منتديات مواد الاجتماعيات



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات مواد الاجتماعيات

منتديات مواد الاجتماعيات

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتديات مواد الاجتماعيات


    تاريخ الاندلس

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty عبد الرحمن الثاني ( عبد الرحمن الأوسط )

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:25


    عبد الرحمن الثاني ( عبد الرحمن الأوسط )

    ولاية عبد الرحمن الأوسط

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    عبد الرحمن الثاني, عبد الرحمن الأوسطبعد الحكم بن هشام تولَّى ابنه عبد الرحمن الثاني، وهو المعروف في التاريخ باسم عبد الرحمن الأوسط (فهو الأوسط بين عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر كما سيأتي)، وقد حكم من سنة (206هـ=821م) وحتى آخر الفترة الأولى (عهد القوة) من عهد الإمارة الأموية، وذلك سنة (238هـ=852م)، وتُعَدُّ فترة حكمه هذه من أفضل فترات تاريخ الأندلس، فاستأنف الجهاد من جديد ضدَّ النصارى في الشمال، وألحق بهم هزائم عدَّة[1]، وكان حسن السيرة، هادئ الطباع، محبًّا للعلم، محبًّا للناس[2].



    قال عنه الصفدي: كان عادلاً في الرعية بخلاف أبيه، جوادًا فاضلاً، له نظر في العلوم العقلية، وهو أول من أقام رسوم الإمرة، وامتنع عن التبذُّل للعامَّة، وهو أول من ضرب الدراهم بالأندلس، وبنى سور إِشْبِيلِيَة، وأمر بالزيادة في جامع قُرْطُبَة، وكان يُشَبَّه بالوليد بن عبد الملك، وكان محبًّا للعلماء مقرِّبًا لهم، وكان يُقيم الصلوات بنفسه، ويُصَلِّي إمامًا بهم في أكثر الأوقات... وهو أول مَنْ أدخل كتب الأوائل إلى الأندلس، وعرَّف أهلها بها، وكان حَسَنَ الصورة ذا هيئة، وكان يُكثِر تلاوة القرآن، ويحفظ حديث النبي ، وكان يُقالُ لأيامه أيام العروس، وافتتح دولته بهدم فندق الخمر وإظهار البِرِّ، وتملَّى[3] الناس بأيامه وطال عمره، وكان حَسَنَ التدبير في تحصيل الأموال وعمارة البلاد بالعدل، حتى انتهى ارتفاع بلاده في كل سنة ألف ألف دينار[4].


    عهد عبد الرحمن الثاني

    ومن أهم ما تميَّز به عهد عبد الرحمن الأوسط الأمور الثلاثة التالية:
    أولاً: ازدهار الحضارة العلمية

    ومن أشهر العلماء في عصر عبد الرحمن الأوسط عباس بن فرناس -رحمه الله- (274 هـ=887م)، وكنيته أبو القاسم، وهو من أهل قُرْطُبَة، من موالي بني أمية، وبيته في برابر (تاكرنا) كان في عصر الخليفة عبد الرحمن الأوسط (في القرن التاسع للميلاد)، وله أبيات في ابنه محمد بن عبد الرحمن (المتوفى سنة 273هـ)، وكان فيلسوفًا شاعرًا، له علم بالفلك[5].



    وهو أول مَنِ استنبط في الأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وصنع (الميقاتة) لمعرفة الأوقات، ومَثَّل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها، وهو أول طيار اخترق الجوَّ؛ أراد تطيير جثمانه، فكسا نفسه الريش، ومدَّ له جناحين طار بهما في الجوِّ مسافة بعيدة، ثم سقط فتأذَّى في ظهره؛ لأنه لم يعمل له ذنبًا، ولم يَدْرِ أن الطائر إنما يقع على زِمِكِّه[6].



    ولكنه -برغم هذه المحاولة الرائدة التي فشلت- كان عبقرية هائلة؛ حتى إن الصفدي بَعْدَ كثيرٍ من المدح له يصفه بأنه «له شخص إنسي وفطنة جني»[7].


    ثانيًا: ازدهار الحضارة المادية

    اهتمَّ عبد الرحمن الأوسط بالحضارة المادية (العمرانية والاقتصادية وغيرها) اهتمامًا كبيرًا[8]، فازدهرت حركة التجارة في عهده؛ ومن ثَمَّ كثُرت الأموال[9]؛ ومن المهم أن نعلم أن بلاد الأندلس لم يكن فيها ما نُسَمِّيه بـ «التسوُّل»، فقد كانت هذه العادة في بعض البلاد الإسلامية الأخرى؛ لكنها لم تُعرَف في بلاد الأندلس[10].



    كذلك تقدَّمت وسائل الريِّ في عهده بشكل كبير، وتمَّ رصف الشوارع وإنارتها ليلاً في هذا العمق القديم جدًّا في التاريخ، في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في جهلٍ وظلام دامس، كما أقام القصور المختلفة والحدائق الغنَّاء، وتوسَّع في ناحية المعمار حتى كانت المباني الأندلسية آية في المعمار في عهده –رحمه الله[11].


    ثالثًا: وقف غزوات النورمان

    النورمان هم أهل إسكندنافيا، وهي بلاد تضمُّ الدانمارك والنرويج وفنلندا والسويد، وقد كانت هذه البلاد تعيش في همجية مطلقة؛ فقد كانوا يعيشون على ما يُسَمَّى بحرب العصابات، فقاموا بغزوات عُرِفَت باسم «غزوات الفايكنج»، وهي غزوات إغارة على أماكن متفرِّقة من بلاد العالم، ليس لها من هَمٍّ إلاَّ جمع المال وهَدْم الديار.


    جهاد عبد الرحمن الأوسط

    في عهد عبد الرحمن الأوسط سنة (230هـ=845م) هجمت هذه القبائل على إِشْبِيلِيَة من طريق البحر في أربع وخمسين سفينة، ودخلوها فأفسدوا فسادًا كبيرًا، ودمَّروا إِشْبِيلِيَة تمامًا، ونهبوا ثرواتها، وهتكوا أعراضها، ثم تركوها إلى شَذُونة وألمَرِيَّة ومُرْسِيَة وغيرها من البلاد فأشاعوا الرعب، وعمَّ الفزع[12]، وهذه هي طبيعة الحروب المادية بصفة عامَّة، وشتَّان بين المسلمين في فتحهم للبلاد وبين غيرهم في معاركهم!



    فلمَّا علم عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- بهذا الأمر ما كان منه إلاَّ أن جهَّز جيشه وأعدَّ عُدَّته، وخلال أكثر من مائة يوم كاملة دارت بينه وبينهم معارك ضارية، أُغرِقَت خلالها خمسٌ وثلاثون سفينةً للفايكنج، ومنَّ الله على المسلمين بالنصر، وعاد النورمان إلى بلادهم خاسئين خاسرين[13].



    ولم يجنح عبد الرحمن الأوسط بعدها إلى الدَّعَة أو الخمول، وإنما عمل على تفادي تلك الأخطاء التي كانت سببًا في دخول الفايكنج إلى بلاده فقام بما يلي:

    أولاً: رأى أن إِشْبِيلِيَة تقع على نهر الوادي الكبير الذي يصبُّ في المحيط الأطلنطي، ومن السهولة جدًّا أن تدخل سفن الفايكنج أو غيرها من المحيط الأطلنطي إلى إِشْبِيلِيَة، فقام بإنشاء سور ضخم حول إِشْبِيلِيَة، وحصَّنها تحصينًا منيعًا، ظلَّت بعده من أحصن حصون الأندلس بصفة عامة[14].



    ثانيًا: لم يكتفِ بذلك بل قام -أيضًا- بإنشاء أسطولين قويين؛ أحدهما في الأطلسي والآخر في البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك حتى يُدافع عن كل سواحل الأندلس، فكانت هذه الأساطيل تجوب البحار وتصل إلى أعلى حدود الأندلس في الشمال عند مملكة ليون، وتصل في البحر الأبيض المتوسط حتى إيطاليا.



    وكان من نتيجة ذلك أنه فتح جزر البليار للمرة الثانية[15]، وكذلك كان من نتيجة هزيمة الفايكنج في هذه الموقعة قدوم سفارة من الدانمارك محمَّلة بالهدايا تطلب وُدَّ المسلمين، وتطلب المعاهدة معهم.

    وبلغت البلاد من القوة في عهد الأمير عبد الرحمن هذا أن جاءته الهدايا من القسطنطينية أيضًا[16].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty الإمارة الأموية في الأندلس في عهد الضعف

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:27



    الإمارة الأموية في الأندلس في عهد الضعف

    فترة الضعف في الإمارة الأموية

    الإمارة الأموية في الأندلس في عهد الضعفبوفاة عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله- يبدأ عهد جديد في بلاد الأندلس، وهو فترة الضعف في الإمارة الأموية، ويبدأ من سنة (238هـ=852م) وحتى سنة (300هـ=913م) أي حوالي اثنتين وستين سنة.



    فلقد تولَّى بعد عبد الرحمن الأوسط ابنه محمد بن عبد الرحمن الأوسط، ثم اثنان من أولاده؛ هما: المنذر وعبد الله، وحقيقة الأمر أن الإنسان لَيَتَعجَّب: كيف بعد هذه القوَّة العظيمة والبأس الشديد والسيطرة على بلاد الأندلس وما حولها يحدث هذا الضعف وذلك الانحدار؟!



    فمن سُنن الله U أن الأمم لا تسقط فجأة، بل يأتي السقوط متدرِّجًا وعلى فترات طويلة، ففي عهد الولاة الثاني ظهرت أسباب الضعف؛ منها:

    أولاً: انفتاح الدنيا وحبُّ الغنائم.

    ثانيًا: القَبَلِيَّة والقومية.

    ثالثًا: ظلم الولاة.

    رابعًا: ترك الجهاد.



    وكل هذه الأسباب لم تنشأ فجأة، وإنما كانت بذورها قد نشأت منذ أواخر عهد القوَّة من عهد الولاة أثناء وبعد موقعة بلاط الشهداء.



    إذًا لكي نفهم سبب ضعف الإمارة الأموية علينا أن نرجع قليلاً، وندرس الفترة الأخيرة من عهد القوة، ونبحث فيها عن بذور الضعف، والأمراض التي أدَّت إلى هلكة أو ضعف الإمارة الأموية في هذا العهد الثاني.


    عوامل وأسباب ضعف الإمارة الأموية

    كان من أهمِّ أسباب ضعف الإمارة الأموية ما يلي:
    أولاً: كثرة الأموال وانفتاح الدنيا على المسلمين

    من جديد كانت الدنيا قد انفتحت على المسلمين، وكثرت الأموال في أيديهم، وقد زاد هذا بشدَّة في أواخر عهد القوة من الإمارة الأموية، فقد ازدهرت التجارة كثيرًا، ولم يُوجد هناك في البلاد فقير، وفُتِنَ الناسُ بالمال، وتكرَّر ثانية حديث رسول الله : «فَوَاللهِ مَا الْفَقْرُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»[1]. وقال -أيضًا-: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ»[2] وقد حذَّر الرسول من الدنيا مِرارًا وتكرارًا وقلَّل من قيمتها، فكان يقول : «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ[3] فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟» [4].


    ثانيًا: زِرْياب

    اسم ليس بغريب لكنه كان كدابَّة الأرض التي أكلت مِنْسأَةَ سليمان u؛ فسقط جسده على الأرض؛ زِرْياب هذا كان من مطربي بغداد، تربَّى هناك في بيوت الخلفاء والأمراء؛ حيث كان يُغَنِّي لهم ويُطربهم، وكان مُعَلِّمه هو إبراهيم الموصلي كبير مطربي بغداد في ذلك الوقت[5].



    ومع كرِّ الأيام ومرِّ السنين لمع نجم زرياب في بغداد فغار منه إبراهيم الموصلي، فدبَّر له مكيدة فطُرِدَ من البلاد، أو أنه هدَّده فهرب زرياب من نفسه دون مكائد كما في روايات أخرى.



    وكانت مشارق الأرض الإسلامية ومغاربها متسعة جدًّا في ذلك الوقت، وبعد حيرة وجد زرياب ضالَّته في الأندلس؛ حيث الأموال الكثيرة والحدائق والقصور، وهي صفات كثيرًا ما يعشقها أمثال هؤلاء، كما تكون -أيضًا- أرضًا خصبة لاستقبال وإيواء أمثالهم[6].



    وغالب الأمر أن الأندلس إلى هذه الفترة لم تكن تعرف الغناء، إلاَّ أن زرياب ذهب إلى هناك فاستقبلوه وعظَّمُوه وأحسنوا وِفَادته، حتى دخل على الخلفاء، ودخل بيوت العامَّة ونواديهم، فأخذ يُغَنِّي للناس ويُعَلِّمهم ما قد تَعَلَّمَه في بغداد، ولم يكتفِ زرياب بتعليمهم الغناء وتأليف ما يُسمَّى بالموشحات الأندلسية، لكنه بدأ يُعَلِّمهم فنون (الموضة) وملابس الشتاء والصيف والربيع والخريف، وأن هناك ملابس خاصَّة بكل مناسبة من المناسبات العامَّة والخاصَّة[7].



    ولم يكن الناس في الأندلس على هذه الشاكلة، إلا أنهم أخذوا يسمعون من زرياب ويَتَعَلَّمُون؛ خاصَّة وأنه قد بدأ يُعَلِّمهم -أيضًا- فنون الطعام كما عَلَّمَهُم ملابس الموضة تمامًا، وأخذ يحكي لهم حكايات الأمراء والخلفاء والأساطير والروايات، وما إلى ذلك حتى تعلَّق الناس به بشدَّة، وتعلَّق الناس بالغناء، وكَثُرَ المطربون في بلاد الأندلس، ثم بعد ذلك انتشر الرقص، وكان في البداية بين الذكور ثم انتقل إلى الإناث وهكذا.



    الغريب أن دخول زرياب إلى أرض الأندلس كان في عهد عبد الرحمن الأوسط -رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي اهتمَّ بالعلم والحضارة والعمران والاقتصاد وما إلى ذلك، لكنه -ويا للأسف- ترك زرياب يفعل كل هذه الأمور، وينخر في جسد الأُمَّة دون أن يدري أحدٌ.



    ففي الوقت الذي انتعشت فيه النهضة العلمية وكثُرَ العلماء، كان كلام زرياب المنمَّق وإيقاعه الرَّنَّان يصرف الناس عن سماع العلماء إلى سماعه هو، ويصرف الناس عن سماع حديث رسول الله، وعن سماع قصص السلف الصالح إلى سماع حكاياته العجيبة وأساطيره الغريبة، بل - والله - لقد انصرف الناس عن سماع القرآن الكريم إلى سماع أغانيه والتعلُّق بلهوه ومجونه.



    وليس هذا بعجيب أو جديد؛ ففي بداية دعوة رسول الله في مكة، وحين رآه النضر بن الحارث -وكان من رءوس الكفر- يخاطب الناس بالقرآن فيتأثَّرُون ويؤمنون بهذا الدين، ما كان منه إلاَّ أن قطع أميالاً طويلة وذهب إلى بلاد فارس، وقضى هناك فترة طويلة يتعلَّم حكايات رستم وإسفنديار، ويتعلَّم الأساطير الفارسية، ثم اشترى قينتين (مغنيتين) وعاد إلى مكة، وفي مكة كان النضر بن الحارث يقوم بحرب مضادة للدعوة الإسلامية، فكان إذا وجد في قلب رجل ميلاً إلى الإسلام أرسل له القينتين تُغَنِّيانِه ما كان في بلاد فارس من حكايات رستم وإسفنديار؛ حتى يُلهياه عن هذا الدين، وظلَّ على هذا النحو، وأنزل الله I فيه قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6].

    وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها ما نزلت إلاَّ في الغناء[8].



    وهكذا؛ فالشيطان لا يهدأ ولا ينام حتى في وجود هذه النهضة العلمية؛ {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].

    وكلما زاد الاهتمام بالدين، وارتقى مستوى الإيمان عند الناس، وتعلَّقت قلوبهم بالمساجد، نشط الشيطان، وزادت حركته عن طريق زرياب ومَن سار على نهجه.



    وإنه بالرغم من مرور أكثر من ألفٍ ومائتي عام على وفاة زرياب هذا، إلا أن له شهرة واسعة في كل بلاد شمال إفريقيا، فلم يسمع الكثير من الناس عن السَّمح بن مالك الخولاني وعنبسة بن سحيم -رحمهما الله- ولم يسمعوا عن عُقبَة بن الحجاج، أو سيرة عبد الرحمن الداخل، أو عبد الرحمن الأوسط، ولم يسمعوا عن كثير من قادة المسلمين في فارس والروم وفي بلاد إفريقيا والأندلس؛ لكنهم سمعوا عن زرياب، ويعرفون سيرته وتفاصيل حياته، بل إن موشحاته الأندلسية ما زالت إلى يومنا هذا تُغنَّى في تونس والمغرب والجزائر، وما زالت تُدرَّس سيرته الذاتية هناك على أنه رجل من قوَّاد التنوير والنهضة، ويُمَجَّد في حربه ضدَّ الجمود وكفاحه من أجل الفنِّ، ولا يعلم الناس أن زرياب هذا ومَنْ سار على طريقه كان سببًا رئيسًا في سقوط بلاد الأندلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!


    ثالثًا: عمر بن حفصون

    عمر بن حفصون (240-306هـ=855-919م) كان مسلمًا من المولَّدين؛ أي: من أهل الأندلس الأصليين، كان عمر بن حفصون قاطعًا للطريق، وكان يتزعَّم عصابة من أربعين رجلاً، وحين بدأ الناس يركنون إلى الدنيا ويتركون الجهاد في سبيل الله زاد حجمه، واشتدَّ خطره، وبدأ يثور في منطقة الجنوب؛ حتى أرهب الناس في هذه المنطقة، وأخذ يجمع حوله الأنصار فتوسَّع سلطانه كثيرًا، فسيطر على كل الجنوب الأندلسي.



