منتديات مواد الاجتماعيات



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات مواد الاجتماعيات

منتديات مواد الاجتماعيات

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتديات مواد الاجتماعيات


    تاريخ الاندلس

    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty تاريخ الاندلس

    مُساهمة من طرف Admin السبت نوفمبر 05 2011, 23:55

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    تاريخ الاندلس

    زهرة التاريخ الإسلامي


    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    لماذا نكتب في التاريخ؟

    لأن هذا الكون وكل ما فيه يسير على سُنَنٍ ثابتة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، وأننا في حاجة لإدراك هذه القوانين؛ كي نتمكَّن من استعمال نِعَمِ الله الكثيرة التي خلقها I وسخَّرها لنا في هذا الكون؛ بل لكي نستطيع أن نحيا الحياة الصحيحة باستيعابنا للتجارب السابقة التي جرت عليها سنن الله في كونه، ذلك أن هذه السنن لا تتغيَّر ولا تتبدَّل ولا تتحوَّل، قال : {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].



    إنها قاعدة قرَّرها الله I في كتابه، وجعلها -أيضًا- من سننه الثوابت، التي يمكن للجميع إدراكها واستغلالها؛ ومن أبسط الأمثلة العملية على هذا: أننا نجد أن الماء يغلي عند درجة مائة مئوية، وسيظلُّ يغلي عند هذه الدرجة إلى يوم القيامة، فمن رحمته I أن ثَبَّت لنا هذا الأمر؛ إذ لو كان الماء يغلي اليوم عند درجة ثلاثين -مثلاً- وغدًا عند درجة خمسين، وبعد غدٍ عند سبعين فلن تستقيم حياة الناس، ولن تستقرَّ أمورهم؛ لأن كل يوم مغاير للآخر، وكل شكلٍ فيه تبدُّل وتحوُّل لم يُعهَد من قبل.

    كذلك النار؛ تحرق وستظلُّ تحرق إلى يوم القيامة..



    صحيح أن ثمة استثناءات لا يُبنى عليها، فتلك النار التي من أهمِّ خصائصها الإحراق لم تحرق إبراهيم u، فهذا استثناء أو هي معجزة، والمؤمن الكيِّس لا ينتظر المعجزات ولا يبني على الاستثناءات، ولا يتخذها قواعد، إنما يبني على القوانين التي يمكنه أن يُدرك بنفسه أنها ثابتة؛ إن أحدًا لا يمكنه أن يضع يده -مثلاً- في النار! ثم يقول: قد يحدث لي مثلما حدث لإبراهيم u. فذلك غير جائز، ولا يصحُّ أن يتفوَّه به أحدٌ؛ لأنه لا يتوافق مع سُنَنِ الله التي أقرَّها في كونه، وقِسْ على ذلك ما شئت؛ فالإنسان والحيوان بصفة عامَّةٍ لا يستطيع أن يعيش بدون طعام أو شراب، ولو امتنع أي إنسان عن الطعام والشراب فترة فمآله -لا محالة- إلى الموت.



    التاريخ والواقع

    إن لله I سننًا ثابتة في تغيير الأمم وتبديل أحوالها؛ سواء كان هذا التبديل من الضعف إلى القوة، أو كان من القوة إلى الضعف، فبحسب الطريق الذي تسلكه كل أُمَّة تكون خاتمتها، ونحن حينما نقرأ في التاريخ ونُقَلِّب في صفحاته نُشاهد سنن الله I في التغيير والتبديل؛ فالتاريخ يُكَرِّر نفسه بصورة عجيبة، حتى والله! لَكَأَنَّك وأنت تقرأ أحداثًا حدثت منذ ألف عامٍ أو يزيد - تشعر وكأنها الأحداث نفسها التي تتمُّ في هذا الزمن، مع اختلاف في الأسماء والتفاصيل فحسب.



