[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
مفهوم التاريخ
ما المقصود بدراسة التاريخ؟ وما دلالة اللفظ اللغوية والاصطلاحية ؟
تدل كلمة التاريخ أو التأريخ في اللغة العربية على الإعلام بالوقت، مضافا إليه ما وقع في ذلك الوقت من أخبار ووقائع(1)، والتاريخ بهذا المعنى اللغوي قديم، فقد قال الجوهري “التاريخ تعريف الوقت والتوريخ مثله، يقال أرخت وورخت”(2)، أما المقريزي فيعرف التاريخ بأنه إخبار عما حدث في العالم الماضي (3).
من خلال هذه التعريفات الوجيزة وغيرها يتضح لنا أن التاريخ عند اغلب المؤرخين هو بحث و دراسة واستقصاء لأخبار الناس وحركتهم، والنظر في أحوالهم الماضية، أما موضوعه فهو الحياة الإنسانية في امتدادها الزمني على الأرض منذ بدء الخلق إلى اليوم، وما يحكم هذه الحياة من عوامل وأسباب.
فإذا كان التاريخ هو حركة الزمن من خلال المجتمع(4)، وموضوعه الإنسان في هذا الزمن(5). فالسؤال الذي يطرح نفسه هو متى بدأ التاريخ ؟ ومتى بدأت العصور التاريخية.؟
بدأت العصور التاريخية منذ أن اخترع الإنسان الكتابة وأخذ يسجل ما يعرفه على الأحجار والكهوف والجلود والألواح الطينية، وتختلف الأبحاث العلمية في تحديد السنة بالضبط إذ تتراوح ما بين خمس آلاف سنة قبل الميلاد وثلاثة آلاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد، لكنها تتفق جميعا أن ذلك تم في بلاد الرافدين(العراق حاليا) على يد السومريين الذين اخترعوا الكتابة المسمارية .
ومن هنا بدأت العصور الإنسانية عهدا جديدا سمي بعصر التاريخ، أما العصور التي سبقت ظهور الكتابة فتسمى عصور ما قبل التاريخ.
ونريد أن نلفت النظر هنا إلى أننا عندما نسمي عصور ما قبل ظهور الكتابة بعصور ما قبل التاريخ لا ننفي مطلقا وجود الأحداث والوقائع خلال هذه الفترة، ولكن المقصود أن ما وقع خلال هذه العهود غير معروف على وجه الدقة والتمحيص، وتبقى التخمينات المبنية على علم الآثار (الأركيولوجيا) هي أساس المعلومات في ظل غياب أي مصدر مكتوب عن تلك المرحلة، ولذلك أطلق عليها مجازا عصور ما قبل التاريخ لتمييزها عن مرحلة ما بعد ظهور الكتابة والتي اتسمت بتسجيل الأحداث.
2- علم التاريخ
يعتبر التاريخ علما من العلوم الاجتماعية، لكن هل للتاريخ قوانين تتحكم فيه؟ وتوجه تطوره بنوع من الضرورة الحتمية؟ وهل من خلال الإحاطة بهذه القوانين يمكننا التنبؤ بسير الأحداث في المستقبل؟
ونقصد هنا بالقوانين مفهومها العلمي الذي يعني ارتباط الأسباب بالمسببات والنتائج بالمقدمات، كما هو الحال في ظواهر الفيزياء والكيمياء والحساب والطبيعة.