    وفي سنة (286هـ=899م) قام عمر بن حفصون بعملٍ لم يتكرَّر كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفة عامَّة وتاريخ الأندلس بصفة خاصَّة؛ فلكي يُعَضِّد من قوَّته في آخر عهده، وبعد اثنين وعشرين عامًا من ثورته انقلب على عقبيه وتحوَّل من الإسلام إلى النصرانية، وسمَّى نفسه صمويل؛ وذلك بهدف كسب تأييد مملكة ليون النصرانية في الشمال، وهو وإن كان قد تركه بعض المسلمين الذين كانوا معه إلاَّ أنه نال بالفعل تأييد مملكة ليون، في الوقت الذي تزامن مع توقُّف الجهاد في ممالك النصارى[9].



    بدأت (مملكة ليون) تتجرَّأ على حدود الدولة الإسلامية؛ فبدأت تهاجمها من الشمال وعمر بن حفصون أو صمويل يُهاجمها من جهة الجنوب
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty الأندلس قبل ولاية عبد الرحمن الناصر

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:28


    الأندلس قبل ولاية عبد الرحمن الناصر

    الأندلس أواخر عهد الضعف

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    بعد اثنين وستين عامًا من الضعف الشديد، وبعدما تفاعلت عوامل السقوط مع بعضها البعض، نُلقي الآن نظرة عامَّة على طبيعة الوضع في بلاد الأندلس أواخر عهد الضعف في الإمارة الأموية؛ أي سنة (300هـ=913م)، ونُوَضِّح أهمَّ الملامح التي سادت هذا العصر، والتي كانت من فعلِ ونتاجِ عوامل الضعف.

    أولاً: كثرة الثورات داخل الأندلس

    كانت هناك ثورات لا حصر لها داخل الأندلس، بل واستقلالات في كثير من المناطق، والتي كان من أشهرها استقلال صمويل أو عمر بن حفصون؛ حيث استقلَّ بالجنوب وكوَّن ما يشبه الدُّوَيْلة، فضَمَّ إليه الكثير من الحصون، حتى ضمَّ كل حصون إِسْتِجَة وجَيَّان، التي كانت عند فتح الأندلس من أحصن المناطق الأندلسية على الإطلاق، وكذلك كانت غَرْنَاطَة إحدى المدن التي في حوزته، والتي اتخذ لها عاصمة سمَّاها (بابشتر) وتقع في الجنوب بجوار ألمَرِيَّة على ساحل البحر الأبيض المتوسط[1].

    وكان من هذه الثورات الكبيرة -أيضًا- ثورة ابن حجاج في أشبيلية، وكانت هذه الثورة تمدُّ وتساعد عمر بن حفصون أو صمويل في ثورته ضد قُرْطُبَة[2].

    ومثلها كانت ثورة ثالثة في شرق الأندلس في منطقة بَلَنْسِيَة، ورابعة في منطقة سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي، حيث استقلَّت إمارة سَرَقُسْطَة -أيضًا- عن الإمارة الأموية في قُرْطُبَة، وخامسة في غرب الأندلس يقودها عبد الرحمن الجلِّيقي، وسادسة في طُلَيْطلَة، وهكذا ثورات وثورات أَدَّت في نهاية الأمر إلى أن الحكومة المركزية للإمارة الأموية في قُرْطُبَة لم تَعُدْ تُسيطر على كل بلاد الأندلس إلاَّ على مدينة قُرْطُبَة وحدها، إضافة إلى بعض القرى التي حوله[3].

    ومن ثَمَّ فقد انفرط العِقد تمامًا حتى سنة (300هـ= 913م)، وتوزَّعت الأندلس بين كثير من القوَّاد، كُلٌّ يحارب الآخر، وكُلٌّ يبغي مُلكًا ومالاً.

    ثانيًا: تكوُّن مملكة نافار



    مملكة نافارذكرنا -سابقًا- أنه كانت هناك مملكتان نصرانيتان؛ هما مملكة ليون في الشمال الغربي ومملكة أراجون في الشمال الشرقي وعاصمتها بَرْشُلُونَة، اللتان تكوَّنتا زمن ضعف المسلمين في عهد الولاة الثاني، وهنا وفي الفترة الثانية من فترتي الإمارة الأموية تكوَّنت في الشمال -أيضًا- مملكة نصرانية ثالثة كانت قد انفصلت عن مملكة ليون، وهي مملكة أو إمارة نافار، وتُكتَب في بعض الكتب العربية (نباره)، وتُعرَفُ الآن في إسبانيا بإقليم الباسك، ذلك الإقليم الذي يحاول الانشقاق عن إسبانيا.

    هذه الممالك النصرانية الثلاث بعد أن كانت تخاف المسلمين في العهد الأول للإمارة الأموية، تجرَّأت كثيرًا على البلاد الإسلامية؛ فهاجمت شمال الأندلس، وبدأت تقتل المسلمين المدنيين في مدن الأندلس الشمالية.

    ثالثًا: قتلُ ولي العهد محمد بن عبد الله

    أمر خطير آخر قد ظهر، وهو يُعَبِّرُ عن مدى المأساة والفتنة في ذلك الوقت، وهو أنَّ وَلِيَّ العهد للأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط الذي كان يحكم البلاد في ذلك الوقت قتله أخوه المطرف بن عبد الله، وكان ولي العهد هذا يُسمَّى محمد بن عبد الله، فأصبح الوضع من الخطورة بمكان[4].

    وهكذا يكون الحال حين يختلف المسلمون ويتفرَّقون، وحين ينشغلون بدنياهم وبزريابهم وبأنفسهم؛ حكومات نصرانية في الشمال تهاجم المسلمين، ثورات واستقلالات في الداخل، قتلٌ لولي العهد القادم، بلاد إسلامية واسعة بغير ولي عهد في هذه المرحلة الحرجة.

    رابعًا: ظهور نجم الدولة العبيدية الفاطمية الشيعية

    زادت الأمور تعقيدًا في بلاد الأندلس بظهور دولة جديدة في بلاد المغرب، كانت من أشدِّ الدول خطورة على بلاد الأندلس، وهي الدولة المسمَّاة بالفاطمية، واسمها الصحيح الدولة العبيدِية.

    ظهرت الدولة العبيدية في بلاد المغرب العربي سنة (296هـ= 909م)؛ أي: قبل سنة (300هـ=913م) [5] (نهاية الفترة الثانية من الإمارة الأموية) بأربع سنوات فقط، وكانت دولةً شيعيةً خبيثةً؛ همُّها الأول قَتْل علماء السُّنَّة في بلاد المغرب العربي، ومحاولة نشر نفوذها في هذه المنطقة، فانتشرت بصورة سريعة من بلاد المغرب إلى الجزائر وتونس، ثم إلى مصر والشام والحجاز وغيرها.

    وأعلن ابن حفصون الطاعة لعبيد الله المهدي[6]، ولا شَكَّ أن ذلك لم يكن حبًّا في العبيدين؛ ولكن احتياجًا لمددهم وأموالهم.

    خامسًا: تَردِّي الأوضاع في بقية أقطار العالم الإسلامي

    إذا تخطَّيْنَا بلاد الأندلس وألقينا نظرة على مجمل أقطار العالم الإسلامي في الشرق والغرب وجدنا ما يلي:

    مصر والشام يحكمها الإخشيديون، الموصل يحكمها ابن حمدان، البحرين واليمامة يحكمها القرامطة، أصبهان يحكمها بنو بويه، خراسان يحكمها نصر الساماني، طبرستان يحكمها الدَّيْلَم، الأهواز يحكمها البُريديون، كرمان يحكمها محمد بن إلياس، الدولة العباسية أو الخلافة العباسية لا تحكم إلاَّ بغداد فقط، ولا تبسط سيطرتها حتى على أطراف العراق.

    هكذا كان الوضع في أقطار العالم الإسلامي؛ لم يكن هناك أيُّ أمل في أيِّ مدد إلى بلاد الأندلس؛ حيث كانت كلها أقطار مشتتة ومفرقة، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!

    المنحة في ظل المحنة

    وإن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت ليرى أنه لا محالة من انتهاء الإسلام فيها، وأن ما هي إلا بضعة شهور أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى إلى الأندلس ويُحكِموا قبضتَهم عليها، ولن تُنقَذَ إلاَّ بمعجزة جديدة مثل معجزة عبد الرحمن الداخل -رحمه الله-.

    وبالفعل فإن الله I بمنِّه وجُودِه أنعم على المسلمين بتلك المعجزة للمرَّة الثانية، فمَنَّ عليهم بأمير جديد، وحَّد الصفوف وقوَّى الأركان، وأعلى من شأن بلاد الأندلس حتى أصبحت في عهده أقوى ممالك العالم على الإطلاق، وأصبح هو أعظم ملوك أوربا في زمانه بلا منازع، إنه عبد الرحمن الناصر.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty عبد الرحمن الناصر

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:30


    عبد الرحمن الناصر

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    رأينا كيف كان الوضع أواخر عهد الضعف من الإمارة الأموية، وكيف أن الناظر إلى بلاد الأندلس في ذلك الوقت يرى أنه لا محالة من انتهاء


    هو أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المرواني، وأُمُّه

    الإسلام فيها، وأنها ما هي إلاَّ بضعة أشهر أو سنوات قلائل حتى يدخل النصارى الأندلسَ ويُحكِمُوا قبضتهم عليها.


    عبد الرحمن الناصر (277-350هـ= 891-961م)

    عبد الرحمن الناصرهو أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المرواني، وأُمُّه أمُّ ولدٍ تُسمَّى (ماريا) أو (مرته أو مزنة)، وجِدُّه السادس هو عبد الرحمن بن معاوية الأموي - صقر قريش - وقد وُلِدَ في قُرْطُبَة وعاش بها.



    نشأ عبد الرحمن بن محمد يتيمًا؛ فعندما كان عُمرُه عشرين يومًا قَتَلَ عمُّه أباه؛ لأنه كان مؤهلاً للإمارة بعد أبيهما عبد الله الأمير السابع من أمراء الأمويين بالأندلس، وفتح الصبي عينيه على الدنيا ليجد الحياة قاتمة أمامه، ولم يكن البلاط الأموي المشغول بكثير من الأحداث -من ثورات داخلية ومطامع خارجية- لِيشغلَ نفسه بطفل صغير كهذا، غير أن جدَّه الأمير عبد الله -الذي اتصف بالورع والتقوى والتقشف وحب الناس، وكان على درجة عالية من التدين- هذا الجد هو الذي تولَّى تربيته، فنال الصبي الصغير نصيبًا كبيرًا من رعايته، وكان جزاءُ عَمِّه القتل، فقد قتله أبوه عبد الله، بعد أن تأكد من براءة أخيه مما اتُّهم به، ثم اهتم الأمير عبد الله بحفيده اهتمامًا كبيرًا وأولاه عناية خاصة[1]؛ ولعلَّ ذلك عطفٌ وشفقةٌ عليه بعد مقتل أبيه، ونشأ عبد الرحمن في هذا الجو المليء بالأحداث المتتابعة.



    وكان عبد الرحمن من ناحيته فتى شديد النجابة والنبوغ، وأبدى بالرغم من حداثته تفوقًا في العلوم والمعارف إلى درجة تسمو على سنه، ودرس القرآن والسُّنَّة وهو طفل لم يجاوز العاشرة، وبرع في النحو والشعر والتاريخ، ومهر بالأخص في فنون الحرب والفروسية، حتى كان جده يُرَشِّحه لمختلف المهام، ويندبه للجلوس مكانه في بعض الأيام والأعياد لتسليم الجند عليه، وهكذا تعلَّقت آمال أهل الدولة بهذا الفتى النابه، وأضحى ترشيحه لولاية العهد أمرًا واضحًا مقضيًّا، بل يقال: إن جده قد رشحه بالفعل لولاية عهده، وذلك بأن برئ بخاتمه إليه حينما اشتدَّ عليه المرض كإشارة باستخلافه[2].


    ولاية العهد لعبد الرحمن الناصر

    لا شَكَّ أن سيرة عبد الرحمن الداخل -الجد الأكبر لعبد الرحمن- كانت تلهمه، كما أن قصة تأسيسه للدولة الأموية بعد عناء وجهاد وإرادة فولاذية كانت نصب عين عبد الرحمن، وهو يخوض ما يمكن أن نُسَمِّيَه رحلة التأسيس الثاني.



    ومن الطرائف التي تندر في التاريخ أن أحدًا من أعمام عبد الرحمن، ولا من أعمام أبيه، حاول أن يعترضه في المنصب أو ينازعه فيه[3]، بل كانوا أول مَنْ بايعوه حتى تكلم بلسانهم عمه أحمد بن عبد الله قائلاً: «والله! لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنتُ أنتظر هذا من نعمة الله علينا، فأسأل الله إيزاع الشكر، وتمام النعمة، وإلهام الحمد»[4].


    وقفات مع عبد الرحمن الناصر

    إن دراسة كافَّة جوانب حياة عبد الرحمن الناصر لَتحتاج إلى دراسة جادَّة متأنِّية، وعناية خاصَّة تَفُوق هذه السطور، إلا أن هناك بعض الإشارات العامَّة رأينا أن نقف أمامها بعض الشيء، فحينما تولى الحُكم كان يبلغ من العمر اثنتين وعشرين سنةً هجريةً[5]؛ أي: إحدى وعشرين سنةً ميلادية، وبِلُغَةٍ أخرى فهو طَالِبٌ بالفرقة الثالثة أو الرابعة بالجامعة في أيامنا هذه، هذه واحدة.



    أمَّا الثانية فإنه يُخطئ مَنْ يَظُنُّ أن تاريخ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- يبدأ منذ هذه السن أو منذ ولايته هذه على البلاد، فقد رُبِّي عبد الرحمن الناصر منذ نعومة أظافره تربية قلَّما تتكرَّر في التاريخ.



    لم يكد يرى عبد الرحمن الناصر نورَ الدنيا حتى قُتِلَ أبوه، وهو بعدُ لم يبلغ من العمر إلا ثلاثة أسابيع فقط؛ ومن ثَمَّ قام على تربيته جدُّه الأمير عبد الله بن محمد، فربَّاه –رحمه الله- ليقوم بما لم يستطع هو القيام به، ربَّاه على سعة العلم وقوة القيادة، وحب الجهاد، وحُسن الإدارة؛ ربَّاه على التقوى والورع، ربَّاه على الصبر والحلم وعلى العزة والكرامة، ربَّاه على العدل مع القريب والبعيد، ربَّاه على الانتصار للمظلوم، ربَّاه ليكون عبدَ الرحمن الناصر.



    وهي رسالة إلى كل آباء المسلمين وأُولي الأمر منهم: إن لم نكن نحن عبد الرحمن الناصر فليكن أبناؤنا عبد الرحمن الناصر، وإذا كان كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه؛ فما بال تربية أبنائنا اليوم؟! هل نأمرهم بالصلاة عند سبع ونضربهم عليها عند عشر؟! هل نُحَفِّظ أبناءَنا القرآن، أم ندعهم يتعلمون اللغات فقط، ويحفظون الأغاني، وينشغلون بالكرتون؟! وتُرَى ما قدوة أولادنا الآن؟ وبمَنْ يتمثَّلون ويُريدون أن يكونوا مثلهم؟! أعباء ضخمة، ولكن: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»[6].



    والثالثة أنَّ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- حين تولَّى الحُكم كان على ثقةٍ شديدةٍ بالله U، وفي الوقت ذاته على ثقةٍ شديدةٍ بنفسه، وأنه قادر على أن يُغَيِّر، فهو يعي قول الله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160]. فلم يدخل قلبَه يومًا شكٌّ أو يأسٌ أو إحباطٌ من صعوبة التغيير أو استحالته، أو أنَّه لا أمل في الإصلاح.. فقام وهو ابن اثنين وعشرين عامًا، وحمل على عاتقه مهمَّة ناءت بها السموات والأرض والجبال؛ مهمَّة هي من أثقل المهام في تاريخ الإسلام.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:32


    عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلس

    عبد الرحمن الناصر وتغيير التاريخ

    يتولَّى عبد الرحمن الناصر الحُكم ويقوم بأمر الإمارة, فإذا به -وسبحان الله- يُحيل الضعف إلى قوَّة, والذلَّ إلى عزَّة, والفُرقَة إلى وَحْدَة, ويُبَدِّد الظلام بنور ساطع يُشرق في كل سماء الأندلس تحت مجدٍ وسيادةٍ وسلطان.



    بعد تَوَلِّي عبد الرحمن الناصر الحُكم -وبهذه المؤهلات السابقة, وبهذه التربية الشاملة لكل مقوِّمَات الشخصية الإسلامية السوِيَّة, وبهذه الثقة الشديدة بالله وبنفسه- أقدم على تغيير التاريخ, فقام بما يلي:
    أولاً: إعادة توزيع المهام والمناصب وإسناد الأمر إلى أهله

    عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلسحين تولَّى الحُكمَ لم يكن عبد الرحمن الناصر يملك من بلاد الأندلس سوى قُرْطُبَة وما حولها من القرى[1], ورغم أنها تُعَدُّ أكبر بلاد الأندلس, وتُمثِّل مركز ثقل كبير لكونها العاصمة, إلا أنها لم تكن تمثِّل أكثر من عُشْرِ مساحة الأندلس, وبدأ عبد الرحمن الناصر من هذه المساحة الصغيرة يُغَيِّر من التاريخ.



    فقام بتغيير البطانة التي حوله -أو فريق العمل بمصطلحاتنا الآن- فعزل مَنْ رآه غير صالح للمنصب الذي هو فيه, وولَّى مَنْ رأى فيهم الكفاءة والمقدرة وحُسن تدبير الأمور[2].



    ثم أعلى من شأن العلماء, ورفع منزلتهم فوق منزلته نفسه, ورضخ لأوامرهم ونواهيهم, فطبَّق ذلك على نفسه أولاً قبل أن يُطَبِّقه على شعبه, واجتهد قدر طاقته في تطبيق بنود الشريعة.