    فأنت حين تقرأ تاريخ الماضي فكأنك تقرأ أحداث المستقبل بتفصيلاتها؛ ذلك أن أحداث المستقبل هذه لن تتمَّ إلاَّ على هذه السنن الثابتة، التي جعلها الله في تبديل الأمم وتغيير أحوالها؛ فانظر في أي طريق تسير الآن لتعرف إلى أي مصير ستصل، والمؤمن العاقل هو الذي لا يبدأ من الصفر فيُكَرِّر كل ما فعل السابقون، وإنما يقف أمام تاريخهم فيسير على درب مَنْ أصاب فأفلح، ويبتعد عن طريق المخطئين الخاسرين.



    وفي تاريخ الأندلس خير دليل على هذا؛ لذلك فنحن نحاول تحليل هذا التاريخ تحليلاً دقيقًا؛ نحاول أن نُقَلِّب صفحاتٍ ونُظهر أحداثًا قد علاها التراب أعوامًا وأعوامًا، نحاول أن نُظهر ما حاول الكثيرون أن يطمسوه، أو يُخرجوه لنا في صورة باطلٍ وهو حقٌّ، أو في صورة حقٍّ وهو باطلٌ؛ فكثيرٌ يحاولون أن يُزوِّروا تاريخنا الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جدُّ خطيرة، يجب أن يُتصدَّى لها.





    لماذا تاريخ الأندلس؟

    لأن تاريخ الأندلس يشمل أكثر من ثمانمائة سنة كاملة من تاريخ الإسلام، وتحديدًا من عام (92هـ=711م) إلى (897هـ= 1492م)؛ أي ثمانمائة وخمس سنين (هجريًّا)، هذا إذا أغفلنا التداعيات التي أعقبت ما بعد عام 897هـ، فهي فترة ليست بالقليلة من تاريخ الإسلام؛ فمن غير المقبول إذًا ألاَّ يعرف المسلمون تفاصيل فترة شغلت في الزمن أكثر من ثلثي التاريخ الإسلامي، هذا أمر.



    والأمر الآخر أن تاريخ الأندلس لطول فترته، مرَّ فيه كثير من دورات التاريخ التي اكتملت ثم انتهت، فسنن الله في تاريخ الأندلس واضحة للعيان؛ فقد قام فيه كثير من الدول وارتفع نجمها، وسقط فيه -أيضًا- كثير من الدول وأفل نجمها، كثير من الدول أصبحت قوية؛ ومن ثَمَّ راحت تفتح ما حولها من البلاد، وكثير منها أصبحت ضعيفة، وأصبحت لا تستطيع حماية أرضها، أو تعتمد على غيرها في حمايتها؛ مثلما يحدث الآن، وظهر -أيضًا- في تاريخ الأندلس المجاهد الشجاع، وظهر الخائف الجبان، ظهر التقيُّ الورع، كما ظهر المخالف لشرع ربه I. ظهر في تاريخ الأندلس الأمين على نفسه وعلى دينه وعلى وطنه، وكذلك الخائن لنفسه ودينه ووطنه، ظهرت كل هذه النماذج، وتساوى فيها الجميع؛ حاكم ومحكوم، عالم وأمِّيٌّ.

    وما من شكٍّ أن دراسة مثل هذه الأمور يُفيد كثيرًا في استقراء المستقبل للمسلمين.



    أحداث في تاريخ الأندلس

    إن في تاريخ الأندلس أحداث يجب أن نعرفها:

    من الضروري أن نعرف موقعة وادي برباط؛ تلك الموقعة التي تُعَدُّ من أهمِّ المعارك في التاريخ الإسلامي، ليس لأنها الموقعة التي فُتحت فيها الأندلس فقط؛ ولكن لأنها تُشَبَّه في التاريخ بموقعتي اليرموك والقادسية، ومع ذلك فإن الكثير من المسلمين لا يسمع من الأساس عن وادي بَرْبَاط.



    ومن الضروري -أيضًا- أن نعلم هل قصة حرق السفن -التي يُقال: إنها حدثت في عهد طارق بن زياد -رحمه الله- حقيقة أم من نسج الخيال؟ كثير من الناس لا يعلم حقيقة وتفاصيل هذه القصة، وكيف حدثت، إنْ كانت قد حدثت؟ وإذا لم تكن حدثت في الأصل فلماذا انتشرت بين الناس؟!