لقد ظل الجدل قائما حول هذه المسألة وما يزال، إذ أثار علماء التاريخ والمناهج مسالة ما إذا كان التاريخ علما كالعلوم التجريبية أم لا، وقد استهوى هذا المبحث نفوس كبار المؤرخين، فمنهم من ينفي صفة العلمية عن التاريخ، باعتبار أن العلم يفيد المعرفة اليقينية الدقيقة بحقيقة الشيء، ومنهم من يرى أن التاريخ هو تلك المعرفة العلمية بشؤون الماضي، وأنه بالإمكان نقل مناهج العلوم التجريبية إلى حقل العلوم الإنسانية نظرا لأوجه التشابه بين علم التاريخ وعلوم الطبيعة، فالمنهج التاريخي هو نفسه المنهج المطبق في العلوم الحقة الأخرى، أما المؤرخون الذين ينفون صفة العلمية عن التاريخ، فيرون أن علوم الطبيعة وحدها خاضعة للتفسير والتعليل، لأنها تقوم على التجربة والملاحظة والاستقراء والمقارنة، بخلاف العلوم الإنسانية ومن ضمنها التاريخ فإنها لا تخضع إلا للفهم والتأمل، ويقصد هنا بالتفسير النهج التحليلي الذي يقوم على إبراز العلاقات السببية بين الظواهر، في حين أن الفهم نهج تركيبي يرتكز على معرفة الغير وتأويل النوايا البشرية عبر استعمال أساليب التفكير الفلسفي، باعتبار أن الحقيقة البشرية الماضية ليست معطيات واضحة يستطيع المؤرخ الكشف عنها وعرضها بطريقة تامة وكاملة، بل المؤرخ في الواقع يقوم بمسائلة تلك الحقيقة وإعادة ترتيبها وتنظيمها وبنائها من جديد في إطار تسلسل زمني وربطها بعلاقات منطقية وسببية، فينتهي بذلك إلى تركيب الأحداث التاريخية.
ثم إن هذا الجدل استمر بين أنصار علمية التاريخ ومناوئيهم، وقد ظهر ذلك جليا في القرن التاسع عشر، حيث منح مؤرخو المدرسة المنهجية (الوضعانية ) للتاريخ صفة العلم، باعتبار أن التاريخ لا يتم إلا بالوثائق، وبما أن الوثيقة هي الشاهد الوحيد على أحداث الماضي فان التاريخ علم.
وإذا كان الهدف الذي تسعى إليه الكتابة التاريخية هو الوصول إلى الحقيقة التاريخية كما حدثت في الماضي انطلاقا من الوثائق، فان السؤال الذي يطرح نفسه بحدة هو عن ماهية هذه الحقيقة ؟ وهل الحدث التاريخي الذي يكتبه المؤرخون يعبر حقيقة عما حدث بالفعل؟ أم أن الواقعة التاريخية من صنع مخيلة المؤرخ وحده؟ وبالتالي فهي تخضع للاختلاف من مؤرخ لآخر.
فإذا كان المؤرخ الوضعاني ينطلق في أبحاثه من الوثيقة “تحقق أولا من الوقائع ثم قم باستخلاص نتائجك منها “(6) فإن المؤرخ الحالي هو الذي يضفي صفة الوثيقة على هذا المصدر أو ذاك، تساؤلاته هي التي تدفعه إلى الاحتفاظ بنوع من الوثائق وترك الأخرى جانبا، فهو لا يحشر نفسه في موقف استقرائي” يخرج الأحداث من الوثائق، بل يقوم بجمع الوثائق، ويعمل على تنظيمها وتوزيعها وترتيبها وفرز الملائم منها، ثم يقوم بطبخها، ومن ثم يقدمها بالأسلوب الذي يروق له”(7) .
إن المؤرخ يلجـأ إلى انتقاء مصادره ووثائقه، فهو يقوم بعملية اختيار، مما يطرح أسئلة عديدة حول نوعية الوثائق التي اعتمد عليها، ومدى مصداقيتها، ومن كتبها، وهل هي رسمية أم غير رسمية ؟
ثم ألا يقوم المؤرخ باختيار وثائق معينة على حساب أخرى ربما فقط لتعزيز نتائجه لكي تتوافق مع فرضياته المطروحة مسبقا؟ ثم ماهي حدود الذاتية والموضوعية في الكتابة التاريخية ؟
إن مثل هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا على يقين تام من أن المؤرخ لا يمكنه أن يكتب تاريخا حقيقيا، فثقافة المؤرخ ومنهجيته وتوجهاته الفكرية والثقافية تلعب دورا كبيرا في صناعة الحدث التاريخي.