    ولقد وَرَدَ أن عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- كان يحضر خطبة الجمعة, وكان يخطبها المنذر بن سعيد, وكان من أكبر علماء قُرْطُبَة في ذلك الوقت, وكان شديدًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, حتى على عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- الخليفة والأمير, وكان عبد الرحمن الناصر قد بنى لنفسه قصرًا كبيرًا, فأسرف المنذر في الكلام, وأسرع في التقريع لعبد الرحمن الناصر لبنائه ذلك القصر.



    وحين عاد عبد الرحمن الناصر إلى بيته قال: «والله! لقد تعمَّدني منذر بخطبته, وما عَنى بها غيري, فأَسرَفَ عليَّ, وأَفرَط في تقريعي, ولم يُحْسِن السياسة في وعظي؛ فزعزع قلبي, وكاد بعصاه يقرعني».



    وهنا أشار عليه رجل ممن كانوا حوله بعزله عن خطبة الجمعة, فردَّ عليه عبد الرحمن الناصر قائلاً: «أَمِثْلُ منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه يُعزَل؟! يُعزَل لإرضاء نفسٍ ناكبةٍ عن الرشد, سالكةٍ غيرَ قصد؟! هذا والله لا يكون, وإني لأستحي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعًا مثل منذر في ورعه وصِدْقِه». وما عزله حتى مات[3].



    وعلى مثل هذه المبادئ وهذه المعاني بدأ عبد الرحمن الناصر يُربِّي أهل قُرْطُبَة, وكان في انصياعه هو قدوة للناس جميعًا.


    ثانيًا: القضاء على الثورات

    بعد الانتهاء من الشأن الداخلي في قُرْطُبَة وتهيئته تمامًا بدأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- يتجه إلى المحيط الخارجي؛ حيث الثورات المتعدِّدة في كل أرض الأندلس, فأرسل حملة يقودها عباس بن عبد العزيز القرشي إلى قلعة رباح, التي كان قد ثار فيها واحد من زعماء البربر يُدعى الفتح بن موسى بن ذي النون, ومعه حليف قوي آخر يُدعى «أرذبلش», وبعد معارك شديدة هُزم الفتح بن موسى وقُتل أرذبلش, وبعث برأسه إلى قُرْطُبَة حيث علَّقها الناصر على باب السدة لإرهاب الثائرين, وطهرت قلعة رباح وما حولها من الثورة.. كان ذلك في ربيع الآخر من عام (300 هـ), أي بعد شهر واحد من جلوسه على كرسي الملك.



    ثم أرسل سرية أخرى في جمادى الأولى إلى الغرب فاستردت مدينة إِسْتِجَة, التي كان يُسيطر عليها أتباع ابن حفصون, فحققت النصر على العصاة, وهدمت أسوار المدينة وقنطرتها الواقعة على نهر شنيل؛ لتعود معزولة لا يمكنها أن تثور مرَّة أخرى.



    ثم خرج عبد الرحمن الناصر بنفسه قائدًا على حملة عسكرية, فكان في توليه القيادة ما أثار نفوس الجنود بالحماسة والعزم, وتوجَّه بها إلى عُمَر أو صمويل بن حفصون (240-306هـ=855-919م)[4] وكان لتبكيره إليه ونهوضه إليه بنفسه ثلاثة أسباب:

    الأول: أن هذا الرجل لا يختلف اثنان على أنه يستحقُّ القتل؛ وذلك لأنه ارتدَّ عن دين الله , وفارق جماعة المسلمين بخروجه عليهم؛ ومن ثَمَّ فقد أصبح قتاله فرضًا على المسلمين.

    والثاني: أن ابن حفصون كان الثائر الأقوى والتهديد الأكبر من بين الثائرين في الجزيرة, وتركه على حاله ومواجهة صغار الثائرين, يُقَوِّي مركزه, كما يُقَوِّي نفوس الثائرين الآخرين, ويضع صورة الحكم في قُرْطُبَة في حرج شديد, إذا ظهر أنها تتأخَّر عن مواجهته.

    والثالث: أنه يستطيع بذلك أن يحفِّزَ أهل قُرْطُبَة الذين كانوا قد ألفوا الثورات في هذه الآونة؛ حيث المعركة في منتهى الوضوح؛ فهي بين المسلمين والمرتدين.


    في الطريق للقضاء على ثورة صمويل بن حفصون

    استمرَّ مدى هذه الحملة طيلة ثلاثة أشهر كاملة؛ هي شعبان ورمضان وشوال من سنة (300هـ= 913م) في العام نفسه الذي تولَّى فيه –رحمه الله, واستردَّ فيها مدينة جَيَّان, وهي من المدن الحصينة في الأندلس, كما استردَّ فيها زهاء سبعين حصنًا من أمهات المعاقل الثائرة, وهزم فيها جيوش ابن حفصون هزائم منكرة[5].



    ولكن ما زالت قوة صمويل بن حفصون كبيرة جدًّا؛ فالمدد يأتيه من الشمال من دول النصارى, ويأتيه -أيضًا- من الجنوب من الدولة العبيدية (الفاطمية), هذا فضلاً عن إمدادات مدينة إِشْبِيلِيَة, التي كان عليها حاكم مسلم من بني حجاج, لكنه كان متمرِّدًا على سلطة قُرْطُبَة, وكان يملك جيشًا مسلمًا كبيرًا.

    وفكَّر عبد الرحمن الناصر كثيرًا في كيفية قطع هذه الإمدادات عن صمويل بن حفصون, واهتدى أخيرًا في أن يبدأ بالهجوم على مدينة أشبيلية أكبر مدن الجنوب بعد قُرْطُبَة؛ وذلك بمنطق النزعة الإسلامية التي غلبت عليه؛ حيث أَمَّل إن هو ذهب إلى إِشْبِيلِيَة واستطاع أن يُرغِم حَاكِمَها على الانضمام له, أو الانصياع إليه بالقوة أن ينضم إليه جيش إِشْبِيلِيَة المسلم الكبير, وبذلك تقوى جيوش الدولة الأموية, وتقوى شوكته.



    وبالفعل -وبعونٍ من الله- كان له ما أمَّل؛ حيث ذهب إلى إِشْبِيلِيَة بعد أقل من عام واحد من ولايته في سنة (301هـ= 914م), واستطاع أن يضمَّها إليه؛ فقويت بذلك شوكته وعظم جانبه, فعاد إلى صمويل بن حفصون بعد أن قطع عنه المدد الغربي الذي كان يأتيه من إِشْبِيلِيَة, واستردَّ منه جبال رُنْدة ثم شَذُونَة ثم قَرْمُونَة[6], وهي جميعًا من مدن الجنوب.



    تعمَّق عبد الرحمن الناصر بعد ذلك ناحية الجنوب حتى وصل إلى مضيق جبل طارق فاستولى عليه, ويكون بذلك -أيضًا- قد قطع الإمدادات والمساعدات التي كانت تأتيه من الجنوب من الدولة العبيدية (الفاطمية) عن طريق مضيق جبل طارق, وسعى عبد الرحمن الناصر إلى أكثر من هذا؛ حيث قطع -أيضًا- طريق الإمدادات التي كانت تأتيه من الدول النصرانية في الشمال عن طريق المحيط الأطلسي, ثم مضيق جبل طارق, ثم البحر الأبيض المتوسط, ثم إنه وجد في البحر مراكب لابن حفصون كانت تأتيه بالمدد من بلاد المغرب العربي فأحرقها؛ وبذلك يكون عبد الرحمن الناصر قد قطع عن صمويل بن حفصون كل طرق الإمدادات والمساعدات التي كانت تمدُّه وتُقَوِّيه[7].



    ولم يجد صمويل بن حفصون بُدًّا من طلب الصلح والمعاهدة من عبد الرحمن الناصر على أن يُعطيه اثنين وستين ومائة حصن من حصونه, ولأن البلاد كانت تشهد موجة من الثورات والانقسامات يُريد عبد الرحمن الناصر أن يتفرَّغ لها, فضلاً عن أنه سيضمن في يده اثنين وستين ومائة حصن, وسيأمن جانب عدوِّه؛ فقد قَبِلَ المعاهدة ووافق على الصلح مع صمويل بن حفصون[8].


    عبد الرحمن الناصر يُفاجئ الجميع ويتجه نحو الشمال الغربي

    أصبحت قوَّة عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- تضمُّ قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة وجَيَّان وإِسْتِجَة, وهي جميعًا من مدن الجنوب, إضافة إلى حصون أخرى كثيرة - كما ذكرنا - وكل هذه المساحة كانت تُمَثِّل تقريبًا سُدُسَ مساحة الأندلس الإسلامية في ذلك الوقت, هذه أولاً.

    وثانيًا: أن صمويل بن حفصون ما زال يملك حصونًا كثيرة, ويُسيطر سيطرة كاملة على الجنوب الشرقي من البلاد, لكن قُطِعت عنه الإمدادات الخارجية؛ سواء من النصارى أو الدولة العبيدية (الفاطمية) أو إِشْبِيلِيَة, فصار خطره محدودًا بالمقارنة بالحال من قبل.

    وثالثًا: كان هناك تمرُّد في طُلَيْطِلَة (تقع في شمال قُرْطُبَة), ورابعًا: تمرُّد في سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي, وخامسًا: تمرُّد في شرق الأندلس في بَلَنْسِيَة, وسادسًا: تمرُّد في غرب الأندلس يقوده عبد الرحمن الجِلِّيقي.

    أي أن الأندلس في عام (302هـ= 915م) كانت مقسمة إلى ستة أقسام؛ قسم واحد فقط في يد عبد الرحمن الناصر, ويضمُ قُرْطُبَة وإِشْبِيلِيَة وما حولهما, بما يُقارب سدس مساحة الأندلس -كما ذكرنا- والخمسة الأخرى مُوَزَّعة على خمسة متمردين, والمتوقَّع - إذًا - أن يحاول عبد الرحمن الناصر من جديد مقاومة أحد مراكز التمرُّد هذه, وبخاصة الأقرب منه.





    وإن المرء ليقف متعجِّبًا حين يعلم أن عبد الرحمن الناصر ترك كل هذه التمرُّدات, واتَّجه بصره صوب الشمال الغربي؛ صوب مملكة ليون النصرانية مباشرة, فأرسل أحد قادته, فانتصر وغنم وسبى, ثم عاد في العام نفسه, غير أن النصارى أرادوا الانتقام لهزيمتهم, فعادوا لمهاجمة ديار المسلمين, فأُرْسِلَتْ إليهم صائفة في العام التالي, غير أن المسلمين هُزموا فيها, فتجرَّأ النصارى من بعدُ على مهاجمة الثغور, فأرسل عبد الرحمن الناصر إليهم في العام التالي جيشًا قويًّا أوقع بهم هزيمة مريرة[9].



    فكأنه أراد أن يُعَلِّم الناس أمرًا ويُرسل إليهم برسالة في منتهى الوضوح كانت قد خَفِيَتْ عليهم؛ مفادها: أن الأعداء الحقيقيين ليسوا المسلمين في الداخل, إنما هم النصارى في الشمال؛ مملكة ليون, ومملكة نافار, وبهذا العمل استطاع عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- إحراج المتمردين إحراجًا كبيرًا أمام شعوبهم, كما استطاع أن يُحَرِّك العاطفة في قلوب الشعوب نحوه, وكذلك تتحرك عواطف الشعوب نحو مَنْ يُدافع عن قضاياها الخارجية, ونحو مَنْ يحارب أعداءها الحقيقيين.



    وهذه نصيحة إلى أولياء أمور المسلمين بألا يتهاونوا بعواطف الشعوب, وأن يُقَدِّروها حقَّ قدرها, وأن يستميلوها بالتوجُّه نحو الأعداء الحقيقيين, بدلاً من الصراع مع الجار أو القُطر المسلم, فإذا كانت القضية هي فلسطين, أو الشيشان, أو كشمير, أو غيرها من قضايا المسلمين كانت الوَحْدة والتجمُّع, وكان الانسجام وعدم الفُرقة.



    لم يمضِ عامان آخران حتى جاءته هدية من رب العالمين, ألا وهي موت صمويل بن حفصون مرتدًا وعلى نصرانيته في سنة (306هـ=919م), ذلك الثائر الأخطر في تاريخ الأندلس منذ الفتح, والذي ظلَّت ثورته تؤرِّق بلاط العاصمة الأندلسية ثلاثين عامًا, وكانت هذه بداية النهاية لمعاقل ابن حفصون التي تنازعها أولاده فافترقوا, ومنهم مَنِ انحاز إلى الناصر, فسهل على الناصر بعد مجموعة من المعارك الاستيلاء على كل معاقل ابن حفصون وتطهيرها في عام (316 هـ) [10].


    عبد الرحمن الناصر وتوحيد الأندلس

    لم يلتقط عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- أنفاسه, وقام في سنة (308هـ= 921م) بالتحرُّك نحو نصارى الشمال بجيش كثيف, وفي طريقه نحو الشمال خاف صاحب طُلَيْطِلَة المستقل بها أن يغزوه عبد الرحمن فخرج بجيشه مع الناصر مُظهرا الطاعة, واتجه الجيشان نحو غزو الشمال[11], بعدها أصبح الطريق آمنًا نحو الشمال مباشرة؛ حيث سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي وطُلَيْطِلَة في وسط الشمال قد أصبحتا في يده.



    وفي العام نفسه (308هـ= 921م) وعمره – آنذاك - ثلاثون سنة فقط, قام عبد الرحمن الناصر على رأس حملة ضخمة جدًّا باتجاه نصارى الشمال, فكانت غزوة موبش الكبرى بين عبد الرحمن الناصر من جهة, وجيوش ليون ونافار مجتمعة من جهة أخرى, واستمرَّت هذه الغزوة طيلة ثلاثة أشهر كاملة, حقق فيها عبد الرحمن الناصر انتصارات ضخمة وغنائم عظيمة, وضمَّ إليه مدينة سالم وكانت تحت يد النصارى[12].



    وبعد أربعة أعوام من غزوة موبش وفي سنة (312هـ= 924م) قام عبد الرحمن الناصر-رحمه الله- بنفسه بحملة ضخمة أخرى على مملكة نافار, واستطاع في أيام معدوداتٍ أن يكتسحها اكتساحًا, ويضم إلى أملاك المسلمين مدينة بنبلونة عاصمة نافار, ثم بدأ بعدها يُحَرِّر الأراضي التي كان قد استولى عليها النصارى في عهد ضعف الإمارة الأُموية.



    وفي سنة (316هـ=928م) أرسل عبد الرحمن الناصر حملة أخرى إلى شرق الأندلس؛ لقمع التمرد الذي كان هناك, وضَمَّها بالفعل إلى أملاكه, ثم في العام نفسه أرسل حملة أخرى إلى غرب الأندلس فاستطاعت هزيمة عبد الرحمن الجِلِّيقي؛ ومن ثَمَّ ضمَّ غرب الأندلس إلى أملاكه من جديد[13].



    وبذلك وبعد ستة عشر عامًا من الكفاح المضني يكون –رحمه الله- قد وحَّد الأندلس كلها تحت راية واحدة؛ وحَّدها جميعًا ولم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية وثلاثين عامًا بعدُ.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty الدولة العامرية في الأندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:41


    الدولة العامرية في الأندلس

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    الدولة العامرية (366-399هـ= 976-1009م)




    محمد بن أبي عامر استقرَّ الأمر لمحمد بن أبي عامر؛ فلقد أضحى الحاكم الفعلي لبلاد الأندلس؛ فهو الحاجب القوي، الذي يسوس البلاد والعباد، ويغزو صيفًا وشتاءً فينتصر في كل معاركه مع النصارى، بينما الخليفة الذي كان صغيرًا يكبر على مهل، ولا يدري من حال مملكته شيئًا.

    وقبض الحاجب محمد بن أبي عامر على أَزِمَّة السلطان في الدولة، وصار إليه الأمر والنهي والتولية والعزل، وإخراج الجيوش للجهاد، وتوقيع المصالحات والمعاهدات، حتى عُرِفَ ذلك العهد بعهد الدولة العامرية.

    والدولة العامرية هي ذروة تاريخ الأندلس، وأقوى فتراتها على الإطلاق، ففيه بلغت الدولة الإسلامية الغاية في القوَّة، فيما بلغت الممالك النصرانية أمامها الغاية من الضعف، وقد بدأت فترة هذه الدولة فعليًّا منذ سنة (366هـ= 976م)، منذ أن تولى محمد بن أبي عامر أمر الوصاية على هشام بن الحكم، وظَلَّت حتى سنة (399هـ= 1009م)؛ أي: أنها استمرَّت ثلاثًا وثلاثين سنة متصلة، وتُعَدُّ الدولة العامرية مندرجة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن الخليفة ما زال قائمًا، وإن كان مجرَّد صورة.

    ابن أبي عامر وتوطيد حكمه

    من الأهمية بمكان -ونحن نناقش فترة محمد بن أبي عامر- أن نتذكر أنه بلا عصبة، أي ليست وراءه عائلة يتقوى بها، وتتعصب له على نحو ما كان مهيَّأ للعائلات الكبيرة؛ كبني أمية وبني العباس في المشرق، وغيرهم من العائلات الأقل، ولنتذكر أن عامل «العصبية» هذا هو الذي كان يحكم كل العالم إلى ما قبل أن تنشأ الجمهوريات الحديثة، فكان لا بُدَّ للملك أو الحاكم أن تكون له عصبة ترفعه وتحميه ويتكئ عليها.

    وحين دخل عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس استفاد من تناحر العصبيات العربية الكائنة فيها، فحاول التحالف مع القيسية، ثم تحالف مع اليمنية وبهم انتصر، ولقد كان الداخل بعيد النظر حين علم أنه إن أراد إقامة دولة للإسلام فلا بُدَّ له من أن يقضي على العصبيات، وأن يتخذ لنفسه رجالاً لا عصبية لهم، فأكثر –رحمه الله- من اتخاذ الموالي، الذين صار لهم الشأن الأكبر في عهد الإمارة الأموية، بينما تراجعت رجالات العرب، وابتعدت عنهم المناصب، وصاروا في الدولة في مكانة تشريفية؛ يحضرون المجالس ويُقَدَّمون في المناسبات، وما إلى ذلك.