    ثم يجب أن نعرف مَنْ يكون عبد الرحمن الداخل -رحمه الله؛ ذلك الرجل الذي قال عنه المؤرخون: لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام بالكلية من بلاد الأندلس.



    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    كما يجب أن نعرف مَنْ هو عبد الرحمن الناصر، أعظم ملوك أوربا في القرون الوسطى على الإطلاق؛ ويجب أن نعرف كيف وصل إلى هذه الدرجة العالية؟ وكيف أصبح أكبر قوة في العالم في عصره؟

    وكذلك يوسف بن تاشفِين -رحمه الله- القائد الرباني، صاحب موقعة الزلاقة، يجب أن نعرفه ونعرف كيف نشأ؟ وكيف ربَّى الناس على حياة الجهاد؟ وكيف تمكَّن من الأمور؟ بل وكيف ساد دولةً ما وصل المسلمون إلى أبعادها في كثير من فتراتهم؟

    وأبو بكر بن عمر اللمتوني.. هذا المجاهد الذي دخل الإسلامَ على يده أكثرُ من خمس عشرة دولة إفريقية.

    ومن المهم -أيضًا- أن نتعرَّف على أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي، صاحب موقعة الأركِ الخالدة؛ تلك التي دُكَّت فيها حصون النصارى، وانتصر فيها المسلمون انتصارًا ساحقًا.

    كما يجب أن نعرف دولة المرابطين وكيف قامت؟ ودولة الموحدين وكيف قامت؟

    ومن الضروري أن نعرف مسجد قُرْطُبَة، ذلك المسجد الذي كان يُعَدُّ أوسع مساجد العالم، وكيف حُوِّل إلى كنيسة ما زالت قائمة إلى اليوم؟! وكذلك مسجد إِشْبِيلِيَة ينبغي أن نعرفه.

    وينبغي أن نعرف جامعة قُرْطُبَة والمكتبة الأموية، وقصر الزهراء ومدينة الزهراء..



    ينبغي أن نعرف قصر الحمراء، وغيرها من الأماكن الخالدة التي أمست رسومًا وأطلالاً، وهي اليوم في عِدَاد أفضل المناطق السياحية في إسبانيا، وتُزار من عموم الناس؛ سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.



    موقعة العقاب تلك التي مُنِيَ فيها المسلمون بهزيمة ساحقة، رغم تفوُّقهم على عدوِّهم في العدد والعُدَّة، وكأنَّ موقعة حُنَيْن عادت من غابر التاريخ؛ لتروي أحداثها في موقعة العقاب، تلك الموقعة التي قال عنها المؤرخون: بعد موقعة العقاب لم يُرَ في الأندلس شابٌّ صالحٌ للقتال.



    كما يجب أن نعرف كيف سقطت الأندلس؟ وما عوامل السقوط؟ التي إن تكرَّرت في أُمَّة من المسلمين سقطت لا محالة بفعل سنن الله الثابتة.



    ثم كيف وأين سطعت شمس الإسلام بعد سقوط الأندلس؟ كيف جاء غروب شمس الإسلام في الأندلس -في غرب أوربا- متزامنًا مع إشراقها وسطوعها في القسطنطينية شرق أوربا؟



    كما يجب ألاَّ ننسى مأساة بَلَنْسِيَة، وكيف قُتِل ستون ألف مسلم في يوم واحد؟ وما أحداث مأساة أُبَّذَة؟ وكيف قُتل ستون ألف مسلم آخرون في يوم واحد؟



    ثم يجب أن نذكر دائمًا مأساة بَرْبُشْتَر، وكيف قُتل أربعون ألف مسلم في يومٍ واحدٍ، وسُبيت سبعة آلاف فتاة بِكْر من فتيات بَرْبُشْتَر؟! وقد شاهدنا هذه الأحداث الغابرة تُعِيد التحدُّث عن نفسها في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين.

    لو عرفنا هذا كله، وعرفنا ردَّ فعل المسلمين، وكيف قاموا من هذه المآسي المفزعة، لعرفنا كيف ننهض الآن ونقوم.



