[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
ثورة القدس 1824-1826م
تتناول هذه الدراسة ثورة القدس في الفترة بين 1824-1826م. وتمتاز الثورة بندرة المادة التاريخية عنها. فلم يرد ذكر لثورة القدس في المصادر التاريخية اللبنانية المعاصرة ومنها مثلاً كتاب الأمير حيدر الشهابي "تاريخ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين"(1)، أو نوفل نوفل في كتابه "كشف اللثام عن محيا الحكومة والحكام في مصر وبر الشام(2)، أو كتاب ميخائيل مشاقة "منتخبات من الجواب على مقترحات الأحباب"(3)، كما لم يرد ذكر لها في المصادر السورية المعاصرة مثل تاريخ ميخائيل الدمشقي المعروف(4)، وكتاب حسن آغا العبد الموسوم بـ "قطعة من تاريخ حسن آغا العبد"(5). ويبدو أن كون الحديث عن ثورة في القدس لم يحدث بها تدخلاً لبنانياً مباشراً مثلما حدث في مهاجمة قلعة صانور 1829م فإنها لم تثر اهتمام المؤرخين اللبنانيين. ولكن ما يثير الاستغراب هو المصادر الدمشقية التي لم تتناول ذلك بالرغم من مشاركة والي دمشق مشاركة فعلية في الشطر الأول منها. وقد تم تغطية الحدث فقط من قبل راهب يوناني يدعى نيوفتوس سبيريدوم ""Neophytes Spyridon كان يقيم في دير يوناني في القدس ووثق الأحداث في كتاب تحت عنوان "حوليات فلسطينية 1821-1840" والذي كان له الفضل في إماطة اللثام عن تفاصل هذه الثورة. وبالتالي يمكن القول إن هذا المصدر يعد المصدر الوحيد لهذه الثورة، وأن أي معلومات أخرى تتعلق بها قد جاءت على شكل شذارات قليلة سواء في وثائق الأرشيف المصري حول تلك الفترة، أو في سجلات المحاكم الشرعية.
أسباب الثورة
قامت الحكومة العثمانية سنة 1824م بعزل والي دمشق درويش باشا واستبدلته بوالي حلب مصطفى باشا الذي حكم ولاية دمشق في الفترة بين 1824- 1826م. حيث كان ظالماً ففرض ضرائب باهظة على السكان لم يكن لهم عهد بمثلها. إذ إن الأعشار التي طلبها وكلاء الباشا في تلك السنة تصل إلى عشرة أضعاف الأعشار التي فرضت في السنة السابقة. وقد أدى ذلك إلى سخط وتذمر السكان الذين شاركوا في ثورة ساهم بها الكثير من الفلاحين(6). وقد قال الراهب نيوفيتوس: "وقد عانت منطقة القدس سنة 1824م كثيراً في عهد مصطفى باشا (والي حلب) الذي خلف درويش باشا في منصب ولاية دمشق. حيث طلب ضرائب باهظة وهدايا من الفلاحين ومن الأديرة المسيحية. فقد طلب من الفلاحين عشرة أضعاف ما يطلب منهم من أعشار في العادة. ولذلك حدث تمرد كبير وثار معظم الفلاحين. وحيث أن الفلاحين لا يتوفر لديهم أكثر من خبز يومهم ومع ذلك أُجبروا على دفع ليس فقط ضعف مقدار الضريبة السنوية وهي (60000 قرش) ولكن أيضاً الضريبة كبيرة لعرب العبيدية الذين لا يدفعون شيئاً للوالي"(7). فمثلاً كان يفترض أن يدفع عرب العبيدية مبلغ 9000 قرش سنة 1824م، ولكنهم رفضوا الدفع. ولذلك تم اعتقال بعضهم فهب أقاربهم وجيرانهم إلى دير الأخوية المسيحية اليونانية من أجل طلب الإفراج عنهم. ولكن كان من الصعب ذلك بدون دفع المبلغ المطلوب. وبعد نحو أثني عشر يوماً ذهب عرب العبيدية إلى دير مار سابا وفتحوا ثغرة في السور. وقد قامت الأخوية باقتراض المال بنسبة فائدة عالية ودفعوا 9000 قرش إلى موسى بك عن عرب العبيدية(.
وكانت الدولة العثمانية منشغلة آنذاك في القضاء على الثورة اليونانية، وعملت على فرض ضرائب باهظة على الرعايا بصفة إعانة حربية(9).