    وكذلك -أيضًا- فعل عبد الرحمن الناصر؛ فلقد أكثر من الاعتماد على البربر الذين عبروا إلى الأندلس من عدوة المغرب، ونستطيع أن نقول بأن نجاح الدولة الأندلسية كان من أهم أسبابه اختفاء العرب ذوي العصبيات من مناصب الحكم.

    وكذلك فعل ابن أبي عامر؛ فلقد كان البربر عُدَّته ورجاله، ولقد استكثر منهم، وضمهم إليه واستقوى بهم، وكان ابن أبي عامر قد تولى قضاء عدوة المغرب في أيام الحكم المستنصر، وساهم بذكائه وحسن سياسته في جعل أهم قبائل البربر المغربية -وهم بني برزال، وزعيمهم جعفر بن حمدون- يتخلَّوْن عن تحالفهم مع العبيديين (الفاطميين)، وينحازون بالولاء إلى قُرْطُبَة عاصمة الأمويين، وكان من نتائج هذا أن فقد العبيديين (الدولة الفاطمية) المغرب الذي خلص من بعد للأمويين[1].

    فالآن نحن أمام رجل ذكي موهوب، حسن السياسة، يتولَّى حكم الأندلس فعليًّا باسم الخليفة الغلام هشام المؤيد بالله، وصحيح أن الأندلس قد خلت من الرجال الأقوياء، الذين يبلغون منافسته في الحكم –اللهم إلا فارس الأندلس العظيم غالبًا الناصري، وهو صهره الآن وعلاقتهما طيبة وبينهما تحالف- إلاَّ أن هذه السياسة تجعله في خطر من بني أمية، الذين يرون الملك باسمهم، ولكن فعليًّا ليس بأيديهم، وكذلك المصحفيين الذين نُكبوا وزالت سطوتهم بزوال الحاجب جعفر المصحفي.

    وبعد قليل سيظهر في الأفق خصم شديد الخطر عظيم الذكاء، إنها صبح، أُمُّ الخليفة هشام، والتي سترى أن الخلافة تخرج من بين يدي ولدها، وأن ابن أبي عامر يُسيطر بنفسه على الأمور.

    مدينة الزاهرة




    مدينة الزاهرةكما أنشأ عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قُرْطُبَة؛ لتكون مركزًا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة ملوكية جديدة في شرق قُرْطُبَة سمَّاها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية، بدأ في بنائها عام (368هـ)، وانتقل إليها بعد اكتمال بنائها في (370هـ)، نقل إليها الوزارات ودواوين الحُكم، وأنشأ له قصرًا كبيرًا هناك، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحُكم[2].

    وكان إنشاء هذه المدينة يُحَقِّق هدفين مهمين؛ الأول: هو الابتعاد عن مناطق الخطر والمؤامرات حيث مواطن الأمويين، وحيث قصر الخليفة وأمه، ومن غير المأمون أن تُدَبَّر عليه مؤامرة بيد الأمويين أو مواليهم أو بعض فتيان القصر. والثاني: هو ترسيخ وتثبيت شأنه في الدولة، وخطوة على طريق الانفراد بشئون الدولة وإدارتها.

    قدوم جعفر بن حمدون

    استدعى ابن أبي عامر (في عام 370 هـ) فارس المغرب وزعيم بني برزال جعفر بن حمدون، وقد ذكرنا أنه قد كانت بينهما صلة قديمة منذ كان ابن أبي عامر قاضيًا في المغرب، فنزل جعفر إلى الأندلس وقربه ابن أبي عامر ورفع من قدره، ولا شَكَّ أن في هذه الخطوة تقوية لمركز وقوة ابن أبي عامر، فجعفر فارس كبير وشخصية قوية، ثم هو زعيم البربر الذين سيزداد ولاؤهم لابن أبي عامر بنزول زعيم منهم في كنفه، وأن يصير من رجال الدولة وفرسانها.

    إلاَّ أن هذا النزول وهذه النتائج لم تكن بالتي تغيب عن ذهن فارس الأندلس غالب الناصري، والذي رأى في وجود جعفر منافسة له، بل وربما تحديًا، يُثبت أن الدولة تستطيع الاستغناء عنه بغيره، وأنه لم يَعُدِ الوحيد المختص بجهاد العدوِّ، ولم يَعُد الدِّعامة التي يُستند إليها في مهمات الحرب الجليلة.

    ولا شَكَّ أن ابن أبي عامر استفاد من درس الماضي القريب؛ حين كان المصحفي في الحجابة، وثار العدو بثغور الأندلس فلم ينهض إليهم غالب لإحراج المصحفي ولإثبات مكانته من الدولة، فأحب أن يتجنَّب تكرار هذه الأزمة، وتورد بعض الروايات أن غالبًا كان بالفعل «يستطيل على ابن أبي عامر بأسباب الفروسية، ويُباينه بمعاني الشجاعة، ويعلوه من هذه الجهة التي لم يتقدَّم لابن أبي عامر بها معرفة»[3].

    ومن ثَمَّ ساء الجوُّ بين غالب وابن أبي عامر.. ووقع الحدث الخطير، وهو تمرد غالب الناصري.

    تمرد غالب الناصري

    خرج المنصور إلى غزوة من غزواته في الصوائف إلى قشتالة، فدعاه غالب الناصري إلى وليمة أقامها بمدينة «أنتيسة» وعزم عليه في حضورها، ولما ذهب ابن أبي عامر جرى بينهما نقاش واحتدَّ حتى «سبَّه غالب وقال له: يا كلب؛ أنت الذي أفسدت الدولة، وخربت القلاع، وتحكمت في الدولة. وسل سيفه فضربه»[4]. ولولا أن أحد الحاضرين أعاق يده فانحرفت ضربة السيف لكانت الضربة قد قتلت ابن أبي عامر، ولكن أصابته بشجٍّ في رأسه.

    ولحسن حظِّه استطاع ابن أبي عامر أن يُلقي بنفسه من فوق القلعة، وأن ينجو من هذا المأزق الخطير بما فيه من إصابات، ثم عاد إلى قُرْطُبَة وقد استُعلنت بينهما العداوة.

    جهز ابن أبي عامر جيشًا من قُرْطُبَة ثم سار به إلى ملاقاة غالب الناصري، وهنا وقع الفارس العظيم في خطأ قاتل، كان أسوأ خاتمة لحياة اتصلت ثمانين عامًا حافلة بالجهاد، لقد اتصل غالب الناصري براميرو الثالث ملك ليون، وطلب منه النجدة ضد جيش قُرْطُبَة، فأمده راميرو بجزء من جنده.

    ويستطيع المرء أن يتخيَّل السعادة التي حازها راميرو حينما يجد الفارس الكبير الذي أذله وبلاده كثيرًا في موقف المستنجد به، ولعلَّه أمَّل في أن يكون هذا بداية تحالف طويل بينهما.

    نهاية غالب الناصري

    التقى الجيشان؛ جيش قُرْطُبَة يقوده ابن أبي عامر في القلب وعلى الميمنة فارس المغرب –الذي صار فارس المغرب والأندلس- جعفر بن حمدون، وعلى الميسرة الوزير أحمد بن حزم (والد الإمام الكبير ابن حزم) وغيره من الرؤساء، أمام جيش غالب الناصري ومعه جيش ليون.

    ومع أن غالبًا الناصري كان قد بلغ الثمانين إلاَّ أنه هجم على الميمنة فغلبها ومزَّقها، ثم عاد وهجم على الميسرة فغلبها ومزَّقها، وما هو إلاَّ أن واجه القلب، وفيه ابن أبي عامر. وإنه من المثير حقًّا أن نشاهد هذا اللقاء بين الرجلين اللذين لم يُهزما حتى الآن، واللذين ستكون هزيمة أحدهما هي الأولى -وربما الأخيرة- في حياته، فيختم بها سجل تاريخه.

    رفع غالب صوته قائلاً: «اللهم إن كنتُ أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره». ثم حدث أعجب ما يمكن أن يُتصور في هذا الموقف، ولولا أنه وصل إلينا من رواية صحيحة ثابتة لما صدقه أحد من المؤرخين[5]، لقد مشى غالب بفرسه إلى خارج الجيشين، فَظَنَّ الناس أنه يُريد الخلاء، ثم طال غيابه، فذهب بعض جنوده للبحث عنه فوجدوه ميتًا بلا أثر ولا ضربة ولا رمية، فعادوا بالبشرى إلى ابن أبي عامر.

    وأراد الله أن يموت الرجلان ولم ينهزم أحدهما، ولعلَّه استجاب إلى دعاء غالب، فأبقى للمسلمين مَنْ هو أصلح لهم[6]، إلاَّ أن هذا الحادث المفاجئ أسفر عن تطور لم يتوقَّعْه أحد؛ إذ انحاز جيش غالب المسلم إلى جيش قُرْطُبَة فوقع جيش ليون في المأزق الكبير!

    بقي أن نذكر -قبل أن نتجاوز قصة تمرُّد غالب الناصري- أن بعض المؤرخين يتوقَّع أن من أسباب تمرُّد غالب الناصري ما قد يكون تحريضًا من صبح أم الخليفة الفتى، التي بدأت ترى أن الملك يذهب من بين يدي ولدها.

    غزو الممالك النصرانية

    استدار جيش ابن أبي عامر -الذي انحاز إليه جيش غالب- ليواجها جيش ليون، لتبدأ غزوات الممالك النصرانية، التي استمرَّت بعدئذٍ سبعة وعشرين عامًا، وانتهت جميعها بالظفر للمسلمين.

    قصد ابن أبي عامر إلى مدينة سمورة –التابعة لمملكة ليون- ليُعاقب ملكها راميرو الثالث، وحاصرها واستولى على ما حولها، وفرت أمامه الجيوش، حتى طلب راميرو المساعدة من غرسية صاحب قشتالة، وسانشو ملك نافار، وعقدوا تحالفًا ثلاثيًّا، وسارت الجيوش المتحالفة إلى لقاء جيش المسلمين فهُزموا شرَّ هزيمة، ثم زحف الجيش الإسلامي في خطوة بالغة الشجاعة إلى مدينة ليون عاصمة المملكة، ووصلوا فعلاً إلى أبوابها، إلاَّ أن نزول الشتاء والثلوج دفعا بالجيش إلى الرجوع دون إكمال فتح المدينة، فعاد الجيش إلى قُرْطُبَة، وكان ابن أبي عامر يحمل معه مفاجأة:

    الحاجب المنصور

    بعد عودة الجيش الإسلامي إلى قُرْطُبَة مكللا بهذا الظفر الكبير؛ القضاء على تمرُّد غالب الناصري، ثم هزيمة جيش ليون، ثم هزيمة جيوش النصارى المتحالفة، ثم الوصول إلى أبواب ليون، قام محمد بن أبي عامر (في سنة 371هـ=982م) باتخاذ لقب ملوكي، فلَقَّب نفسه بالحاجب المنصور، وقد كانت الألقاب من قبلُ عادة الخلفاء، ثم أصبح يُدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نُقش اسمه على النقود وعلى الكُتب والرسائل[7].

    ومن ذلك التاريخ عُرِف محمد بن أبي عامر بهذا اللقب: الحاجب المنصور (Al manzor).

    كان عهد المنصور بن أبي عامر في الذروة من القوة والكفاءة، فعلى المستوى الخارجي جهاد دائم، يخرج المنصور مرتين في العام فينتصر، وعلى المستوى الداخلي فاض الأمن والرخاء، وبلغت الحضارة والمدنية آفاقها السامقة.

    وكانت الدولة العامرية تحت السلطان الكامل للحاجب المنصور، ويختفي تمامًا ذكر الخليفة هشام، الذي ظلَّ حبيس قصره الفاخر في الزاهرة، لا يتولَّى من أمر الملك شيئًا؛ لذا تختلف الروايات التاريخية إلى حدِّ التضارب في حاله؛ فمن رواياتٍ تذكر أنه كان منصرفًا للعبادة مقبلاً على العلم كثير الإنفاق على المحتاجين[8]، إلى رواياتٍ أخرى تقول بأنه كان منصرفًا إلى اللهو والعبث ومجالسة الجواري والاهتمام بالتفاهات[9]، إلى روايات أخرى تصفه بالذكاء والحكمة والمروءة[10]، إلاَّ أنه كان مغلوبًا على أمره، ليس بيده شيء يمكنه به استرجاع ملكه في ظلِّ السيطرة الكاملة والشاملة للمنصور على مقادير الأمور.

    بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو عهد جديد قام المنصور بن أبي عامر في سنة (381هـ=991م) بأمر لم يُعهد من قَبْلُ في تاريخ الأندلس؛ بل في تاريخ المسلمين، حيث عهد بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن يكون العهد بالخلافة، وأن يكون من الخليفة نفسه، ثم بعد خمس سنوات أي في سنة (386هـ= 996م) اتخذ لنفسه لقب الملك الكريم[11].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty المنصور ابن أبي عامر ..المجاهد الذي لا يهزم

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:43


    المنصور ابن أبي عامر ..المجاهد الذي لا يهزم

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    تولَّى محمد بن أبي عامر الحُكم منذ سنة (366هـ= 976م) وحتى وفاته –رحمه الله- في سنة (392هـ= 1002م)، وقد قضى هذه المدَّة في جهاد دائم لا ينقطع مع ممالك النصارى في الشمال، مع حسن إدارة وسياسة على المستوى الداخلي، حتى صارت الأندلس في عهده في ذروة مجدها[1].


    غزوات المنصور ابن أبي عامر



    غزوات المنصور ابن أبي عامرغزا محمد بن أبي عامر في حياته أربعًا وخمسين غزوة، لم يُهزم أبدًا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحدٌ من قبلُ، بل لم يصل إليها الفاتحون الأوائل؛ مثل: موسى بن نصير وطارق بن زياد، فقد وصل الحاجب المنصور إلى منطقة الصخرة؛ تلك المنطقة التي لم تُفتح من قِبَل المسلمين من قبلُ، واستطاع –رحمه الله- أن يغزو النصارى في عقر دارهم، وها هو ذا قد وصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلسي في الشمال، وفي كل هذه الغزوات لم تنكسر له فيها راية، ولا فلَّ له جيش، ولا أُصيب له بعث، ولا هلكت سرية[2].



    وكان من المتعارف عليه قبل ذلك أن الجهاد في الصوائف فقط، إلاَّ أن الحاجب المنصور كانت له في كل عام مرتان يخرج فيهما للجهاد في سبيل الله، عُرفت هاتان المرتان باسم الصوائف والشواتي.


    غزوة شانت يعقوب

    كانت أعظم هذه الغزوات قاطبة غزوة «شانت ياقب»، وشانت ياقب هو النطق العربي في ذلك الوقت لـ «سانت يعقوب» أي القديس يعقوب، وكانت هذه المدينة في أقصى الشمال الغربي من شبه الجزيرة الأيبيرية، وهي منطقة على بعدها الشديد عن أهل الأندلس في ذلك الوقت كانت شديدة الوعورة؛ ولذلك لم يصل إليها فاتح مسلم قبل المنصور بن أبي عامر، هذا بالإضافة إلى أن هذه المدينة على وجه التحديد كانت مدينة مقدسة عند النصارى، فكانوا يأتونها من مختلف بقاع الأرض ليزوروا قبر هذا القديس؛ حتى إن ابن عذاري المراكشي قال: إنها «أعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا؛ فبها يحلفون، وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها»[3].



    وكان ملوك نصارى الشمال كلما هاجم ابن أبي عامر عواصمهم فروا إلى هذه المنطقة القاصية الوعرة؛ يحتمون فيها من بأس المسلمين؛ ولهذا قرَّر ابن أبي عامر أن يذهب إلى هذه المدينة، وأن يحطم أسوارها وحصونها؛ ولِيُعْلِمَ هؤلاء أن ليس في شبه الجزيرة كلها مكان يمكنهم أن يحتموا فيه من بطش ابن أبي عامر.



    وقصة هذه المدينة هي ما يُقال عن يعقوب صاحب هذا القبر، من أنه كان أحد حواريِّي سيدنا عيسى ابن مريم u الاثني عشر، وأنه كان أقربهم إليه u؛ حتى سموه أخاه u للزومه إيَّاه، فكانوا يُسَمُّونه أخا الرب –تعالى الله عمَّا يصفون علوًّا كبيرًا - ومنهم مَنْ يزعم أنه ابن يوسف النجار، وتقول الأسطورة أن صاحب هذا القبر كان أسقف بيت المقدس، وأنه جاب الأرض داعيًا إلى عقيدته حتى وصل إلى تلك الأرض البعيدة، ثم إنه عاد إلى أرض الشام، وقُتل بها، فلما مات نقل أصحابه رفاته إلى آخر مكان بلغه في رحلته الدعوية.



    وفي صائفة سنة (378هـ) -وهي غزوته الثامنة والأربعون- قاد ابن أبي عامر قواته متجهًا بها نحو الشمال قاصدًا شانت ياقب، وفي الوقت نفسه بدأ الأسطول الأندلسي الذي أعده المنصور لهذه الغزوة تحرُّكَه من الموضع المعروف بقصر أبي دانس غربي الأندلس، وفي الطريق انضم إلى المنصور ابن أبي عامر عدد كبير من أمراء نصارى الإسبان؛ نزولاً على ما بينه وبينهم من معاهدات تُوجب عليهم أن يشتركوا معه في المعارك، ثم اتجه إلى شانت ياقب مخترقًا الطرق الجبلية الوعرة، حتى وصل إلى هذه المدينة، بعد فتح كل الحصون والبلاد التي في طريقه، وغنم منها وسبى، ثم وصل ابن أبي عامر إلى مدينة شانت ياقب ولم يجد فيها إلاَّ راهبًا بجوار قبر القديس يعقوب، فسأله عن سبب بقائه، فقال: أؤانس يعقوب. فأمر بتركه وعدم المساس به، وأمر بتخريب حصون هذه المدينة وأسوارها وقلاعها، وأمر بعدم المساس بقبر القديس يعقوب، ثم تعمق حتى وصل إلى ساحل المحيط دون أن يقف أمامه شيء، وكرَّ راجعًا، بعدما أنعم على مَنْ كان معه من أمراء النصارى بالمال والكساء كلٍّ على حسب قدره، ثم كتب إلى المسلمين يُبَشِّرهم بالفتح[4].