    تساؤلات في التاريخ الأندلسي

    نعلم أن كثيرًا من التساؤلات، بعد قراءة هذه المقالات ستظل في حاجة إلى إجابة.. إن اتساع مساحة الفترة التاريخية التي نتناولها تجعل من العسير –إن لم يكن من المستحيل- أن نستوعب كل ما يمكن أن يُكتب فيها في مثل هذه المساحة المرصودة للمقالات؛ لذا فلقد حاولنا قدر الاستطاعة وفي حدود ما هو متاح أن نُقَدِّم «قصة الأندلس» كملامح عامة لهذه الفترة التاريخية الثريَّة، كي تكون في ثوبها المختصر ماثلة في الأذهان قريبة من أكبر عدد من شرائح القراء، ولا سيما الشباب الذين هم عدة الحاضر وبشارة المستقبل.



    كما أن بعض الأسئلة ستظلُّ بلا إجابة؛ لأن بعض فترات الأندلس تعاني من ندرة في المصادر، ذلك أنه -وحتى هذه اللحظة- ما زال الكثير من نفائس وذخائر التراث الإسلامي الأندلسي والمغربي في حكم المفقود؛ فإما هي كتب مفقودة بالكامل لا يُعرف إلى أين أخذتها يد الزمان، كما أن كثيرًا من النفائس ما زالت في هيئتها المخطوطة، وتحتاج إلى أن تمتد إليها أيدي العلماء والباحثين لتحقيقها وضبطها وإخراجها إلى عالم المطبوع؛ فيسهل انتشارها والاستفادة منها.



    إلى جانب هذا، فإن المؤرخين -حين يكتبون- فإنما يكتبون الوقائع وعليها ثوب من رؤيتهم وتحليلهم وتفسيرهم لها، ولا شكَّ أن المؤرخ بشرٌ يناله النقص والخطأ وعدم الاستيعاب، ولئن كان تاريخنا الإسلامي قد تميز بوجود مؤرخين لا يترددون في أن يذكروا للشخصية العظيمة مثالبها، وأيضًا يذكرون للشخصية السيئة محاسنها، فإن هؤلاء المؤرخين -أيضًا- ما زالوا بشرًا، تُؤَثِّر صياغاتهم ومواقفهم وميولهم على التحليل والتفسير للوقائع التاريخية.



    لكننا اجتهدنا ما وسعنا الجهد في التقريب والتفسير والترجيح بين ما تعارض من الروايات التاريخية، محاولين الوصول إلى ما نراه الحق، راجين أن يجبر الله عثراتنا، وأن يتقبل منا أعمالنا بقبول حسن.



    الأندلس – الفردوس المفقود

    إن قصة الأندلس قصة مؤلمة؛ ذلك أننا سنستعرض تاريخًا ومجدًا زاهرًا، ونحن نعلم أن هذا المجد قد انتهى وضاع، وصارت الأندلسُ الفردوسَ المفقود.. إلا أنه لا مناص عن قراءة مقالات هذا المجد السليب، وهذا التاريخ الثريّ.. لنقرأ كيف تقام الأمجاد وكيف تضيع، فلئن كنا نسعى في نهضة أمتنا ورفعتها فَلأَن نسعى ونحن نعلم وندرك خبرة الماضي خير من أن نسعى ولا ماضي لنا ولا خبرة.



    إن تاريخ الأندلس بصفحاته الطويلة -أكثر من ثمانمائة عام- يُعَدُّ ثروةً حقيقية.. ثروة ضخمة جدًّا من العلم والخبرة والعِبرة، ومن المستحيل في هذه الدراسة أن نُلِمَّ بكل أحداثه وتفصيلاته، بل لا بُدَّ وأن نُغفِل منه بعض الجوانب؛ ليس تقليلاً من شأنها وإنما اختصارًا للمساحة.