وقائع الثورة:
يمكن تقسيم وقائع الثورة إلى عدة مراحل:
أ : اندلاع الثورة وتعسف الوالي في قمعها
عين مصطفى باشا متسلماً جديداً على سنجق القدس هو موسى بيك بدلاً من سليمان بيك الذي كان في عهد الوالي السابق درويش باشا والذي فشل في تحصيل الضرائب الباهظة التي فرضها الوالي الجديد(10). وبقي مصطفى بيك تفكجي باشا، واستخدم العديد من الوسائل مع أعيان القدس من أجل الاستيلاء على حصة كبيرة من الضرائب التي يدفعها مسيحيو القدس والفلاحون. وعندما رأى مصطفى باشا أن الفلاحين سوف يدفعون فقط الضريبة المعتادة، وأنهم يمتنعون حتى عن دفعها حاول أن يجبرهم على دفعها. فأرسل مائة جندي لحراسة قلعة القدس حيث لا يوجد هناك سوى ستين فقط لحمايتها. ثم أرسل إلى المتسلم لمضاعفة الضريبة على الفلاحين حيث أطاع الأمر وبدأ بتنفيذه. ولذلك قام الفلاحون على الفور بالثورة حيث طردوا رجال المتسلم من قرى نواحي السنجق(11). وكان على رأس الفلاحين آل أبو غوش في ناحية بني مالك ومشايخ بيت لحم ومنطقتها(12).
وكان سنجق القدس مقسماً إلى عدة نواحٍ هي:
- ناحية بني حارثة: وهي تقع شمال القدس وتمتد بين القدس ونابلس، وتولت إدارتها عائلة سمحان.
- ناحية بني مالك: وتقع إلى الغرب من القدس بينها وبين يافا، وتولت إدارتها عائلة أبو غوش.
- ناحية بني حسن: وتقع إلى الجنوب وتشمل قرى المالحة وبيت إكسا.
- ناحية الوادية: وتشمل قرى بيت لحم، وبيت ساحور، وبيت جالا.
- ناحية بني سالم
- ناحية بني مرة
- ناحية بني زيد
وكان يتولى إدارة الناحية شيخ مشايخ، وكان منصباً متوارثاً ضمن الأسرة الواحدة كأسرة أبو غوش(13).
فأبلغ المتسلم الباشا برفض الفلاحين دفع الضرائب فقرر أن يقود بنفسه دورة جباية الضرائب السنوية من ألوية جنين ونابلس والقدس. وجمع على الفور جيشاً من خمسة آلاف رجل، وانطلق من دمشق إلى نابلس حيث بقي هناك عشرين يوماً لجمع الضرائب التي قررت من نواحيها(14).
ثم توجه إلى سنجق القدس حيث أخذ يجبي الضرائب، وقام بسلسلة تعيينات جديدة لرجال الحكم والإدارة في مدينة القدس بما فيها تعيين متسلم جديد هو عثمان آغا. ونجح في القبض على أحد زعماء آل أبو غوش، فاضطر أخوه إلى دفع 35 كيساً (500 17) في سبيل إطلاق سراحه(15).
وقد علم الفلاحون في منطقة القدس بغضب الباشا ومقدار القوة المصاحبة له فخشوا من نقمته فاختلفوا في كيفية معالجة الأمر. فقرر بعضهم الاستسلام ودفع المبالغ المطلوبة بينما قرر آخرون المقاومة فيما قرر البعض الآخر الهرب. فهؤلاء الذين يعيشون في القرى حول مدينة القدس مثل سكان سلوان ووادي شعفاط شرق القدس، والمالحة وعين كارم والولجة في الغرب وبيت حنانيا وبيتين إلى الشمال وصور باهر وبيت صافا وقرى أخرى مع بعض سكان بيت جالا أخذوا نساءهم وأطفالهم و بهائمهم وممتلكاتهم المنقولة وهربوا إلى أماكن ذات ممرات وعرة. أما سكان بيت لحم الذين تحالفوا مع عرب التعامرة و آل اللحام و فارين من قرى أخرى فقد حصنوا ثلاثة أديرة من أديرة اليونانيين، والفرانك والأرمينيين وقررا القتال. وقد لجأ سكان المالحة إلى دير الصليب المقدس جالبين معهم كل ممتلكاتهم المنقولة، وقمحهم وشعيرهم وجبنهم وزيتهم وزبدتهم وملابسهم مخفين فيها أساور الفضة وأغطية الرأس للنساء (التي تحتوي على قطع نقدية فضية وذهبية). بينما قام سكان صور باهر وبيت صفافا وبيت جالا وبعض سكان بيت لحم بإحضار ممتلكاتهم إلى دير مار إلياس وأخفوها هناك. بينما أخفى عرب العبيدية ممتلكاتهم الصغيرة في دير مار سابا(16).