    صور من جهاد المنصور ابن أبي عامر
    يسير جيشا جرارا لإنقاذ نسوة ثلاث

    جاء عن الحاجب المنصور في سيرة حروبه أنه سَيَّر جيشًا كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين كنَّ أسيرات لدى مملكة نافار؛ ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من شروط هذا العهد ألاَّ يأسروا أحدًا من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم، فحدث ذات مرَّة أن ذهب رسول من رسل الحاجب المنصور إلى مملكة نافار، وهناك وبعد أن أدَّى الرسالة إلى ملك نافار أقاموا له جولة، وفي أثناء هذه الجولة وجد ثلاث نسوة من نساء المسلمين في إحدى كنائسهم فتعجَّب لوجودهن، وحين سألهن عن ذلك قلن له: إنهن أسيرات في ذلك المكان.



    وهنا غضب رسول المنصور غضبًا شديدًا، وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه الأمر، فما كان من المنصور إلاَّ أن سيَّر جيشًا جرارًا لإنقاذ النسوة، وحين وصل الجيش إلى بلاد نافار دُهش ملك نافار، وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم، وقد كانت بيننا وبينكم معاهدة على ألاَّ نتقاتل، ونحن ندفع لكم الجزية. وبعزَّة نفس في غَيْرِ كبرٍ ردُّوا عليه: إنكم خالفتم عهدكم، واحتجزتم عندكم أسيرات مسلمات. فقالوا: لا نعلم بهن. فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النسوة الثلاث، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن؛ فقد أسرهن جندي من الجنود وقد تمَّ عقاب هذا الجندي. ثم أرسل برسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذارًا كبيرًا، ويخبره بأنه قد هدم هذه الكنيسة، فعاد الحاجب المنصور إلى بلده ومعه النسوة الثلاث[5].


    يقطع النصارى عليه الطريق، فيملي شروطه عليهم

    ومما ذُكر عن الحاجب المنصور -أيضًا- أنه –رحمه الله- وهو في جهاده لفتح بلاد النصارى كان قد عبر مضيقًا في الشمال بين جبلين، ونكاية فيه فقد نصب له النصارى كمينًا كبيرًا، فتركوه حتى عبر بكل جيشه، وحين همَّ بالرجوع وجد طريق العودة قد قُطع عليه، ووجد المضيق وقد أُغلق تمامًا بالجنود.فما كان من أمر الحاجب المنصور إلاَّ أن عاد مرَّة أخرى إلى الشمال واحتلَّ مدينة من مدن النصارى هناك، ثم أخرج أهلها منها وعسكر هو فيها، ووزَّع ديارها على جنده، وتحصَّن وعاش فيها فترة، ثم اتخذها مركزًا له يقود منه سير العمليات العسكرية، فأخذ يُرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى، ويأخذ الغنائم ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتلَّه النصارى ومنعوه من العودة منه.

    وهنا ضجَّ النصارى وذهبوا مغاضبين إلى قوَّادهم يعرضون عليهم أن يفتحوا له الباب؛ حتى يعود إلى بلده مرَّة أخرى، أو يجدوا حلاًّ لهم في هذا الرجل، فاستجابوا لهم وعرضوا على الحاجب المنصور أن يُخَلُّوا بينه وبين طريق العودة ويعود من حيث أتى، فما كان من المنصور إلاَّ أن رفض هذا العرض، وردَّ عليهم متهكِّمًا أنه كان يأتي إليهم كل عام مرتين صيفًا وشتاءً، وأنه يريد هذه المرَّة أن يمكث بقية العام حتى يأتي موعد المرَّة الثانية، فيقوم بالصوائف والشواتي من مركزه في هذه البلاد بدلاً من الذهاب إلى قُرْطُبَة ثم العودة منها ثانية.

    لم يكن مفرٌّ أمام النصارى سوى أن يطلبوا منه الرجوع إلى بلده ومالوا إلى السلم، فراسلوه في ترك الغنائم والجواز إلى بلاده، فقال: أنا عازم على المقام. فتركوا له الغنائم، فلم يجبهم إلى الصلح، فبذلوا له مالاً ودوابَّ تحمل له ما غنمه من بلادهم، فأجابهم إلى الصلح، وفتحوا له الدرب[6].


    يجمع ما علق على ثيابه من غبار ليُدفن معه في قبره

    مقتديًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «... وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ»[7]. فكان من عادة الحاجب المنصور -رحمه الله- في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى[8].

    ولقد كان من أهم مميزات جهاد الحاجب المنصور أنه كان يبدأ بالهجوم، ويحاول إجهاض المؤامرات في مهدها، ولا ينتظر للدفاع مثلما كان حال مَنْ سبقه[9].


    حضارة الأندلس في عهد الحاجب المنصور



    مسجد قرطبةمن الجوانب الوضَّاءة في حياة ابن أبي عامر أو الحاجب المنصور -أيضًا- اهتمامه الكبير بالجانب المادي والحضاري في البلاد؛ فقد أسَّس مدينة الزاهرة على أحسن ما يكون -كما ذكرنا- وزاد كثيرًا في مساحة مسجد قُرْطُبَة، حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يشتري هذه المساحات ممن يقطنون حول المسجد، وذلك بالمبلغ الذي يرضونه[10].



    وقد ذُكر في ذلك أنه كانت هناك سيدة وحيدة تسكن في بيت فيه نخلة بجوار المسجد، وقد أبت هذه السيدة أن تبيع بيتها هذا إلاَّ إذا أَتى لها الحاجب المنصور بمنزل فيه نخلة كالذي تملكه، فأمر الحاجب المنصور بشراء بيت لها فيه نخلة كما أرادت، حتى ولو أتى ذلك على بيت المال، ثم أضاف بيتها إلى حدود المسجد[11].

    زاد الحاجب المنصور كثيرًا في المسجد بعد ذلك، حتى أصبح ولفترة طويلة من الزمان أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم، وهو ما يزال إلى الآن موجودًا في إسبانيا، ولكنه -وللأسف- حُوِّل إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله!

    وكذلك كانت العلوم والتجارة والصناعة وغيرها من الأمور قد ازدهرت كثيرًا في حياة الحاجب المنصور، وقد عمَّ الرخاء وامتلأت خزانة الدولة بالمال، ولم يَعُدْ هناك فقراء تمامًا، كما كان الحال أيام الحكم بن عبد الرحمن الناصر أو أيام عبد الرحمن الناصر نفسه.

    وحتى البلاد التي فتحها المنصور من بلاد النصارى اهتم بتعميرها وعمارتها؛ حتى صارت الجزيرة الأندلسية كلها متصلة العمران، عامرة زاهرة خضرة نضرة[12].


    الاستقرار الداخلي في الأندلس

    كان من اللافت للنظر -أيضًا- في حياة الحاجب المنصور أنه ورغم طول فترة حكمه -التي امتدَّت من سنة (366هـ= 976م) وحتى سنة (392هـ= 1002م)- لم تقم عليه أي ثورة، أو تمرُّد في عهده على طول البلاد واتساعها واختلاف أمزجتها، اللهم إلاَّ ما ذكرناه من قبل عن النزاع بينه وبين غالب الناصري.

    فقد كان الحاجب المنصور رجلاً قويًّا، محكِمًا للأمن والأمان في البلاد، كما كان عادلاً مع الرعية؛ ومما جاء في ذلك ما ترويه بعض الروايات من أنه جاءه يومًا رجلٌ بسيط من عامَّة الشعب، يبغي مظلمة عنده، وقال له: إن لي مظلمة وإن القاضي لم يُنصفني فيها. وحين سمع منه مظلمته أتى بالقاضي مستوضحًا منه الأمر، وكيف أنه لم يُنصف الرجل في مظلمته، فقال له القاضي: إن مظلمته ليست عندي، وإنما هي عند الوسيط (بمكانة نائب رئيس الوزراء في زمننا)، فأحضر الحاجب المنصور الوسيطَ وقال له: اخلع ما عليك من الثياب (يقصد ثياب التميز والحُكم)، واخلع سيفك، ثم اجلس هكذا كالرجل البسيط أمام القاضي. ثم قال للقاضي: الآن انظر في أمرهما. فنظر القاضي في أمرهما، وقال: إن الحقَّ مع هذا الرجل البسيط، وإن العقاب الذي أقضيه هو كذا وكذا على الوسيط. فما كان من الحاجب المنصور إلاَّ أن قام بإنفاذ مظلمة الرجل، ثم قام إلى الوسيط فأقام عليه أضعاف الحدِّ الذي كان قد أوقعه عليه القاضي، فتعجَّب القاضي، وقال للمنصور: يا سيدي؛ إنني لم آمر بكل هذه العقوبة. فقال الحاجب المنصور: إنه ما فعل هذا إلا لقُرْبِه مِنَّا؛ ولذلك زدنا عليه الحدَّ؛ ليعلم أن قربه منا لن يمكِّنه من ظلم الرعيَّة[13].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty عبد الملك بن محمد العامري .. الحاجب المظفر

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:45


    عبد الملك بن محمد العامري .. الحاجب المظفر

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    وفاة المنصور ابن أبي عامر



    توفي المنصور بن أبي عامر وهو في أوج قوته، و الأندلس قد بلغت من القوة والعظمة ما لم تَصِلْ إليه من قبلُ في أي عصر من العصور، إلى جوار ما كان فيه أعداؤها من الضعف الشديد، وكذلك كان الحال داخل الأندلس نفسها؛ فالخليفة الأموي هشام المؤيد كان رجلاً ضعيفًا، في حين كانت قوة العامريين قد بلغت شأوًا بعيدًا، ومع ذلك فبمجرد أن مات المنصور بن أبي عامر سارع ابنه عبد الملك إلى قُرْطُبَة، قبل أن يطرأ أي أمر لم يكن قد استعدَّ له من قبل، ليستصدرَ مرسومًا من الخليفة بتوليته الحجابة بعد أبيه، وكان أبوه قد عَهِدَ له بالحجابة من بعده -كما ذكرنا- وتمت توليته الحجابة كما أراد يوم الاثنين لثلاث بقين من رمضان (392هـ)، وبقي في الحكم سبع سنين إلى أن مات سنة (399هـ) [1].


    عبد الملك المظفر

    عبد الملك المظفرسار عبد الملك المظفر على نهج أبيه في سياساته الداخلية والخارجية، وفي غزوه الدائم للأراضي النصرانية في الشمال، حتى قال عنه المقري التلمساني في نفح الطيب: «جرى على سنن أبيه في السياسة والغزو، وكانت أيامه أعيادًا دامت مدَّة سبع سنين، وكانت تسمى بالسابع تشبيهًا بسابع العروس، ولم يزل مِثْلَ اسمه مظفَّرًا إلى أن مات سنة تسع وثلاثمائة في المحرم، وقيل: سنة ثمان وتسعين»[2].


    المظفر وسيرة العظماء

    وقد أُعجب به المسلمون وأحبوه حبًّا عظيمًا، فأثنوا عليه أجمل الثناء، فكان من ذلك ما نقله ابن الخطيب: «قالوا: كان عبد الملك أسعد مولود وُلِدَ بالأندلس على نفسه وأبيه وغيرهما؛ فجدَّد الألقاب، واقتفى الرسوم، فقد ذُكر أن المنصور توفِّي عن ألقاب عديدة من ألقاب الطبقات من بابه من الفقهاء والعلماء والكتاب والشعراء والأطباء والمنجمين؛ فلم يكونوا أوفر عددًا ولا أسنى أرزاقًا منهم في أيامه، مع عدم التلبُّس بشيء من أمرهم؛ إذ كان مُقْتَصِرًا على شأنه في التجنُّد والعمل بالسلاح؛ حفظًا للرسوم، والتماسًا لجميل الذِّكْر، وحرصًا على التزيُّد والشفوف على غيره، وكان مثلاً في الحياء والشجاعة؛ إذ كان عند الحياء والحشمة بكرًا عزيزة، وفي مواقِفِ الكريهة أسدًا وَرْدًا، لا يقوم له شيء إلاَّ حطمه»[3].

    وقد زاد من حُبِّ المسلمين له وإعجابهم به أنه ابتدأ عهده بأن أسقط عن المسلمين سدس الجباية التي كانت عليهم[4]، فتعلَّقت به قلوب الرعية وآمالها، ووجدت فيه العزاء عن فقدان أبيه، وبخاصة أنَّ أباه كان يعتمد عليه دائمًا في حياته، ويُكَلِّفه بالمهام الجسام؛ كقيادة الجيوش وما إلى ذلك.


    جهاد الحاجب المظفر ضد النصارى

    كان من عادة نصارى الشمال -كما رأينا- أنه متى مات حاكم الأندلس -وبخاصة إذا كان قويًّا- ضربوا بالمعاهدات والمواثيق عُرض الحائط، وأخذوا يُهاجمون الثغور والأراضي الإسلامية بهدف الثأر من المسلمين وإضعافهم، وسلب ما يمكن سلبه، وهم بهذا -أيضًا- يُضعفون موقف الحاكم الجديد، الذي يسعى لتوطيد ملكه، رأينا هذا عند تولِّي عبد الرحمن الناصر، كما رأيناه عند تولِّي الحكم المستنصر وابنه هشام المؤيد، ولكنهم هذه المرَّة لم يفعلوا ذلك، وربما كان ذلك بسبب الضربات القوية المؤثِّرة التي وجهها لهم المنصور بن أبي عامر في حياته.



    ولم يكتفِ الحاجب المظفر بهذه الموادعة؛ إذ إنهم لو وادعوا اليوم، فلن يوادعوا غدًا إذا اجتمعت لهم قوتهم، ثم ربما يظنون به الضعف والجبن عن لقائهم، ومن هنا بدأ الحاجب المظفر يُجَهِّز لغزو نصارى الشمال، واجتهد في الإعداد؛ حتى إن أهل العدوة قد سمعوا بهذه الغزوة، فتوافدوا إلى الأندلس للمشاركة فيها، وفيهم جماعة كبيرة من أمرائهم وزعمائهم وفقهائهم، وقد أحسن الحاجب المظفر استقبالهم، وأغدق لهم العطاء، فقبل بعضهم وتحرَّج البعض الآخر.


    غزو إمارة برشلونة

    وخرج الحاجب المظفر من الزاهرة بجنده ليلة 11 شعبان سنة 393هـ في مشهد مهيب، وسار حتى وصل مدينة سالم، فانضمت له قوة من قشتالة، نزولاً على ما كان بين قشتالة والمنصور بن أبي عامر من معاهدات، ثم سار إلى إمارة بَرْشُلُونَة، ودارت بينه وبين نصارى بَرْشُلُونَة حرب شديدة، هُزموا فيها هزيمة نكراء، واستولى المسلمون على عدد من حصون بَرْشُلُونَة، وهدموا حصونًا أخرى، وغنموا وسبوا، وعمل الحاجب المظفر على إسكان المناطق المفتوحة بالمسلمين، فنهى الجنود عن تدمير البيوت وهدمها، وأمر بنقل المسلمين لعمارة هذه الأرض، وجعل لمن يسكنها منهم راتبًا شهريًّا يتقاضاه من بيت المال، وقضى الحاجب المظفر عيد الفطر بأرض بَرْشُلُونَة، واحتفل به مع جنوده ورجاله في بسائطها، ثم أمر بإرسال رسالتين للتبشير بالفتح؛ إحداهما إلى الخليفة هشام المؤيد، والثانية لتُقْرَأ على المسلمين كافة في قُرْطُبَة، ثم في باقي الولايات.



    وجاء في الرسالتين أن عدد السبي بلغ 5570، وأن عدد الحصون التي اقتحمت عَنْوة ستة حصون، وعدد الحصون التي أخلاها العدوُّ فخُرِّبت ودُمِّرت 85 حصنًا، وذكر أسماء هذه الحصون كلها في الرسالتين، ثم أَذِنَ للمتطوعين معه للجهاد بالعودة إلى ديارهم وبلدانهم؛ إذ إن الهدف الذي خرجوا من أجله قد انتهى؛ فعاد المتطوعون إلى بلادهم مسرورين فرحين بنصر الله[5].



    وفي السنة التالية لهذه الغزوة (394هـ) -وفي دلالة واضحة على ما وصلت إليه قوة الدولة وهيبتها في عهده- احتكم إليه قادة الممالك النصرانية[6]، وفي ذلك ينقل ابن عذاري المراكشي عن المؤرخ الفقيه أبي مطرف محمد بن عون الله (وهو من معاصري هذه الحوادث) قوله: «وانتهى المظفر عند ملوك الأعاجم في دولته إلى منزلة عظيمة، مثل منزلة والده المنصور، وأحلُّوه محلَّه في الإصغاء له والتعظيم؛ لجلاله والهيبة من سخطه والطلب لمرضاته، حتى صار أعاظمهم يحتكمون إليه فيما شجر بينهم؛ فيفصل الحُكم فيهم، ويرضون بما قضاه ويقفون عنده»[7].