يقول البروفيسور أوكشوت “التاريخ هو تجربة المؤرخ، إنه ليس من صنع أحد سوى المؤرخ، وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه”(، فالتاريخ لا وجود له إلا في ذهن المؤرخ، فالماضي زال وانقضى، وأخباره الموجودة في الكتب هي من صنع المؤرخ وحده، ومن ثم لم تعد الوثيقة تلك المادة الجامدة التي يحاول المؤرخ الوصول من خلالها إلى ما تم بالفعل في الماضي، أي انه يستحيل إدراك الماضي كما كان بكل تفاصيله وحيثياته، لكن كما نتوهم أنه كان(9)، لأن الحقيقة التي حدثت في الزمن السابق لن تتكرر أبدا، وبالتالي فان المؤرخ يقوم بإعادة بناء الحدث من زاويته الخاصة به، فالتاريخ إذن هو نتاج عملية بناء جديدة، وعليه فان الحقائق التاريخية لا يمكنها بتاتا أن تصلنا كاملة، ولذلك تختلف الرواية السردية من مؤرخ لآخر، لأنها تعتمد على القاعدة التالية : “اجمع وقائعك أولا ثم قم بتحليلها، وأقحم نفسك في خطر رمال التأويل والتفسير”(10)، ومن هنا يتضح لنا جليا أنه لا يمكن عمليا كتابة التاريخ كما تم فعلا، وبشكل مطابق لما وقع في الماضي، ولكن كما نعتقد أنه كان، إن الأمر أشبه ما يكون بإعادة مباراة في كرة القدم بين فريقين بنفس الطريقة، وهذا شيء مستحيل، فالتاريخ لا يعيد نفسه مرتين، لأنه محدود في الزمان والمكان، ويتجه دائما إلى الأمام دون تكرار أو رجوع إلى الوراء.
وهكذا يبقى التاريخ دائما ميدانا مفتوحا للبحث والمراجعة كلما بقيت الحياة مجالا للاكتشاف، وكلما بقي العقل البشري قادرا على التنقيب والتفسير والتجديد.
وإذا كان مؤرخو المدرسة الوضعانية ومن بعدهم مؤرخو مدرسة الحوليات حاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يجعلوا من التاريخ علما مطلقا شأنه شأن العلوم الأخرى، يخضع لقوانين ثابتة وقوى متميزة يمكن قياسها وتحديدها (11)، فإنه بالمقابل هناك من يشكك كثيرا في هذا الطرح خصوصا المؤرخين الجدد الذين يعتبرون أن” التاريخ يختلف عن العلوم التجريبية الأخرى التي تعتمد على الملاحظة والتجربة (..) ومن ثم لا يمكن أن يطلق اسم العلم على أي بحث نظري إلا إذا أمكن استخدامه للتنبؤ بالمستقبل أي إلا إذا مكننا من الكشف عن بعض العلاقات أو القوانين العامة التي يمكن تطبيقها على الظواهر ولا شك أن هذا الشرط لا يمكن تحققه في التاريخ لأنه من العسير القول بان المؤرخ يستطيع استخلاص القوانين العامة التي تمكنه من التنبؤ بالحوادث قبل حصولها “(12).
ويعد هذا الجدل حديث العهد ، باعتبار أن التاريخ لم يدخل دائرة البحث العلمي إلا في وقت متأخر، فحتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وجد في أوربا من يشكك في اعتباره علما من العلوم الإنسانية، إلى أن حسمت القضية حسما قاطعا بتطبيق التقنيات المنهجية على علم التاريخ حيث يتبع المؤرخ طرقا استقرائية يغلب عليها طابع التحليل والنقد والتحقيق والتركيب العقلي للكشف عن العلاقات السببية الموجودة بين الوقائع والأحداث التاريخية، انطلاقا من مختلف الوثائق والمصادر، فينتقل المؤرخ من مجرد سارد لوقائع حدثت في الماضي، إلى مستوى أعمق وأشمل في البحث، إذ يسعى إلى اكتشاف القوانين المتحكمة في هذه الأحداث، فتطورت بذلك الدراسات التاريخية في عالمنا المعاصر تطورا ملموسا(13)، وظهرت العديد من النظريات خاصة في مجال فلسفة التاريخ، باعتبار أن التاريخ لا يمكن فهمه إلا من خلال إمكانات الفكر الفلسفي، فالتاريخ فلسفي بطبيعته مثلما الإنسان مدني بطبعه (14). فما معنى الفلسفة ؟ وما علاقتها بالتاريخ؟.