وعندما وصل الباشا إلى القدس في نهاية شهر فبراير 1825م، لم يحضر فلاحو القرى لدفع التزاماتهم، وعندما علم الباشا بهربهم أمر جنوده بالاستيلاء على قراهم وتدميرها. ولكن عندما ذهبوا إلى هناك لم يجدوا شيئاً بل منازل خاوية وأكواخاً. ولسوء الحظ فإن بعض أتراك القدس قد شاهدوا سكان بيت جالا يحملون ممتلكاتهم إلى دير مار إلياس فأفشوا ذلك إلى موسى بك نائب المتسلم الذي أراد أن يبرز قدرته على القيام بواجبه ومن أجل نيل رضا الباشا فقدم تقريراً له حول هذا الأمر. وفي الحال أرسل الباشا جنوده لنهب الدير أخذين قمح و شعير وملابس الفلاحين وكذلك ممتلكات الأخوة المسيحية. وقبضوا على رئيس دير مار سابا ويدعى فلافيانوس "Flavianos "، وجلبوه إلى معسكر الباشا الذي اتهمه بالخيانة على عدم قدومه إلى معسكر الباشا وتقديم تقرير عن إخفاء الفلاحين ممتلكاتهم في ديره. واتهمه بأنه شريك للمتآمرين وأنه يستحق الإعدام، وأصدر أمراً بإعدامه. ولكن قبل التحرك لإعدامه طلب الباشا من الحرس الذين سيعدمونه بإعادته ومنحه الحياة إذا أدلى بمكان إخفاء نقود الفلاحين. فأنكر فلافيانونس أنه شاهدها فأمر الباشا عند ذلك بوضعه على جذع وضربه خمسمائة جلده على قدميه. وسحبوه نصف ميت واستجوبوه مرة أخرى ولكن فلافيانونس لم يستطع الكلام فتم تقييده بالسلاسل ووضعه مع المعتقلين الآخرين في مبني بلا سقف بالرغم من أن الطقس كان بارداً وماطراً. وبعد تدخل تم الإفراج عنه وإعادته للدير حيث تم تقديم العلاج المكثف له حتى أنقذت حياته ولكنه بقي يعاني من عرج في قدميه حتى وفاته(17).
وبعد أن علم الباشا بأن أن فلاحي المالحة قد أخفوا ممتلكاتهم في دير الصليب المقدس أرسل جنوده واستولوا عليها. وتم حفر الدير في عدة أماكن للبحث عن النقود وودائع أخرى تعود للفلاحين. كذلك بلغ الباشا أن سكان بيت لحم والعديد من سكان قرى بيت جالا وعين كارم وكذلك من سلوان قد أخفوا ودائعهم في منازل محددة. لذلك وبناء على أوامر الباشا تم اعتقال العديد من المسيحيين واليونانيين وحتى من مسلمي القدس واستجوابهم عن أماكن ودائع الفلاحين. قد عانوا الكثير وأُجبروا على دفع غرامة كبيرة. وقال الراهب "نيوفيتوس": "المصيبة عمت كل مكان داخل وخارج القدس"(18).
ولم يرغب الباشا بالوصول إلى صلح مع الفلاحين أو تخفيض طلباته وكان يرى بحسم الأمر عسكرياً. وقام أولاً بإرسال ألفين من الجنود من أجل إخضاع بيت لحم ولكنهم لم ينجحوا حتى في الوصول للمدينة. وقام بزيادة جيشه من قبل فلاحين مرتزقة، فإنه أخذ المدفعية مع عزمه على الزحف إلى بيت لحم من أجل تدميرها وحرقها. وسكان المدينة مع حلفائهم أخذوا أملاكهم من الأديرة الثلاثة، وأبدوا استعدادهم لمواجهته. وقد خشي رجال الدين في الأديرة من هدم الأديرة وكنيسة المهد(19).