    غزو مملكة قشتالة

    وتوالت غزوات الحاجب المظفر -رحمه الله- على أراضي النصرانية في الشمال، وكانت غزوته الخامسة سنة (397هـ)، وفيها اتجه بجيشه إلى مملكة قشتالة، فاتحدت جميع الممالك والقوى النصرانية ضده، ودارت بين الفريقين معركة شديدة، نصر الله فيها المسلمون نصرًا عظيمًا، وكان قد بلغ الناسَ في الأندلس خبرُ اتحاد الممالك النصرانية ضد جيش المسلمين، فأشفقوا على الجيش الإسلامي، وخافوا عاقبة ذلك، وكان أهل العساكر المشاركين في الغزوة هم أكثر الناس خوفًا، فلما وردهم خبرُ انتصار المسلمين، كان فرحهم بذلك فرحًا عظيمًا، وعلى أثر هذه الغزوة تلقّب عبد الملك بالحاجب المظفر بالله[8].



    ثم خرج بعد ذلك في شاتية سنة (398هـ) -وكانت هذه هي شاتيته الوحيدة- وقد خرج فيها إلى قشتالة، ودارت بينه وبين نصارى قشتالة معارك عنيفة استمرَّت عدَّة أيام، انتهت بنصر عظيم للمسلمين[9]، وكانت هذه هي غزوته قبل الأخيرة؛ لأنه خرج إلى غزو قشتالة في صائفة العام نفسه (398هـ)، ولكنه مرض مرضًا شديدًا في مدينة سالم في شمال الأندلس، فتفرَّق عنه كثير من الجنود المتطوعين معه، ففشل مشروع الغزو، وعاد إلى قُرْطُبَة[10]، ثم عاد وشعر ببعض التحسن فتحامل على نفسه وبدأ يتأهَّب إلى غزو قشتالة من جديد، وخرج بالفعل متحاملاً على نفسه في شاتية عام (399هـ) يقصد قشتالة، إلاَّ أن الحركة قد آذته وزادت مرضه، فلم يَعُدْ يستطيع الغزو، فعادوا به محمولاً على محفَّة، وتوفي –رحمه الله- في الطريق إلى قُرْطُبَة في صفر عام (399هـ) [11].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty أشهر العلماء في الدولة العامرية

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:48


    أشهر العلماء في الدولة العامرية

    ابن ذكوان (342-413هـ= 953-1022م)

    أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان أبو العباس أحمد بن عبد الله بن هرثمة بن ذكوان بن عبيدوس بن ذكوان، الشهير بابن ذكوان قاضي الجماعة بقُرْطُبَة وخطيبها، وُلِدَ سنة (342هـ= 953م)، ولاَّه المنصور بن أبي عامر القضاء، وكان من خاصته يُلازمه في رحلاته وغزواته، ومحلُّه منه فوق محلِّ الوزراء، يُفاوضه المنصور في تدبير المُلْكِ وفي سائر شئونه. كذلك كان معه المظفر وشنجول ولدي المنصور بعد وفاة أبيهما، وتوفي المظفر فزاد أخوه عبد الرحمن في رفع منزلته وولاَّه الوزارة بالإضافة إلى قضاء القضاة، وكان عظيم أهل الأندلس ورئيسهم، وأقربهم من الدولة وأعلاهم محلاًّ، توفي سنة (413هـ)[1].


    ابن جلجل (332- بعد 377هـ= 943- بعد 987م)

    أبو داود سليمان بن حسان، الشهير بابن جلجل، كان طبيبًا ماهرًا، وكان إمامًا في معرفة الأدوية المفردة، لا سيما بكتاب ديسقوريدس، الذي عُرِّب في بغداد في خلافة المتوكل العباسي، وبقيت منه ألفاظ كثيرة يونانية لم تُعَرَّب ولا عُرفت، ويحكي ابن جلجل قصة هذا الكتاب فيقول: «انتفع الناس بما عُرِّب منه، فلما كان في دولة الناصر عبد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس، كاتبه أرمانوس صاحب القسطنطينية قبل الأربعين وثلاثمائة وهاداه بنفائس، فكان منها كتاب ديسقوريدس مصور الحشائش بالتصوير العجيب، والكتاب باليوناني، ومنها كتاب هروشيش، وهو تاريخ عجيب في الأمم والملوك باللسان اللطيني (اللاتيني). وكان بالأندلس مَنْ يتكلَّم به، ثم كاتبه الناصر وسأله أن يبعث إليه برجل يتكلم باليوناني واللطيني، ليُعَلِّم له عبيدًا؛ حتى يُترجموا له، فبعث إليه براهب يُسَمَّى نقولا، فوصل قُرْطُبَة في سنة أربعين، ونشر من كتاب ديسقوريدس ما كان مجهولاً، وكان هناك جماعة من حُذَّاق الأطباء، فأُحْكم الكتاب، وقد أدركتُهم، وأدركتُ نقولا الراهب وصحبتُهم، وفي صدر دولته (أي: المستنصر) مات نقولا الراهب».



    ومن كُتب ابن جلجل «تاريخ الأطباء والفلاسفة»، وله تذييل وزيادات على كتاب ديسقوريدس مما لم يعرفه ديسقوريدس[2].


    المجريطي (338-398هـ= 950-1007م):

    هو الفيلسوف الرياضي الفلكي أبو القاسم مسلمة بن أحمد بن قاسم بن عبد الله المجريطي، وهو مشهور بالمجريطي، وُلِدَ في مدينة مجريط (مدريد) سنة (338هـ= 950م)، كان إمام الرياضيين بالأندلس، وأوسعهم إحاطة بعلم الأفلاك وحركات النجوم[3].



    برع في علوم كثيرة، وله كتابان رجع إليهما ابن خلدون هما: (رتبة الحكيم): وهو أهم مصدر لدراسة الكيمياء في الأندلس، و(غاية الحكيم): وهو كتاب موسوعي تُرجم إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر الميلادي... وفي هذا الكتاب بحوث تهتم بدراسة تاريخ الحضارة في أقدم عصورها، وتاريخ مستنبطات الأمم الشرقية العريقة في القدم من أنباط وأقباط وسريان وهنود.. وغيرهم، ومكتشفاتهم وجهودهم في تَقَدُّم العمران، وفي هذا الكتاب -أيضًا- بحوث في الرياضيات والكيمياء، وعلم السحر، وعلم الحيل، والتاريخ الطبيعي، وتاريخ المنشأ، والبيئة[4]، وله زيج قيل فيه: لم يُؤَلَّف في الأزياج مثل زيج مسلمة -أي: المجريطي- وزيج ابن السمح[5].



    ومن مؤلفاته أيضًا:

    - روضة الحدائق ورياض الخلائق.

    - ثمار العدد: وهو في الحساب ويُعرف بالمعاملات.

    - اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني.

    - كتاب الأحجار.



    ولقد قال إدوارد فنديك صاحب كتاب (اكتفاء القنوع بما هو مطبوع): توجد مجموعة أخرى تسمى بالرسائل الجامعة ذات الفوائد النافعة، وتُعْرَف -أيضًا- باسم (رسائل إخوان الصفا) للحكيم المجريطي القرطبي... وهي على نمط رسائل إخوان الصفا، ولكنها لم تُطبع ولم تشتهر كالأولى[6]، ولعلَّ هذا هو ما جعل خير الدين الزركلي صاحب الأعلام يقول: ذهب بعض المؤرخين إلى أنه مؤلف (رسائل إخوان الصفا)، ولم يَثْبُت ذلك[7]، وقد توفي في مدينة مجريط (مدريد) سنة (398هـ= 1007م).


    ابن الفرضي (351-403هـ= 962-1013م):

    الإمام الحافظ، البارع الثقة، أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي، المعروف بابن الفرضي، مؤرخ حافظ أديب، وُلِدَ بقُرْطُبَة سنة (351هـ= 962م)، ألَّف في (أخبار شعراء الأندلس)، وكتاب في (المؤتلف والمختلف)، وفي (مشتبه النسبة).



    وكان من تلاميذه الإمام المعروف أبو عمر بن عبد البر، وهو من أئمة المذهب المالكي الكبار، ووصفه بقوله: كان فقيهًا حافظًا، عالمًا في جميع فنون العلم في الحديث والرجال، أخذتُ معه عن أكثر شيوخي، وكان حسن الصحبة والمعاشرة.



    وقال عنه شيخ مؤرخي الأندلس ابن حيان: لم يُرَ مثله بقُرْطُبَة في سعة الرواية، وحفظ الحديث، ومعرفة الرجال، والافتنان في العلوم والأدب البارع، وجمع من الكتب أكثر ما يجمعه أحد في علماء البلد، وكان حسن البلاغة والخطِّ.



    ومما يُذكر عنه قول الحميدي: حدثنا علي بن أحمد الحافظ، أخبرني أبو الوليد بن الفرضي قال: تعلَّقتُ بأستار الكعبة، وسألت الله تعالى الشهادة، ثم فَكَّرت في هول القتل، فندمت، وهممت أن أرجع، فأستقيل الله ذلك، فاستحييت. يقول الحافظ علي: فأخبرني مَنْ رآه بين القتلى، ودنا منه، أنه سمعه يقول بصوت ضعيف: «لاَ يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ»[8]. كأنه يُعيد على نفسه الحديث، ثم قضى على إثر ذلك .



    وله شعر جيد منه: [الطويل]

    أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفٌ





    عَلَى وَجَلٍ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ

    يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا





    وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهْوَ رَاجٍ وَخَائِفُ

    وَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْجُو سِوَاكَ وَيَتَّقِي





    وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ

    فَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي





    إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ[9]
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty رد: تاريخ الاندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:49


    أبو القاسم الزهراوي.. أعظم جراح

    أبو القاسم الزهراوي لنا مع هذا الرجل وقفة أطول قليلاً؛ إذ يُعَدُّ خلف بن عباس المشهور بأبي القاسم الزهراوي (ت 427هـ= 1036م) من العلماء الأعلام في الأندلس، وفي التاريخ الإسلامي كله، كان لكتابِهِ (التصريف لمن عجز عن التأليف) الفضل في أن أصبح من كبار جرَّاحي العرب المسلمين، وأستاذ علم الجراحة في العصور الوسطى وعصر النهضة الأوربية حتى القرن السابع عشر، ومن خلال دراسة كُتُبِهِ تبيَّن أنه أوَّل من وصف عملية تفتيت الحصاة في المثانة، وبَحَثَ في التهاب المفاصل، وفي السلِّ.. وغيرها[1].

    والزهراوي -المعروف في أوربا باسم (Abulcasis = أبو القاسم)- هو أول مَنْ تمكَّن من اختراعِ أُولى أدوات الجراحة؛ كالمشرط والمقصِّ الجراحي، كما وضع الأسس والقوانين للجراحة، التي من أهمِّها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة؛ فكان أَحَد العلماء الأعلام الذين سعدت بهم الإنسانية.



    وقد وُلِدَ أبو القاسم الزهراوي في مدينة الزهراء، ونُسب إليها، كان طبيبًا فاضلاً خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه الكبير المعروف بالزهراوي، ولخلف بن عباس الزهراوي من الكتب كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف)، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تامٌّ في معناه([2]).


    أبو القاسم الزهراوي.. إنجازات وإبداعات

    كان الزهراوي يمارس بنفسه فنَّ الجراحة بدلاً من أنْ يُوكل ذلك -كما كانت العادة- للحجَّامين أو الحلاقين، فمارس الجراحة وحذق فيها وأبدع، حتى صار عَلَمًا من أعلام طبِّ الجراحة، لدرجة أنه لا يكاد يُذكر اسمه إلاَّ مقترنًا مع الطب الجراحي[3]، وقد حلَّ مبحث الزهراوي في الجراحة خاصة محلَّ كتابات القدماء، وظلَّ العمدة في فنِّ الجراحة حتى القرن السادس عشر، وباتت أفكاره حدثًا تحوُّليًّا في طرق العلاجات الطبية؛ حيث هيَّأ للجراحة قُدرة جديدة في شفاء المرضى أذهلت الناس في عصره وبعد عصره، وقد ساعدت آلاته الجراحية التي اخترعها على وضع حجر الأساس للجراحة في أوربا[4].



    وقد وصف الزهراوي هذه الآلات والأدوات الجراحية التي اخترعها بنفسه للعمل بها في عملياته، ووصف كيفية استعمالها وطرق تصنيعها؛ منها: جِفت الولادة، والمنظار المهبلي المستخدم حاليًا في الفحص النسائي، والمحقن أو الحقنة العادية، والحقنة الشرجية، وملاعق خاصة لخفض اللسان وفحص الفم، ومقصلة اللوزتين، وجفت وكلاليب خلع الأسنان، ومناشير العظام، والمكاوي والمشارط على اختلاف أنواعها، وغيرها الكثير من الآلات والأدوات التي أصبحت النواة التي طُوِّرَتْ بعد ذلك بقرون لتُصبح الأدوات الجراحية الحديثة([5]).



    يقول كامبل في كتابه (الطب العربي): «كانت الجراحة في الأندلس تتمتع بسمعة أعظم من سمعتها في باريس أو لندن أو أدنبره؛ ذلك أن ممارسي مهنة الجراحة في سَرَقُسْطَة كانوا يُمنحون لقب طبيب جراح, أمَّا في أوربا فكان لقبهم حلاق جراح، وظلَّ هذا التقليد ساريًا حتى القرن العاشر الهجري»([6]).


    كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف

    كتاب التصريف, أبو القاسم الزهراويوكتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) هو في الحقيقة موسوعة كثيرة الفائدة، تامَّة في معناها، لم يُؤَلَّف في الطب أجمع منها، ولا أحسن للقول والعمل، وتُعتبر من أعظم مؤلفات المسلمين الطبية، وقد وصفها البعض بأنها دائرة معارف، ووصفها آخرون بأنها ملحمة كاملة، وليس من الغريب أن تُصبح هذه الموسوعة المصدر الأساسي لجراحي الغرب حتى القرن السابع عشر، وتظلَّ المرجع الكبير لدارسي الطب في جامعات أوربا؛ مثل جامعة سالرنو ومونبلييه في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، والحقيقة التي ينبغي ألاَّ تُغْفل -أيضًا- أن الجراحين الذين عُرفوا في إيطاليا في عصر النهضة وما تلاه من قرون قد اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي[7]. ويقول عالم وظائف الأعضاء الكبير هالّر: «كانت كتب أبي القاسم المصدر العام الذي استقى منه جميع مَنْ ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر»[8].



    والزهراوي هو أوَّل مَنْ جعل الجراحة علمًا قائمًا على التشريح، وأوَّل من جعله علمًا مستقلاً، وقد استطاع أن يبتكر فنونًا جديدة في علم الجراحة، وأن يُقَنِّنَها[9]، وهو أوَّل مَنْ وصف عملية القسطرة، وصاحب فكرتها والمبتكر لأدواتها، وهو الذي أجرى عمليات صعبة في شقِّ القصبة الهوائية، وكان الأطباء قبله -مثل: ابن سينا والرازي- قد أحجموا عن إجرائها لخطورتها، وابتكر الزهراوي -كذلك- آلة دقيقة جدًّا لمعالجة انسداد فتحة البول الخارجية عند الأطفال حديثي الولادة؛ لتسهيل مرور البول، كما نجح في إزالة الدم من تجويف الصدر، ومن الجروح الغائرة كلها بشكل عام. والزهراوي -كذلك- هو أول مَنْ نجح في إيقاف نزيف الدم أثناء العمليات الجراحية؛ وذلك بربط الشرايين الكبيرة، وسبق بهذا الربط سواه من الأطباء الغربيين بستمائة عام! والعجيب أن يأتي مِنْ بعده مَنْ يَدَّعي هذا الابتكار لنفسه، وهو الجراح إمبراطور باري عام (1552م).

    وهو –أيضًا- أول من صنع خيطانًا لخياطة الجِرَاح، واستخدمها في جراحة الأمعاء خاصة، وصنعها من أمعاء القطط، وأول من مارس التخييط الداخلي بإبرتين وبخيط واحد مُثَبَّتٍ فيهما؛ كي لا تترك أثرًا مرئيًّا للجِرَاح، وقد أطلق على هذا العمل اسم (إلمام الجروح تحت الأدمة)، وهو أوَّل من طبَّق في كل العمليات التي كان يُجريها في النصف السفلي للمريض رفع حوضه ورجليه قبل كل شيء؛ ممَّا جعله سبَّاقًا على الجرَّاح الألماني (فريدريك تردلينوبورغ) بنحو ثمانمائة سنة، الذي نُسب الفضل إليه في هذا الوضع من الجراحة؛ ممَّا يُعَدُّ اغتصابًا لحقٍّ حضاري من حقوق الزهراوي المبتكر الأول لها[10].



    كما يُعَدُّ الزهراوي أول رائد لفكرة الطباعة في العالم؛ فلقد خطا الخطوة الأولى في صناعة الطباعة، وسبق بها الألماني يوحنا جوتنبرج بعدَّة قرون، وقد سَجَّل الزهراوي فكرته عن الطباعة ونفَّذَها في المقالة الثامنة والعشرين من كتابه الفذِّ (التصريف)؛ ففي الباب الثالث من هذه المقالة، ولأول مرَّة في تاريخ الطب والصيدلة يصف الزهراوي كيفية صنع الحبوب (أقراص الدواء)، وطريقة صنع القالب الذي تُصَبُّ فيه هذه الأقراص أو تُحَضَّر، مع طبع أسمائها عليها في الوقت نفسه باستخدام لوح من الأبنوس أو العاج مشقوق نصفين طولاً، ويُحْفَر في كل وجه قدر غِلَظِ نصف القرص، وينقش على قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه مطبوعًا بشكل معكوس، فيكون النقش صحيحًا عند خروج الأقراص من قالبها؛ وذلك منعًا للغشِّ في الأدوية، وإخضاعها للرقابة الطبية.



    وفي ذلك يقول شوقي أبو خليل: «ولا ريب أن ذلك يُعطي الزهراوي حقًّا حضاريًّا لكي يكون المؤسس والرائد الأول لصناعة الطباعة، وصناعة أقراص الدواء؛ حيث اسم الدواء على كل قرص منها، هاتان الصناعتان اللتان لا غنى عنهما في كل المؤسسات الدوائية العالمية، ومع هذا فقد اغْتُصِبَ هذا الحقُّ وغفل عنه كثيرون»[11].