    ومن الواجب على الجميع أن يبحث في تاريخ الأندلس -تاريخ ثمانمائة عام- إذ هو يحتاج أكثر وأكثر مما أفردنا له.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty بلاد الأندلس .. التاريخ والجغرافيا

    مُساهمة من طرف Admin السبت نوفمبر 05 2011, 23:58


    بلاد الأندلس .. التاريخ والجغرافيا

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    الأندلس

    بلاد الأندلس هي اليوم دولتا إسبانيا والبرتغال، أو ما يُسمَّى: شبه الجزيرة الأيبيرية، ومساحتها (مجموع الدولتين) ستمائة ألف كيلو متر تقريبًا؛ أي: أقل من ثُلثي مساحة مصر.



    ويفصل شبه الجزيرة الأندلسية عن المغرب مضيق أصبح يُعرَف منذ الفتح الإسلامي بمضيق جبل طارق، (ويسميه الكُتَّاب والمؤرخون العرب باسم درب الزقاق)، وهو بعرض 12.8كم بين سَبْتَة وجبل طارق.



    جغرافية الأندلس

    فلاشة موقع الاندلس

    تقع شبه الجزيرة الأيبرية في الجنوب الغربي من أوربا، على مثلَّث من الأرض، يضيق كلما اتجهنا نحو الشرق، ويتَّسع كلما اتجهنا إلى الغرب، وتتصل في الشمال بفرنسا (بلاد الفرنجة) بواسطة سلسلة جبلية تُعرف بجبال البرينيه (جبال البرتات)، وباستثناء تلك الناحية فإن المياه تُحيط بها من كل جانب؛ مما جعل العرب يُطلقون عليها «جزيرة الأندلس» على سبيل التجوُّز؛ فالبحر المتوسط يُحيط بها من الشرق والجنوب الشرقي، ويُحيط المحيط الأطلنطي بها من الجنوب الغربي والغرب والشمال.



    فجبال البرينيه هي الفاصل البري الوحيد الذي يربط شبه الجزيرة مع أوربا، فتلتقي في الشمال مع المحيط الأطلنطي، وفي الجنوب مع البحر المتوسط.



    وجبال البرينيه التي تمثِّل فاصلاً بين فرنسا وإسبانيا تجعل الجزيرة وكأنها تُوَلِّي وجهها عن أوربا، فيما تتجه به إلى المغرب، وهذا ما أجمع عليه الجغرافيون المسلمون الذين عدُّوها امتدادًا لإفريقيا، وليست رقعة من القارة الأوربية، والمعروف أن شبه الجزيرة تتشابه مع المغرب في كثير من المعالم النباتية والحيوانية؛ وبخاصة منطقتي سَبْتَة وطَنْجَة



    أمَّا داخل الجزيرة فسنرى أنفسنا أمام هضبة كبيرة تُعْرَف بالمسيتا، تقطعها الجبال بشكل أفقي، وتكثر فيها الأنهار فكأنها تعيش فوق شبكة من المياه.



    لماذا سميت «الأندلس»؟

    وعن سبب تسميتها بالأندلس فقد كانت هناك بعض القبائل الهمجية التي جاءت من شمال إسكندنافيا من بلاد السويد والدنمارك والنرويج وغيرها، وهجمت على منطقة الأندلس وعاشت فيها فترة من الزمن، ويُقال: إن هذه القبائل جاءت من ألمانيا، وما يهمنا هو أن هذه القبائل كانت تسمى قبائل الفندال أو الوندال باللغة العربية؛ فسُمِّيت هذه البلاد بفانداليسيا على اسم القبائل التي كانت تعيش فيها، ومع الأيام حُرِّف إلى أندوليسيا فأندلس.



    وقد كانت هذه القبائل تتسم بالوحشية، و(Vandalism) في اللغة الإنجليزية تعني همجية ووحشية وتخريبًا، وتعني -أيضًا- أسلوبًا بدائيًّا أو غير حضاري، وهو المعنى والاعتقاد الذي رسخته قبائل الفندال، وقد خرجت هذه القبائل من الأندلس، وحكمتها طوائف أخرى من النصارى عُرِفت في التاريخ باسم قبائل القوط (GOTHS) أو القوط الغربيين، وظلُّوا يحكمون الأندلس حتى قدوم المسلمينإليها.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty الأندلس قبل الإسلام