ب: الصلح بين الطرفين
وقد توسط رجال الدين المسيحيين بين باشا دمشق وبين الفلاحين منعاً لقيام الباشا بتدمير أديرتهم بالمدفعية. حيث حاولوا عقد الصلح بين الطرفين منعاً لإراقة مزيد من الدماء وإلحاق مزيد من التدمير. وبمساعدة الكيخيا وأعيان آخرون نجحت الوساطة ولكن الغرامة قد زادت إلى مائه ألف قرش(20) وقد توصل الباشا إلى الصلح لأن موسم الحج قد اقترب وعليه العودة إلى دمشق للاستعداد لتجهيز قافلة الحج وقيادتها(21).
وقد دفعت الأديرة المسيحية اليونانية ثلاثين ألفاً قاموا باقتراضها. وقد دفع سكان بيت لحم ثلاثين ألفاً كما دفع الأرمن والفرنك أربعين ألفاً أخرى. وبعد أن أعلن سكان بيت لحم تسليمهم وخضوعهم للباشا غادر الباشا إلى القدس تاركاً حراساً في المدينة وفي الأديرة. وقد حاول الباشا بذرائع متعددة مضاعفة المبالغ المفروضة على الأديرة اليونانية إلى ثلاثة أضعاف حيث كانت تدفع سنوياً ستين ألف قرش. وقد توصلوا في النهاية إلى دفع مبلغ مائة وعشرة ألاف قرش. وقد قام رجال الدين برهن جواهر إلى مرابي يهودي غني مقابل قرض بقيمة خمسين ألف قرش بفائدة كبيرة. وقد أصر الباشا على تحصيل كامل المبلغ حالاً. وكان ذلك في إبريل 1825م حيث اقترب عيد الفصح الذي صادف تلك السنة 29 إبريل فأمر الباشا_ طبقاً لمشورة موسى بك كما يحتمل_ بأن باب كنيسة القيامة لن يفتح. وقد انصاع متولي باب الكنيسة لأوامر الباشا ورفض فتح الباب. بعد محاولات لرفع الحظر وافق الباشا على قبول صك بالمبلغ المتبقي (ستون ألفاً) على بطريركية القدس من أحد رؤساء الكنيسة في استانبول(22)
ثورة القدس 1824-1826م
تتناول هذه الدراسة ثورة القدس في الفترة بين 1824-1826م. وتمتاز الثورة بندرة المادة التاريخية عنها. فلم يرد ذكر لثورة القدس في المصادر التاريخية اللبنانية المعاصرة ومنها مثلاً كتاب الأمير حيدر الشهابي "تاريخ لبنان في عهد الأمراء الشهابيين"(1)، أو نوفل نوفل في كتابه "كشف اللثام عن محيا الحكومة والحكام في مصر وبر الشام(2)، أو كتاب ميخائيل مشاقة "منتخبات من الجواب على مقترحات الأحباب"(3)، كما لم يرد ذكر لها في المصادر السورية المعاصرة مثل تاريخ ميخائيل الدمشقي المعروف(4)، وكتاب حسن آغا العبد الموسوم بـ "قطعة من تاريخ حسن آغا العبد"(5). ويبدو أن كون الحديث عن ثورة في القدس لم يحدث بها تدخلاً لبنانياً مباشراً مثلما حدث في مهاجمة قلعة صانور 1829م فإنها لم تثر اهتمام المؤرخين اللبنانيين. ولكن ما يثير الاستغراب هو المصادر الدمشقية التي لم تتناول ذلك بالرغم من مشاركة والي دمشق مشاركة فعلية في الشطر الأول منها. وقد تم تغطية الحدث فقط من قبل راهب يوناني يدعى نيوفتوس سبيريدوم ""Neophytes Spyridon كان يقيم في دير يوناني في القدس ووثق الأحداث في كتاب تحت عنوان "حوليات فلسطينية 1821-1840" والذي كان له الفضل في إماطة اللثام عن تفاصل هذه الثورة. وبالتالي يمكن القول إن هذا المصدر يعد المصدر الوحيد لهذه الثورة، وأن أي معلومات أخرى تتعلق بها قد جاءت على شكل شذارات قليلة سواء في وثائق الأرشيف المصري حول تلك الفترة، أو في سجلات المحاكم الشرعية.