    وكذلك يُعَدُّ الزهراوي أوَّل مَنْ وصف عملية سَلِّ العروق من الساق لعلاج دوالي الساق والعرق المدني، واستخدمها بنجاح، وهي شبيهة جدًّا بالعملية التي نمارسها في الوقت الحاضر، والتي لم تُستخدم إلاَّ منذ حوالي ثلاثين عامًا فقط، بعد إدخال بعض التعديل عليها[12]، وللزهراوي إضافات مهمَّة جدًّا في علم طب الأسنان وجراحة الفكَّيْنِ، وقد أفرد لهذا الاختصاص فصلاً خاصًّا به[13].



    وكان مرض السرطان وعلاجه من الأمراض التي شغلت الزهراوي، فأعطى لهذا المرض الخبيث وصفًا وعلاجًا بقي يُستعمل خلال العصور حتى الساعة، ولم يزد أطباء القرن العشرين كثيرًا على ما قدَّمه علامة الجراحة الزهراوي[14].



    وإن ما كتبه الزهراوي في التوليد والجراحة النسائية ليُعتبر كنزًا ثمينًا في علم الطب؛ ولقد ابتكر آلة خاصة لاستخراج الجنين الميت فسبق الدكتور فالشر بنحو تسعمائة سنة في وصف ومعالجة الولادة الحوضية، وهو أول مَن استعمل آلات خاصة لتوسيع عنق الرحم، وأول مَنِ ابتكر آلة خاصة للفحص النسائي لا تزال إلى يومنا هذا([15]).

    ويحكي جوستاف لوبون عن الزهراوي فيصفه بقوله: «أشهر جراحي العرب، ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص؛ فعُدَّت من اختراعات العصر الحاضر على غيرِ حقٍّ...» [16]. وجاء في دائرة المعارف البريطانية أنه أشهر مَنْ ألَّف في الجراحة عند العرب (المسلمين)، وأول من استعمل ربط الشريان لمنع النزيف[17].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty قرطبة .. الموقع والتاريخ

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:52


    قرطبة .. الموقع والتاريخ

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    مدينة قرطبة




    مدينة قرطبةإتمامًا للفائدة رأينا أن نقف بالقارئ على وصف لمدينة قرطبة عاصمة الأندلس الفاخرة الباهرة في أيام روعتها ومجدها.



    «إن قُرْطُبَة التي فاقت كل حواضر أوربا مدنيةً أثناء القرن العاشر (الميلادي) كانت في الحقيقة محطَّ إعجاب العالم ودهشته، كمدينة فينيسيا في أعين دول البلقان، وكان السياح القادمون من الشمال يسمعون بما هو أشبه بالخشوع والرهبة عن تلك المدينَة التي تحوي سبعين مكتبة، وتسعمائة حمام عمومي؛ فإن أدركت الحاجة حُكَّام ليون، أو النافار، أو برشلونة إلى جرَّاحٍ، أو مهندس، أو معماري، أو خائط ثياب، أو موسيقي فلا يتَّجهون بمطالبهم إلا إلى قُرْطُبَة»[1]. هذا هو وصف أحد الغربيين لمدينة قُرْطُبَة الأندلسية في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وهو جون براند ترند.



    فامتدادًا لحضارة إسلامية إنسانية -علمًا، وقِيَمًا، ومجدًا- بزغ نجم مدينة قرطبة، كشاهدٍ حيٍّ على ما وصلت إليه حضارة المسلمين وعزِّ الإسلام في ذلك الوقت من التاريخ، وهو منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، يوم أن كانت أوربا تغطُّ في جهل عميق.



    قرطبة.. ذلك الاسم الذي طالما كان له جرس مُعَيَّنٌ، ووقع خاصٌّ في الأذن الإسلامية، بل وفي أذن كل أوربي آمن بالنهضة والحضارة الإنسانية، يقول المقري: قال بعض علماء الأندلس: [البسيط]

    بِأَرْبَعٍ فَاقَتِ الأَمْصَارَ قُرْطُبَةُ





    مِنْهُنَّ قَنْطَرَةُ الْوَادِي وَجَامِعُهَا

    هَاتَانِ ثِنْتَانِ وَالزَّهْرَاءُ ثَالِثَةٌ





    وَالْعلمُ أَعْظَمُ شَيْءٍ وَهْوَ رَابِعُهَ[2]

    قرطبة .. الموقع الجغرافي والتاريخ

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    موقع قرطبة على الخريطةهي مدينة تقع على نهر الوادي الكبير، في الجزء الجنوبي من إسبانيا، وقد أرَّخت لها موسوعة المورد الحديثة فقالت: «أسسها القرطاجيون فيما يُعتقد، وخضعت لحكم الرومان والقوط الغربيين»[3].



    وقد قام بفتحها القائد الإسلامي الشهير طارق بن زياد، وذلك سنة (93هـ= 711م). ومنذ ذلك العهد بدأت مدينة قرطبة تخطُّ لنفسها خطًّا جديدًا، وملمحًا مهمًّا في تاريخ الحضارة؛ فبدأ نجمها في الصعود كمدينة حضارية عالمية، لا سيما في عام (138هـ= 756م)، عندما أسس عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) الدولة الأموية في الأندلس، وذلك بعدما سقطت في دمشق على أيدي الدولة العباسية.



    وفي عهد عبد الرحمن الناصر (أول خليفة أموي في الأندلس) ومن بعده ابنه الحكم المستنصر، بلغت قرطبة أوج ازدهارها، وقمة ريادتها وحضارتها؛ خاصةً أنه اتخذها عاصمة لدولته الفتية، ومقرًّا له كخليفة للمسلمين في العالم الغربي، وقد جعل منها منبرًا للعلوم والثقافة والمدنية، حتى غدتْ تُنَافس القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية في قارتها، وبغدادَ عاصمة العباسيين في المشرق، والقيروانَ والقاهرةَ في إفريقيا، حتى أطلق عليها الأوربيون: «جوهرة العالم».



    وقد شمل اهتمام الأمويين بقرطبة اهتمامهم كذلك بنواحي الحياة المختلفة فيها؛ من زراعة وصناعة، وبناء الحصون، ودور الأسلحة.. وغيرها، وقد شقُّوا الترع، وحفروا القنوات، وأقاموا المصارف، وجلبوا للأندلس أشجارًا وثمارًا لم تكن تُزْرَع فيها.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty قرطبة .. الحضارة والرقي

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:55


    قرطبة .. الحضارة والرقي

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    في السطور التالية نَتَعَرَّفُ على بعض مظاهر الرقي والحضارة التي تميَّزَتْ بها الأندلس عامَّة، ومدينة قرطبة خاصَّة؛ لنقف على الإسهامات الإسلامية في مسيرة الإنسانية.


    قنطرة قرطبة




    قنطرة قرطبةكان من المعالم المهمَّة في قرطبة (قنطرة قرطبة)، والتي تقع على نهر الوادي الكبير، وقد عُرفت باسم: (الجسر)، وأيضًا: (قنطرة الدهر)، وكان طولها أربعمائة متر تقريبًا، وعرضها أربعين مترًا، وارتفاعها ثلاثين مترًا!



    وقد شهد لها ابن الوردي والإدريسي بأنها «القنطرة التي عَلَتِ القناطرَ فَخْرًا في بنائها وإتقانها»[1].



    كان عدد أقواسها سبع عشرة قوسًا، بين كل قوس والآخر اثنا عشر مترًا، وسعة القوس الواحد اثنا عشر مترًا، وكان عرضها حوالي سبعة أمتار، وارتفاعها عن سطح ماء النهر بلغ خمسة عشر مترًا[2].



    إن هذه الأبعاد كانت لقنطرة بُنِيَت في بداية القرن الثاني الهجري (101هـ)؛ أي منذ ألف وأربعمائة عام، على يد السمح بن مالك الخولاني الذي كان والي الأندلس من قِبَل عمر بن عبد العزيز، أي في وقت لم يكن فيه الناس يعرفون من وسائل الانتقال إلاَّ الخيل والبغال والحمير، ولم تكن وسائل وأساليب البناء على المستوى المتطور حينئذٍ؛ مما يجعل هذه القنطرة بهذا الشكل واحدة من مفاخر الحضارة الإسلامية.


    جامع قرطبة

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    يُعتبر جامع قرطبة (الجامع الكبير) من أهم معالم قرطبة وآثارها الباقية إلى اليوم، وهو يُسمى بالإسبانية (Mezquita) (وتنطق: ميتكيتا)، وهي تحريف لكلمة (مسجد)، وقد كان أشهر مسجد بالأندلس (على اعتبار أنه الآن كاتدرائية)، ومن أكبر المساجد في أوربا! وقد بدأ بناءَه عبد الرحمن الداخل سنة (170هـ= 786م)، ومن بعده ابنه هشام الأول، وكان كل خليفة جديد يُضيف لهذا الجامع ما يزيد في سعته وتزيينه؛ ليكون أجمل المساجد في مدينة قرطبة، ومن أكبر المساجد وقت وجوده.





    جامع قرطبة الذي تحول إلى كاتدرائيةوفي وصف مسجد قرطبة يقول صاحب الروض المعطار: وبها (بقرطبة) الجامع المشهور أمره الشائع ذكره، من أَجَلِّ مساجد الدنيا كبرَ مساحة، وإحكامَ صنعة، وجمالَ هيئة، وإتقانَ بنية، تَهَمَّم به الخلفاء المروانيون، فزادوا فيه زيادة بعد زيادة، وتتميمًا إثر تتميم؛ حتى بلغ الغاية في الإتقان، فصار يحار فيه الطرف، ويعجز عن حُسْنِه الوصف، وليس في مساجد المسلمين مثله تنميقًا وطولاً وعرضًا؛ طوله مائة باع[3] وثمانون باعًا، ونصفه مسقَّف ونصفه صحن بلا سقف، وعدد (أقواس) مسقَّفه أربع عشرة قوسًا، وسَوَارِي مسقفه بين أعمدته وسَوَارِي قببه صغارًا وكبارًا مع سَوَارِي القبلة الكبرى وما يليها ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثُرَيَّا للوقيد، أكبر واحدة منها تحمل ألف مصباح، وأقلُّها تحمل اثني عشر مصباحًا، وجميع خشبه من عيدان الصنوبر الطرطوشي[4]، ارتفاع الجائزة[5] منه شبر في عرض شبر إلاَّ ثلاثة أصابع، في طول كل جائزة سبعة وثلاثون شبرًا، وبين الجائزة والجائزة غلظ الجائزة، وفي سقفه من ضروب الصنائع والنقوش ما لا يُشبه بعضها بعضًا، قد أُحكم ترتيبها وأُبدع تلوينها بأنواع الحمرة، والبياض، والزرقة، والخضرة، والتكحيل؛ فهي تروق العيون، وتستميل النفوس بإتقان ترسيمها ومختلفات ألوانها. وسِعَة كل بلاط من بلاط سقفه ثلاثة وثلاثون شبرًا، وبين العمود والعمود خمسة عشر شبرًا، ولكل عمود منها رأس رخام وقاعدة رخام.



    ولهذا الجامع قِبْلَةٌ يعجز الواصفون عن وصفها، وفيها إتقان يبهر العقول تنميقها، وفيها من الفسيفساء المُذَهَّب والبِلَّوْر مما بعث به صاحب القسطنطينية العظمى إلى عبد الرحمن الناصر لدين الله... وفي جهتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران، واثنان زُرْزُوريَّان([6])، لا تُقَوَّم بمال، وعلى رأس المحراب خَصَّة[7] رخام قطعة واحدة مسبوكة منمَّقة بأبدع التنميق من الذهب واللاَّزَوَرْدِ وسائر الألوان، واستدارت على المحراب حظيرة خشب بها من أنواع النقش كل غريب، ومع يمين المحراب المنبر الذي ليس بمعمور الأرض مثله صنعةً؛ خشبه أبنوس، وبَقْس، وعود المجمر، يقال: إنه صُنِعَ في سبع سنين، وكان صناعة ستة رجال غير مَنْ يخدمهم تصرفًا!



    وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطُسُوت[8] ذهب وفضة وحسك[9]، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة سبع وعشرين من رمضان، وفي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله؛ فيه أربع أوراق من مصحف عثمان بن عفان t الذي خَطَّه بيمينه، وفيه نقطة من دمه، ويُخْرَجُ هذا المصحف في صبيحة كل يوم، يتولَّى إخراجه قَوْمٌ من قَوَمة الجامع، وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش، وله كرسيٌّ يُوضَعُ عليه، فيتولَّى الإمام قراءة نصف حِزبٍ فيه، ثم يُرْفَعُ إلى موضعه.



    وعن يمين المحراب والمنبر باب يُفْضِي إلى القصر، بين حائطي الجامع في ساباط[10] مُتَّصِل، وفي هذا الساباط ثمانية أبواب، منها أربعة تنغلق من جهة القصر، وأربعة تنغلق من جهة الجامع، ولهذا الجامع عشرون بابًا مصفَّحة بصفائح النحاس وكواكب[11] النحاس، وفي كل باب منها حلقتان في غاية الإتقان، وعلى وجه كل باب منها في الحائط ضروب من الفصِّ المُتَّخَذِ من الآجُرِّ الأحمر المحكوك، وأنواع شتَّى وأصناف مختلفة من الصناعات والتنميق.



    وللجامع في الجهة الشمالية الصومعة (المئذنة) الغريبة الصنعة، الجليلة الأعمال، الرائقة الشكل والمثال، ارتفاعها في الهواء مائة ذراع بالذراع الرشاشي[12]؛ منها ثمانون ذراعًا إلى الموضع الذي يقف عليه المؤذن، ومن هناك إلى أعلاها عشرون ذراعًا، ويصعد إلى أعلى هذا المنار بدرجين: أحدهما من الجانب الغربي، والثاني من الشرقي، إذا افترق الصاعدان أسفل الصومعة لم يجتمعا إلاَّ إذا وصلا الأعلى، ووجه هذه الصومعة مُبَطَّن بالكَذَّان[13] منقوش من وجه الأرض إلى أعلى الصومعة، بصنعة تحتوي على أنواع من التزويق والكتابة.



    وبالأوجه الأربعة الدائرة من الصومعة صَفَّان من قِسِيّ (أقواس) دائرة على عقد الرخام، وبيت له أربعة أبواب مغلقة يبيت فيه في كل ليلة مُؤَذِّنَان، وعلى أعلى الصومعة التي على البيت ثلاث تفاحات ذهبًا واثنتان من فضة وأوراق سَوْسَنِيَّة، تَسَعُ الكبيرة من هذه التفاحات ستين رطلاً من الزيت، ويخدم الجامع كله ستُّونَ رجلاً، وعليهم قائم ينظر في أمورهم[14].



    وبقريبٍ من ذلك يصفه ابن الوردي في كتابه (خريدة العجائب وفريدة الغرائب). وقد كانت ساحته تملؤها أشجار البرتقال والرمان؛ ليأكل منها الجائعون والقادمون إلى المدينَة من شتى البقاع! ومما يحزن له القلب وتَدمع له العين أن هذا المسجد العظيم المهيب قد تَحَوَّل عقب سقوط الأندلس إلى كاتدرائية، وأصبح تابعًا للكنيسة، مع احتفاظه باسمه، وتَحَوَّلَتْ مئذنته الشاهقة إلى برج تُنصب فوقه أجراس الكنيسة لإخفاء طابعها الإسلامي، كما لا يزال يعلو جدرانه المنيعة نقوشٌ قرآنية تعكس عبقرية فنيَّة نادرة، وهو الآن من أشهر المواقع التاريخية في العالم كله.


    جامعة قرطبة

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    جامعة قرطبةلم يقتصر دور جامع قرطبة على العبادة فقط، وإنما كان -أيضًا- جامعة علميَّة تُعَدُّ من أشهر جامعات العالم آنذاك، وأكبر مركز علمي في أوربا، ومن خلاله انتقلت العلوم العربية إلى الدول الأوربية على مدى قرون، وكان يُدرس في هذه الجامعة كل العلوم، وكان يُختار لها أعظم الأساتذة، وكان طلاب العلم يَفِدُون إليها من الشرق والغرب على السواء؛ مسلمين كانوا أو غير مسلمين. وقد احْتَلَّتْ حلقات الدرس والعلم أكثر من نصف المسجد، وكان للشيوخ راتبٌ جيد ليتفرَّغُوا للدرس والتأليف، وكذلك خُصِّصَتْ أموال للطلاب، ومكافآت ومعونات للمحتاجين؛ وهو الأمر الذي أثرى الحياة العلميَّة بصورة ملحوظة في ذلك الوقت وفي تلك البيئة، واستطاعت قرطبة أن تُخْرِجَ للمسلمين وللعالم الجمَّ الغفير من العلماء، وفي جميع مجالات العلوم، وكان منهم: الزهراوي (325-404هـ= 936-1013م) أشهر جَرَّاح، وطبيب، وعالم بالأدوية وتركيبها، وهناك -أيضًا- ابن باجه، وابن طفيل، ومحمد الغافقي (أحد مُؤَسِّسِي طبّ العيون)، وابن عبد البر، وابن رشد، والإدريسي، وأبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، والقاضي القرطبي النحوي، والحافظ القرطبي، وأَبو جعفر القرطبي، وغيرهم كثير.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty قرطبة .. العلم والعمران

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:57


    قرطبة .. العلم والعمران

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    قرطبة مدينة العلم



    للحال التي رأينا، وللحياة التي شاهدنا لا غَرْوَ أن تُصْبِحَ قرطبة (منتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي)، وكأنها مدينة عصرية، تُضارع المدن العالمية في الألفية الثالثة! وكيف العجب وقد انتشرت المدارس لتعليم الناس، وانتشرت المكتبات الخاصَّة والعامَّة، حتى صارت هي أكثر بلاد الله كُتبًا‍‍، وحتى غَدَتْ مركزًا ثقافيًّا ومجمعًا علميًّا لكل العلوم وفي شتى المجالات، وقد كان الفقراء يَتَعَلَّمُون في مدارس بالمجَّان على نفقة الحُكَّام أنفسهم؛ ولذا فليس عجيبًا أن نعلم أن جميع أفراد الشعب كان قد عرف القراءة والكتابة، ولم يُوجَدْ في قرطبة شخص واحد لا يجيد القراءة والكتابة[1]، في حين لم يَكُنْ يعرفها أرفع الناس في أوربا، باستثناء بعض رجال الدين!



