى 90 %، في حين لم يتجاوز هذا العجز 60 % بالنسبة للأودية التي تصرف الأحواض الشمالية الغربية من البلاد.
لقد سجلت سنة 1982 – 1983 أعلى عجز مطري، إذ قدر بـ 78 %، فيما لم يتعد هذا العجز 65 % خلال سنة 81 – 82 / 84 – 1985. " وتعتبر سنة 82-1983 واحدة من بين أجف السنوات المناخية بالمغرب في القرن العشرين. ويصنف جفافها في المرتبة الخامسة من حيث حدة العجز المطري. وتكمن خصوصية هذه السنة في كونها سجلت وضعية مناخية استثنائية، ليس على الصعيد الوطني فحسب، بل أيضا على الصعيد العالمي "3.
وخلال فترة 80-1983، سجلت نسبة ملء السدود تراجعا كبيرا بحيث انخفض معدل الملء من 18 % إلى 50 %. ونفس الشيء يقال على مخزون المياه الجوفية، حيث عرف هو الآخر انخفاضا مهما، نتيجة ضعف الواردات وكثافة ضخ المياه. فقد تم تسجيل تراجع في مستوى مياه العديد من الطبقات الجوفية (أنكاد وطريفة وتادلة وتافيلالت) بعشرة أمتار مقارنة مع مستوى سنة 1979.
أيضا بفعل جفاف 80 –1985، عرفت العيون عجزا في صبيبها، مثل عين أسردون (بني ملال) التي سجل صبيبها عجزا وصل إلى 30 % (معدل صبيبها السنوي العادي يقدر بـ 180 1 ل/ث ) يقابل عجزا مطريا في منطقة تزويد العين بمقدار 50 %.
كذلك خلال فترة 91-1993 1، عرف المجال المغربي جفافا حادا اختلفت ضراوته من منطقة لأخرى. ففي سنة 91-1992، تراوحت نسب العجز المطري حسب الأحواض ما بين 10 % و 50 %، مما انعكس سلبا على الطبقات الجوفية التي شهدت انخفاضا ملحوظا (الطبقات المتواجدة على المدارات السقوية تستفيد نسبيا من مياه السقي).
هناك طبقات لم تتعد مترا واحدا كطبقة ساحل أزمور- دكالة بـ 0,7 م وتادلة بـ 0,9 م وطريفة بـ 0,8 م. فيما طبقات أخرى لم تتعد المترين، كطبقة فاس - مكناس بـ 1,6 م والمعمورة بـ 1,5 م وطبقة شرف العقاب بـ 1,2 م. وفي نفس الفترة أي 91-93 ، تراوحت نسب العجز ببعض العيون ما بين 25 % (عين راس الما - حوض لاو) و 47 % (عين تيمدرين - حوض سبو).
أما في سنة 92- 1993، تراوحت النسب ما بين 10 % و 70 %، أي بمعدل إجمالي قدر بـ 42 %. وتعد أحواض الشمال الغربي وسبو وملوية وأبي رقراق وأحواض الجنوب الأطلسي من الأحواض التي مسها الجفاف بحدة. فمثلا، سجلت أحواض ورغة وأبي رقراق عجزا مطريا وصل إلى 90 %. وبلغ بأحواض النكور وإيناون وسوس ماسة 88 %. فيما قدر بـ 84 % بأحواض اللكوس وزيز. وفي سنة 93-1994 تراوح العجز المطري ما بين 10 % و 30 % بمختلف الأحواض.
وفي سنة 1999-2000، بلغ عجز التساقطات المطرية إلى حدود 10 مارس 2000، ما يناهز 55 % في المتوسط (غياب شبه تام للتساقطات خلال شهر فبراير وبداية مارس). هذا العجز تراوح ما بين 40 % و 70 % في أحواض ملوية وورغة وأبي رقراق وسوس-ماسة و درعة وزيز.
تختلف درجة حدة الجفاف في المغرب حسب السنوات. فهناك سنوات تتميز بحدة الجفاف، فيما أخرى تعرف عجزا متوسطا أو ضعيفا في التساقطات* المطرية. أما التوزيع المجالي للجفاف، فإنه يتسم بالتباين . "… إن السنوات الجافة تتعاقب على البلاد بدرجات متفاوتة من حيث حدة العجز المطري. ويكون لكل سنة من هذه السنوات، توزيع مجالي جد متباين، من حيث درجة الخصاص المطري، بحيث من النادر جدا أن تكون قوة الانحراف المطري متشابهة بين منطقتين أو مجموعة من المناطق …" 1.
ويرجع التفاوت في التوزيع الجغرافي للسنوات الجافة عبر التراب الوطني إلى تنوع الظروف*الجغرافية، وإلى التأثير المتباين لآليات الطقس والدورة** الهوائية. تساهم هذه العوامل وغيرها في تفاوت موجات الجفاف من حيث درجة العجز المطري. وتبقى المنطقتان الأطلنتية والجبلية الأقل خضوعا للجفاف مقارنة مع نظيرتها الشرقية والجنوبية من البلاد. " … فالجزء الأكبر من البلاد يوجد في المجال الجاف المتميز بفترة تشميس طويلة وحالة جفاف جد قاسية "2.