أسباب الثورة
قامت الحكومة العثمانية سنة 1824م بعزل والي دمشق درويش باشا واستبدلته بوالي حلب مصطفى باشا الذي حكم ولاية دمشق في الفترة بين 1824- 1826م. حيث كان ظالماً ففرض ضرائب باهظة على السكان لم يكن لهم عهد بمثلها. إذ إن الأعشار التي طلبها وكلاء الباشا في تلك السنة تصل إلى عشرة أضعاف الأعشار التي فرضت في السنة السابقة. وقد أدى ذلك إلى سخط وتذمر السكان الذين شاركوا في ثورة ساهم بها الكثير من الفلاحين(6). وقد قال الراهب نيوفيتوس: "وقد عانت منطقة القدس سنة 1824م كثيراً في عهد مصطفى باشا (والي حلب) الذي خلف درويش باشا في منصب ولاية دمشق. حيث طلب ضرائب باهظة وهدايا من الفلاحين ومن الأديرة المسيحية. فقد طلب من الفلاحين عشرة أضعاف ما يطلب منهم من أعشار في العادة. ولذلك حدث تمرد كبير وثار معظم الفلاحين. وحيث أن الفلاحين لا يتوفر لديهم أكثر من خبز يومهم ومع ذلك أُجبروا على دفع ليس فقط ضعف مقدار الضريبة السنوية وهي (60000 قرش) ولكن أيضاً الضريبة كبيرة لعرب العبيدية الذين لا يدفعون شيئاً للوالي"(7). فمثلاً كان يفترض أن يدفع عرب العبيدية مبلغ 9000 قرش سنة 1824م، ولكنهم رفضوا الدفع. ولذلك تم اعتقال بعضهم فهب أقاربهم وجيرانهم إلى دير الأخوية المسيحية اليونانية من أجل طلب الإفراج عنهم. ولكن كان من الصعب ذلك بدون دفع المبلغ المطلوب. وبعد نحو أثني عشر يوماً ذهب عرب العبيدية إلى دير مار سابا وفتحوا ثغرة في السور. وقد قامت الأخوية باقتراض المال بنسبة فائدة عالية ودفعوا 9000 قرش إلى موسى بك عن عرب العبيدية(.
وكانت الدولة العثمانية منشغلة آنذاك في القضاء على الثورة اليونانية، وعملت على فرض ضرائب باهظة على الرعايا بصفة إعانة حربية(9).
وقائع الثورة:
يمكن تقسيم وقائع الثورة إلى عدة مراحل:
أ : اندلاع الثورة وتعسف الوالي في قمعها
عين مصطفى باشا متسلماً جديداً على سنجق القدس هو موسى بيك بدلاً من سليمان بيك الذي كان في عهد الوالي السابق درويش باشا والذي فشل في تحصيل الضرائب الباهظة التي فرضها الوالي الجديد(10). وبقي مصطفى بيك تفكجي باشا، واستخدم العديد من الوسائل مع أعيان القدس من أجل الاستيلاء على حصة كبيرة من الضرائب التي يدفعها مسيحيو القدس والفلاحون. وعندما رأى مصطفى باشا أن الفلاحين سوف يدفعون فقط الضريبة المعتادة، وأنهم يمتنعون حتى عن دفعها حاول أن يجبرهم على دفعها. فأرسل مائة جندي لحراسة قلعة القدس حيث لا يوجد هناك سوى ستين فقط لحمايتها. ثم أرسل إلى المتسلم لمضاعفة الضريبة على الفلاحين حيث أطاع الأمر وبدأ بتنفيذه. ولذلك قام الفلاحون على الفور بالثورة حيث طردوا رجال المتسلم من قرى نواحي السنجق(11). وكان على رأس الفلاحين آل أبو غوش في ناحية بني مالك ومشايخ بيت لحم ومنطقتها(12).
وكان سنجق القدس مقسماً إلى عدة نواحٍ هي:
- ناحية بني حارثة: وهي تقع شمال القدس وتمتد بين القدس ونابلس، وتولت إدارتها عائلة سمحان.
- ناحية بني مالك: وتقع إلى الغرب من القدس بينها وبين يافا، وتولت إدارتها عائلة أبو غوش.
- ناحية بني حسن: وتقع إلى الجنوب وتشمل قرى المالحة وبيت إكسا.
- ناحية الوادية: وتشمل قرى بيت لحم، وبيت ساحور، وبيت جالا.