    وجدير بالذكر أن هذه النهضة العلمية والحضارية في مدينة قرطبة في ذلك الوقت، واكبها -أيضًا- نهضة إدارية؛ وذلك من خلال عدد من المؤسسات والنُّظُمِ الرائدة في الحكم؛ منها: الإمارة والوزارة، وقد تطوَّرَتْ أنظمة القضاء والشرطة والحِسْبة، وغيرها، وواكبتها -أيضًا- نهضة صناعية عظيمة؛ إذ تطوَّرت فيها الصناعة كثيرًا، واشتهرت صناعات مثل: صناعة الجلود، وصناعة السفن، وآلات الحرث، والأدوية.. وغيرها، وكذلك استخراج الذهب والفضة والنحاس![2]



    أمَّا إذا نظرنا إلى الحياة المدنية والعصرية فيها، فنراها مُقَسَّمَة إلى خمس مدن، وكأنها خمسة أحياء كبرى، يقول المقري: «وبين المدينَة والمدينَة سور عظيم حصين حاجز، وكل مدينة مستقلَّة بنفسها، وفي كل منها من الحمامات، والأسواق، والصناعات... ما يكفي أهلها»[3].



    كما تميزت قرطبة -كما يذكر ذلك ياقوت الحموي في معجم البلدان- بأسواقها الممتلئة بكافَّة السلع، وكان لكل مدينة سوقٌ خاصٌّ بها[4].



    ومن المقري نذكر بعض إحصائيات عن عمران قرطبة:

    المساجد: انتهت مساجد قرطبة أيام عبد الرحمن الداخل إلى 490 مسجدًا، ثم زادت بعد ذلك إلى 3837 مسجدًا.

    البيوت الشعبية: 213077 بيتًا.

    بيوت النخبة: 60300 بيت.

    الحوانيت (المتاجر وما شابه): 80455 حانوتًا.

    الحمامات العامة: 900 حمام.

    الأرباض (الضواحي): 28 ضاحية[5].



    وهذه الأرقام كانت تزيد وتنقص باختلاف الأحوال السياسيَّة، وباختلاف روايات المؤرخين، غير أنها اختلافات على «مدى» الفخامة والجلالة والجمال، لا على أصل وجودها وتحقُّقِهَا.



    وكان عدد سكان قرطبة في عهد الدولة الإسلامية زُهاء خمسمائة ألف نسمة![6] والجدير بالذكر أن عدد سكان قرطبة حاليًا يبلغ 310,000 نسمة تقريبًا![7].


    يتبـــــــــــــــــع...........
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس - صفحة 2 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس - صفحة 2 Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس - صفحة 2 Empty هل حقاً طلب اليهود من المسلمين فتح الأندلس..؟

    مُساهمة من طرف Admin الثلاثاء نوفمبر 22 2011, 15:38


    هل حقاً طلب اليهود من المسلمين فتح الأندلس..؟

    وجه الإسبان إلى يهود الأندلس تهمة الاتصال بالمسلمين.. ومطالبتهم بفتح الأندلس، ووعدهم بتقديم المساعدة لهم مقابل تخليصهم من حكم القوط. وقد أُعلن عن هذا الاتهام لأول مرة من قبل الملك القوطي إجيكا.. وذلك في مجلس طليطلة الكنسي المنعقد سنة (75 هـ =894م)(1)‏
    وتوجد ثلاث روايات تتحدث عن هذا الاتهام، فالرواية الأولى تذكر أن يهود الأندلس قد دخلوا في مفاوضات مع يهود أجانب في البلاد التي وراء البحر، لغرض التقدم نحو الشعب النصراني(2). والرواية الثانية تبين أن يهود الأندلس قد تفاوضوا مع الأفارقة(3). أما الرواية الثالثة فتسمي الذين تم معهم التفاوض بـ"القوم الذين وراء البحر"(4).‏
    ويلاحظ عند التأمل في هذه الروايات أن الغموض يكتنفها جميعاً. فالرواية الأولى قد حددت أن التفاوض قد تم مع يهود، إلا أنها لم تشر إلى المكان الذي يعيش فيه هؤلاء اليهود، واكتفت بتسميتهم "يهود أجانب في البلاد التي وراء البحر".(5)‏
    والرواية الثانية تجعل الأفارقة هم الذين تم معهم التفاوض، ولم وتوضح ما تقصده بهذه الكلمة، التي يمكن أن تعني يهود أفريقيا أو مسلميها(6). أما الرواية الثالثة فكانت الأكثرغموضاً، إذ اكتفت بالقول إن التفاوض كان مع القوم الذين وراء البحر(7)‏
    لكن يمكن آستنتاج من خلال هذه الروايات.. أن الاتهام قد وجه إلى يهود الأندلس بأنهم قد تفاوضوا مع المسلمين في الشمال الأفريقي، إما مباشرة أو عبر يهود تلك المنطقة، وأن هدف المفاوضات هو تشجيع المسلمين على غزو الأندلس من أجل رفع الظلم عن يهودها.‏
    ولا يمكن أن يكون المقصود من الاتهام بالتفاوض مع يهود الشمال الإفريقي هو أن هؤلاء هم الذين سيتولون مهمة غزو الأندلس، وإنقاذ يهودها، لأنهم كانوا أقل من أن يشك بهم القوط، ويتّهموهم بالعزم على القيام بهذا العمل الكبير، إذ كانوا يخضعون لحكم المسلمين، وليس لهم كيان مستقل، أو جيش يُخشى منه.‏
    ثم أن عدم ذكر كلمة المسلمين في خطاب إجيكا.. وكذلك في الروايتين الإسبانيتين الأخريين، يرجع إلى قلة المعلومات المتوفرة عنهم لدى الإسبان، يؤكد ذلك رسالة "تدمير" إلى "لذريق" التي بعثها يستحثه على القدوم بجيشه لمواجهة الجيش الذي قاده طارق، إذ لم يسمهم المسلمين، بل قال: إن قوماً لا يُدرى أمن أهل الأرض، أم من أهل السماء، قد وطئوا بلادنا، وقد لقيتهم فلتنهض إلي بنفسك.(Cool
    وفي المقابل لم يحدث أي اتفاق بين المسلمين واليهود على فتح الأندلس.. للأسباب الآتية:‏
    ـ أولاً: لا توجد أية إشارة إلى هذا الاتفاق في المصادر الإسلامية التي تحدثت بإسهاب عن فتح الأندلس، ولاشك أن هذا الحدث الكبير المرتبط بالفتح ارتباطاً وثيقاً لا يمكن أن تجمع المصادر الإسلامية على إهماله، لو أنه وقع فعلاً.‏
    ـ ثانياً: لو صح وقوع هذا الحدث، لتفاخر به يهود الأندلس، ولنشروه بشكل واسع يوصله إلى كتب المؤرخين الأندلسيين، لأنه يجعل لهم دوراً مهماً في الفتح، ويظهرهم بمظهر الأبطال الذين نجحوا في الانتقام من ظالميهم القوط. لكن مؤرخي اليهود أ نفسهم يرفضون هذا الاتهام، ويعدونه مختلقاً.(9)‏
    ـ ثالثاً: اختلاف المؤرخين الإسبان في تعيين الجهة التي تم معها الاتفاق يدل على أنه محض اتهام، لا يقوم على دليل واضح أو معلومات موثقة. وقد كان هذا الاتهام ضعيفاً منذ أن أعلن عنه إجيكا لأول مرة، إذ لم يقدم الأدلة عليه. وقد يكون مصدره وشاية مغرضة من أعداء اليهود الكثيرين في ذلك الوقت. وقد يكون هدف إجيكا من توجيهه لليهود هو الرغبة في استعادة ثقة رجال الدين به، التي اهتزت بسبب سياسة تخفيف الضغوط عن اليهود، التي انتهجها في بداية حكمه، وكذلك للظهور بمظهر الوطني الحريص على مصلحة البلاد(10).‏
    ـ رابعاً: لم يكن المسلمون زمن انعقاد مجلس طليطلة الكنسي سنة (75 هـ = 694م) الذي أُعلن فيه عن هذا الاتهام قد أتموا فتح بلاد المغرب، حتى يفكروا بفتح الأندلس، ويحضِّروا له بعقد الاتفاقيات المسبقة مع اليهود هناك كي يحصلوا على مساعدتهم، بل كان المسلمون منشغلين حينئذٍ بحرب كسيلة بن لمزم البرنسي الذي خرج عليهم وتحالف مع الروم، ووقف في وجه جهادهم وفتحهم للبلاد. وقد ولًَّى عبد الملك بن مروان سنة (65 هـ = 684م) على إفريقية والمغرب زهير بن قيس البلوي، وكلفه بالقضاء على كسيلة، فتمكن من ذلك، لكن الروم هاجموا جيشه في برقة، فاستشهد زهير وعدد من أصحابه(11). ولم تخضع بلاد المغرب للمسلمين إلا بعد جهود جهيدة وطويلة بذلها المسلمون تحت قيادة حسان بن النعمان الذي ولي أفريقية والمغرب سنة (78 هـ =697م)(12)، وموسى بن نصير الذي تولاها سنة (86 هـ = 705م)(13).‏
    ـ خامساً: لا يدل التعاون الذي أظهره اليهود مع المسلمين الفاتحين على اتفاق مسبق بينهم، لأن يهود الأندلس كانوا على استعداد للتعاون مع كل من يمكن أن يرفع الظلم عنهم، كما أنهم في حالة ضعف واستعباد(14)، لا تُطمع المسلمين في التعويل عليهم وعقد الاتفاقيات المسبقة معهم، ثم إنه ليس اليهود وحدهم هم الذين تعاونوا مع المسلمين، فقد تعاون معهم أبناء الملك غيطشة وأنصارهم، رغبة في الانتقام من لذريق الذي اغتصب حقهم في العرش(15)، وكذلك فعل العديد من الإسبان المظلومين(16)، عندما شاهدوا بأنفسهم سماحة الفاتحين وسمو أخلاقهم وعظمة دينهم. يقول صاحب كتاب أخبار مجموعة في فتح الأندلس متحدثاً عن الخدمات التي قدمها بعض الإسبان لموسى بن نصير: "فلما نزل الجزيرة، قيل له: اسلك طريقه، قال: ماكنت لأسلك طريقه. قال له العلوج الأدلاء: نحن ندلك على طريق هو أشرف من طريقه، ومدائن هي أعظم خطباً من مدائنه، لم تُفتح بعد، يفتحها الله عليك إن شاء الله"(17). وعن ذلك يقول أيضاً: "ثم سار إلى مدينة قرمونة فقدَّم إليها العلوج الذين معه، وهي مدينة ليس بالأندلس أحصن منها، ولا أبعد من أن ترجى بقتال أو حصار، وقد قيل له حين دنا منها: ليست تُؤخذ إلا باللطف، فقدَّم إليها علوجاً ممن قد أمنه واستأمن إليه، مثل "يليان"، ولعلهم أصحاب "يليان"، فأتوهم على حال الأفلال، معهم السلاح، فأدخلوهم مدينتهم، فلما دخلوها بعث إليهم الخيل ليلاً، وفتحوا لهم باب قرطبة، فوثبوا على حراسه، ودخل المسلمون قرمونة"(18)‏
    ـ سادساً : لم تكن المعاملة الحسنة التي عومل بها اليهود في أثناء الفتح وبعده، مكافأة لهم على ما قدموه للمسلمين كما يتصور البعض(19)، كما أنها ليست دليلاً على وجود اتفاق مسبق بينهما يقضي بحسن معاملتهم مقابل الخدمات التي يؤدونها للمسلمين. لأن المسلمين قدموا المعاملة نفسها للنصارى وأحسنوا إليهم، وهذا الإحسان هو الذي جذبهم إلى الإسلام، وجعلهم يدخلون في دين الله أفواجاً(20)، وقد انطلق المسلمون في إحسانهم لليهود والنصارى من مبادئ دينهم الذي يوصي خيراً بأهل الذمة(21).‏
    ولو مُيِّز اليهود عن النصارى في المعاملة و الحقوق والواجبات لسجلت كتب التاريخ ذلك، لكنهم كانوا متساوين دائماً في القانون الإسلامي.‏
    وقد ظل هذا التساوي سائداً بين اليهود والنصارى في الأندلس، منذ فتحها وحتى زمن سقوطها، حيث يقول الفقيه المالكي المعروف محمد بن القاسم: "اليهود والنصارى عند مالك سواء".(22).‏
    و ثم أن أعظم مكافأة كان اليهود يرجونها من وراء خدماتهم، هو تخليصهم من ظلم واستعبادهم القوط، وقد تحقق لهم أكثر من ذلك، حيث لم يتحرروا من الظلم والاستعباد فحسب، بل فازوا بعدل الحكم الإسلامي وتسامحه.‏
    وقد شهد اليهود أنفسهم بذلك حيث يقول حاييم الزعفراني: "لقد عرفت اليهودية الأندلسية في مجموعها حياة أكثر رخاء، وأكثر اطمئناناً، كما لم تعرفها في مكان آخر"(23).ويقول نسيم رجوان (رئيس تحرير جريدة اليوم الإسرائيلية): "كان اليهود قد عانوا خلال قرون، الكثير من الشقاء والبؤس، حيث كان الملوك الإسبان القساة الغلاظ، بعيدين كل البعد عن الشفقة والرحمة. وعندما دخل المسلمون إسبانيا لم يكتفوا بتحرير اليهود من الاضطهاد، ولكنهم شجَّعوا بينهم نشر حضارة كانت توازي بخصبها وعمقها أشهر الحضارات في مختلف العصور"(24).‏
    ـ سابعاً: هناك إشارات إلى حدوث تعاون يهودي مع المسلمين في أثناء جهادهم في مناطق الشمال الأندلسي بعد مدة طويلة من فتح الأندلس، ومن ذلك تعاون يهود برشلونة مع المسلمين عندما غزوها سنة (235 هـ = 850م)، وقد عاقبهم الإسبان على ذلك بمصادرة أراضيهم(25).‏
    كما جاء في سيرة القديس سانت ثيودارد (Saint theodard)، رئيس أساقفة أربونة، الذي عاش حوالي سنة (266 هـ = 880م)، أنه لما دخل المسلمون لأول مرة إلى لانجدوك، انحاز اليهود إليهم، وفتحوا لهم أبواب مدينة طولوشة (Toulouse)، ويضيف كاتب السيرة أن شارمان عاقبهم على خيانتهم، فأمر أن يؤتى كل سنة بمناسبة أعياد اليهود بيهودي، ويصفع أمام الملأ على باب الكاتدرائية(26).‏
    إن حدوث هذا التعاون بعد مضي نحو قرن ونصف على الفتح الإسلامي للأندلس مع عدم ورود إشارة إلى وجود اتفاق مسبق عليه بين المسلمين واليهود، يؤكد إمكانية حدوث التعاون اليهودي مع فاتحي الأندلس الأوائل دون اتفاق مسبق بينهما.‏
    ولكن حقيقة الأسباب التي دفعت اليهود للتعاون مع المسلمين بعد مضي مدة كبيرة على الفتح تتشابه مع تلك التي جعلتهم يتعاونون مع الفاتحين الأوائل(27).‏
    - ثامناً: إن فكرة فتح الأندلس، فكرة إسلامية بحتة غير مرتبطة بتشجيع أو وعود من اليهود أو غيرهم، إذ رُوي أن محاولات لفتحها جرت في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه. حيث يقول البكري: "وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كتب إلى من انتدب إلى غزو الأندلس: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قِبَلِ الأندلس، وإنكم إن استفتحتموها كنتم شركاء من يفتحها في الأجر، والسلام"(28)، ويقول ابن عذاري: "أما دخول المسلمين لها فذكر فيه أربعة أقوال: أحدها أن الأندلس أول من دخلها عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن الحصين الفهريّان من جهة البحر في زمن عثمان رضي الله عنه...".(29)‏
    كما شهدت الشواطئ الشرقية للأندلس نشاطاً للسفن الحربية الإسلامية، وتمكنت من الوصول إلى جزيرتي ميورقة (Mayorca) ومنورقة (Manorca) سنة (89 هـ = 707هـ)، وذلك في الحملة التي جهزها موسى بن نصير، وقادها ولده عبد الله(30).‏
    - تاسعاً: يفهم من الروايات التي تحدثت عن عمليات الفتح، أن وجود اليهود في المناطق والمدن الأندلسية كان مفاجئاً بالنسبة للمسلمين، وغير معلوم لهم مسبقاً، حيث إن جميع الروايات استخدمت الفعل "ألفى" الذي يدل كثيراً على المصادفة ووجود شيء غير متوقع(31)، فصاحب كتاب أخبار مجموعة في فتح الأندلس يقول عن فتح إلبيرة: "فألفوا بها يومئذ يهوداً"(32)، وابن الخطيب يقول عن فتح غرناطة: "وألفوا بها يهوداً"(33)، وابن عذاري يقول عن فتح طليطلة: "وألفى طارق طليطلة خالية ليس فيها إلا اليهود(34) وذلك يؤكد على عدم وجود اتفاق مسبق بين المسلمين واليهود.‏
    ـ عاشراً: يبدو أن تركيز المصادر الإسبانية على تعاون اليهود مع المسلمين، جاء من أجل تحميل اليهود سبب الهزيمة المخزية والسريعة التي مني بها الإسبان(35)، بالرغم من قوة جيشهم وكثرة أعدادهم(36)، وقتالهم على أرضهم، واتساع بلادهم، وبالرغم من قلة عدد الفاتحين(37)، وعدم معرفتهم بطبيعة البلاد.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 09 2024, 06:13