يتضح من هذه المعطيات، أن الجفاف ظاهرة ثابتة في تاريخ المغرب، لكن الشيء الملفت للنظر هو ترددها بشكل كبير منذ الثمانينات حتى اليوم. وهذا ما ينذر بتراجع المخزون المائي الوطني، وبالتالي التأثير سلبا على مستقبل مصادر التزود بالماء. الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن أسباب الجفاف بالمغرب: هل هو واقع طبيعي يعزى لمسلسل الذبذبات المناخية، أم طارئ ظرفي ناتج عن تعسف الإنسان ؟
انطلاقا من أن المناخ هو الصورة الزمنية لمجموعة من الظواهر تربط بينها توازنات مضبوطة في نطاق معين، فكل تدخل في الجو هو نظريا قادر على إصابة هذه التوازنات وتغيير مجرى الأحداث المناخية. ومما لاريب فيه، أن الإنسان يعد طرفا رئيسا في التغيرات المناخية المعاصرة، إلا أن هذا لا يعني، بأن المناخ لم يعرف قديما أية تغييرات، بل العكس هو ما تؤكده العلوم الحديثة.
إن كل العلوم الحديثة جاءت بأدلة جديدة و مقنعة تؤكد على تغير المناخ. فقد أظهرت الدراسات في علم المناخ القديم، " أن الأرض عرفت تغييرات مناخية كبيرة على مر العصور الجيولوجية. ويتأكد هذا الطرح من خلال وجود كائنات حية، حيوانية ونباتية متحجرة لا تعيش إلا في ظروف مناخية خاصـــة… " 1.
وقد اهتم علماء المناخ والباحثون منذ عقود خلت بظاهرة الجفاف محاولين معرفة الأسباب وتوقع النتائج. لكن القدرة العلمية والتقنية تظل عاجزة لحد الآن عن توقع وتحديد المدة الزمنية التي يستغرقها الجفاف. فمن الصعب على علماء الأرصاد الجوية في الوقت الراهن، التكهن بالتنبؤات المناخية على المدى الطويل.
جاء في تقرير المؤتمر الرابع حول التغيرات المناخية الذي انعقد في بيونوس إيرس بالأرجنتين (2-13 نونبر 1998)، أن إفريقيا الشمالية والغربية توجد ضمن المناطق الأكثر حساسية للتغيرات المناخية. وفي إطار البرنامج* الأوربي لدراسة ديناميكية المناخ، أكدت التقلبات المناخية في أوربا وإفريقيا الشمالية وحوض البحر المتوسط، أن لها ارتباط قوي ومباشر مع ديناميكية الدورة الهوائية الأطلنتية بالنصف الشمالي من الكرة الأرضية.
إن الموقع الجغرافي للمغرب على مشارف المنطقة المدارية (ما بين خطي عرض 21° و 36° شمالا ) الشمالية جعله يتعرض منذ مئات السنين لظاهرة الجفاف. إلا أن حدة وتردد هذه الظاهرة منذ عقدين من الزمن أصبح يطرح أكثر من تساؤل حول الأسباب الناجمة عن هذه الظاهرة. الأمر لا يقتصر على أسباب محلية أو إقليمية، وإنما ذلك يرتبط بالتغيرات المناخية الكونية.
إذا كانت الأبحاث قد أوضحت وجود ترابط إحصائي ضعيف ما بين التغايرية المطرية في المغرب ومنظومة "النينيو/ الذبذبة** الجنوبية "، فإنها وخلافا لذلك أكدت وجود علاقة قوية ما بين الوضعية المطرية في البلاد وما يسمى "بذبذبة المحيط الأطلنتي الشمالي". لقد كشفت الأبحاث عن وجود ترابط إحصائي قوي ودال بين التساقطات المطرية ومؤشرات هذه الذبذبة. فموقع المغرب في العروض شبه المدارية، وفي الهوامش الجنوبية للمنطقة المعتدلة الشمالية، إضافة إلى انفتاحه القوي على المحيط الأطلنتي، جعله يتأثر مباشرة بالذبذبة الأطلنتية الشمالية.
ومن أبرز مؤشرات هذه الذبذبة، تردد المرتفعات والمنخفضات الجوية فوق جزر الآصور والمناطق المجاورة لها. لقد تبين أن معظم سنوات الجفاف تنتج عن حدوث مؤشر إيجابي قوي في الحقول الضغطية الأطلنتية الآصورية والإيسلندية. " … هناك فعلا علاقة وطيدة بين مؤشر الذبذبة الأطلنتية وأحداث الجفاف في المغرب؛ فالمعطيات تؤكد أن موجات الجفاف التي تعاقبت على البلاد في عقدي الثمانينات والتسعينات كانت قد اقترنت بحدوث مؤشر إيجابي قوي جدا في هذه الذبذبة. وتبلور ذلك في ارتفاع وتيرة تردد المرتفعات الجوية فوق جزر الآصور في شرق المحيط الأطلنتي الشمالي بجوار المغرب … "1.