- ناحية بني سالم
- ناحية بني مرة
- ناحية بني زيد
وكان يتولى إدارة الناحية شيخ مشايخ، وكان منصباً متوارثاً ضمن الأسرة الواحدة كأسرة أبو غوش(13).
فأبلغ المتسلم الباشا برفض الفلاحين دفع الضرائب فقرر أن يقود بنفسه دورة جباية الضرائب السنوية من ألوية جنين ونابلس والقدس. وجمع على الفور جيشاً من خمسة آلاف رجل، وانطلق من دمشق إلى نابلس حيث بقي هناك عشرين يوماً لجمع الضرائب التي قررت من نواحيها(14).
ثم توجه إلى سنجق القدس حيث أخذ يجبي الضرائب، وقام بسلسلة تعيينات جديدة لرجال الحكم والإدارة في مدينة القدس بما فيها تعيين متسلم جديد هو عثمان آغا. ونجح في القبض على أحد زعماء آل أبو غوش، فاضطر أخوه إلى دفع 35 كيساً (500 17) في سبيل إطلاق سراحه(15).
وقد علم الفلاحون في منطقة القدس بغضب الباشا ومقدار القوة المصاحبة له فخشوا من نقمته فاختلفوا في كيفية معالجة الأمر. فقرر بعضهم الاستسلام ودفع المبالغ المطلوبة بينما قرر آخرون المقاومة فيما قرر البعض الآخر الهرب. فهؤلاء الذين يعيشون في القرى حول مدينة القدس مثل سكان سلوان ووادي شعفاط شرق القدس، والمالحة وعين كارم والولجة في الغرب وبيت حنانيا وبيتين إلى الشمال وصور باهر وبيت صافا وقرى أخرى مع بعض سكان بيت جالا أخذوا نساءهم وأطفالهم و بهائمهم وممتلكاتهم المنقولة وهربوا إلى أماكن ذات ممرات وعرة. أما سكان بيت لحم الذين تحالفوا مع عرب التعامرة و آل اللحام و فارين من قرى أخرى فقد حصنوا ثلاثة أديرة من أديرة اليونانيين، والفرانك والأرمينيين وقررا القتال. وقد لجأ سكان المالحة إلى دير الصليب المقدس جالبين معهم كل ممتلكاتهم المنقولة، وقمحهم وشعيرهم وجبنهم وزيتهم وزبدتهم وملابسهم مخفين فيها أساور الفضة وأغطية الرأس للنساء (التي تحتوي على قطع نقدية فضية وذهبية). بينما قام سكان صور باهر وبيت صفافا وبيت جالا وبعض سكان بيت لحم بإحضار ممتلكاتهم إلى دير مار إلياس وأخفوها هناك. بينما أخفى عرب العبيدية ممتلكاتهم الصغيرة في دير مار سابا(16).
وعندما وصل الباشا إلى القدس في نهاية شهر فبراير 1825م، لم يحضر فلاحو القرى لدفع التزاماتهم، وعندما علم الباشا بهربهم أمر جنوده بالاستيلاء على قراهم وتدميرها. ولكن عندما ذهبوا إلى هناك لم يجدوا شيئاً بل منازل خاوية وأكواخاً. ولسوء الحظ فإن بعض أتراك القدس قد شاهدوا سكان بيت جالا يحملون ممتلكاتهم إلى دير مار إلياس فأفشوا ذلك إلى موسى بك نائب المتسلم الذي أراد أن يبرز قدرته على القيام بواجبه ومن أجل نيل رضا الباشا فقدم تقريراً له حول هذا الأمر. وفي الحال أرسل الباشا جنوده لنهب الدير أخذين قمح و شعير وملابس الفلاحين وكذلك ممتلكات الأخوة المسيحية. وقبضوا على رئيس دير مار سابا ويدعى فلافيانوس "Flavianos "، وجلبوه إلى معسكر الباشا الذي اتهمه بالخيانة على عدم قدومه إلى معسكر الباشا وتقديم تقرير عن إخفاء الفلاحين ممتلكاتهم في ديره. واتهمه بأنه شريك للمتآمرين وأنه يستحق الإعدام، وأصدر أمراً بإعدامه. ولكن قبل التحرك لإعدامه طلب الباشا من الحرس الذين سيعدمونه بإعادته ومنحه الحياة إذا أدلى بمكان إخفاء نقود الفلاحين. فأنكر فلافيانونس أنه شاهدها فأمر الباشا عند ذلك بوضعه على جذع وضربه خمسمائة جلده على قدميه. وسحبوه نصف ميت واستجوبوه مرة أخرى ولكن فلافيانونس لم يستطع الكلام فتم تقييده بالسلاسل ووضعه مع المعتقلين الآخرين في مبني بلا سقف بالرغم من أن الطقس كان بارداً وماطراً. وبعد تدخل تم الإفراج عنه وإعادته للدير حيث تم تقديم العلاج المكثف له حتى أنقذت حياته ولكنه بقي يعاني من عرج في قدميه حتى وفاته(17).
وبعد أن علم الباشا بأن أن فلاحي المالحة قد أخفوا ممتلكاتهم في دير الصليب المقدس أرسل جنوده واستولوا عليها. وتم حفر الدير في عدة أماكن للبحث عن النقود وودائع أخرى تعود للفلاحين. كذلك بلغ الباشا أن سكان بيت لحم والعديد من سكان قرى بيت جالا وعين كارم وكذلك من سلوان قد أخفوا ودائعهم في منازل محددة. لذلك وبناء على أوامر الباشا تم اعتقال العديد من المسيحيين واليونانيين وحتى من مسلمي القدس واستجوابهم عن أماكن ودائع الفلاحين. قد عانوا الكثير وأُجبروا على دفع غرامة كبيرة. وقال الراهب "نيوفيتوس": "المصيبة عمت كل مكان داخل وخارج القدس"(18).
ولم يرغب الباشا بالوصول إلى صلح مع الفلاحين أو تخفيض طلباته وكان يرى بحسم الأمر عسكرياً. وقام أولاً بإرسال ألفين من الجنود من أجل إخضاع بيت لحم ولكنهم لم ينجحوا حتى في الوصول للمدينة. وقام بزيادة جيشه من قبل فلاحين مرتزقة، فإنه أخذ المدفعية مع عزمه على الزحف إلى بيت لحم من أجل تدميرها وحرقها. وسكان المدينة مع حلفائهم أخذوا أملاكهم من الأديرة الثلاثة، وأبدوا استعدادهم لمواجهته. وقد خشي رجال الدين في الأديرة من هدم الأديرة وكنيسة المهد(19).
ب: الصلح بين الطرفين
وقد توسط رجال الدين المسيحيين بين باشا دمشق وبين الفلاحين منعاً لقيام الباشا بتدمير أديرتهم بالمدفعية. حيث حاولوا عقد الصلح بين الطرفين منعاً لإراقة مزيد من الدماء وإلحاق مزيد من التدمير. وبمساعدة الكيخيا وأعيان آخرون نجحت الوساطة ولكن الغرامة قد زادت إلى مائه ألف قرش(20) وقد توصل الباشا إلى الصلح لأن موسم الحج قد اقترب وعليه العودة إلى دمشق للاستعداد لتجهيز قافلة الحج وقيادتها(21).
وقد دفعت الأديرة المسيحية اليونانية ثلاثين ألفاً قاموا باقتراضها. وقد دفع سكان بيت لحم ثلاثين ألفاً كما دفع الأرمن والفرنك أربعين ألفاً أخرى. وبعد أن أعلن سكان بيت لحم تسليمهم وخضوعهم للباشا غادر الباشا إلى القدس تاركاً حراساً في المدينة وفي الأديرة. وقد حاول الباشا بذرائع متعددة مضاعفة المبالغ المفروضة على الأديرة اليونانية إلى ثلاثة أضعاف حيث كانت تدفع سنوياً ستين ألف قرش. وقد توصلوا في النهاية إلى دفع مبلغ مائة وعشرة ألاف قرش. وقد قام رجال الدين برهن جواهر إلى مرابي يهودي غني مقابل قرض بقيمة خمسين ألف قرش بفائدة كبيرة. وقد أصر الباشا على تحصيل كامل المبلغ حالاً. وكان ذلك في إبريل 1825م حيث اقترب عيد الفصح الذي صادف تلك السنة 29 إبريل فأمر الباشا_ طبقاً لمشورة موسى بك كما يحتمل_ بأن باب كنيسة القيامة لن يفتح. وقد انصاع متولي باب الكنيسة لأوامر الباشا ورفض فتح الباب. بعد محاولات لرفع الحظر وافق الباشا على قبول صك بالمبلغ المتبقي (ستون ألفاً) على بطريركية القدس من أحد رؤساء الكنيسة في استانبول(22)