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 00:00


    الأندلس قبل الإسلام

    الجهل والتخلف في أوروبا

    من المفيد جدًّا أن نتعرَّف على حالة أوربا والوضع الذي كانت عليه -وبخاصة بلاد الأندلس- عند الفتح الإسلامي، وكيف تغيَّر هذا الوضع وهذه الحال بعد دخول أهل هذه البلاد في الإسلام؟



    كانت أوربا في ذلك الوقت تعيش فترة من فترات الجهل والتخلُّف البالغ، فكان الظلم هو القانون السائد؛ فالحكَّام يمتلكون الأموال وخيرات البلاد، والشعوبُ تعيش في بؤسٍ شديد، واتخذ الحكَّام القصور والقلاع والحصون؛ بينما عامة الشعب لا يجدون المأوى ولا السكن، وإنما هم في فقر شديد، بل وصل بهم الحال إلى أن يُباعُوا ويُشتَرَوا مع الأرض، وكانت الأخلاق متدنِّية، والحرمات منتهكة، وبَعُدَ حتى عن مقومات الحياة الطبيعية؛ فالنظافة الشخصية -على سبيل المثال- مختفية؛ حتى إنهم كانوا يتركون شعورهم تنسدل على وجوههم ولا يُهَذِّبونها، وكانوا -كما يذكر الرحَّالة المسلمون الذين جابوا هذه البلاد في ذلك الوقت- لا يستحمُّون في العام إلاَّ مرَّة أو مرَّتين، بل يظنُّون أن هذه الأوساخ التي تتراكم على أجسادهم هي صحَّة لهذا الجسد، وهي خير وبركة له



    وكان بعض أهل هذه البلاد يتفاهمون بالإشارة، فليست لهم لغة منطوقة؛ فضلاً عن أن تكون مكتوبة، وكانوا يعتقدون بعض اعتقادات الهنود والمجوس من إحراق المتَوَفَّى عند موته، وحرق زوجته معه وهي حيَّة، أو حرق جاريته معه، أو مَنْ كان يُحِبُّه من الناس، والناس يعلمون ذلك ويُشاهدون هذا الأمر، فكانت أوربا بصفة عامَّة قبل الفتح الإسلامي يسودها التخلُّف والظلم والفقر الشديد، والبُعد التامُّ عن أي وجه من أوجه الحضارة أو المَدَنية



    ودامت همجية أوربا البالغة زمنًا طويلاً من غير أن تشعر بها، ولم يبدُ في أوربا بعض الميل إلى العلم إلاَّ في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر الميلاديين.



    القوط يحكمون الأندلس

    القوط الغربيون


    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    في أواخر القرن الرابع الميلادي استطاع القوط الغربيون بقيادة ألاريك أن يُسيطروا على مصائر القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية؛ بما قَدَّمُوه من خدمات أوصلت الإمبراطور الروماني تيودوسيوس إلى العرش، فلما مات الإمبراطور عام (395م) أصبح ألاريك -زعيم القوط الغربيين- أقوى قائد في غرب أوربا ووسطها، فما لبث أن حاول السيطرة على روما نفسها (عاصمة الإمبراطورية الرومانية) ونجح في هذا فعلاً عام (410م) في مأساة لا يزال يتذكرها التاريخ الأوربي.



    وفي هذه الفترة كانت الدولة الرومانية قد سمحت لقبائل الوندال الهمجية -التي تستوطن شبه الجزيرة الأيبيرية- بالاستقرار في منطقة الشمال الغربي من الجزيرة؛ بشرط ألا تُهَدِّد استقرار المناطق الأخرى، غير أن كثرة القبائل وهمجيتها وضعف الدولة الرومانية، جعل هذه القبائل تُسيطر على كل الجزيرة -تقريبًا- وتُهَدِّد بلاد الغال (فرنسا الآن) -أيضًا- وتمارس تخريبًا همجيًّا كبيرًا.



    ثم انتهى غبار الصراع في روما بموت ألاريك فَخَلَفه أطاووف في زعامة القوط الغربيين، وتطوَّرت الأحوال إلى أن أقرَّت الإمبراطورية الرومانية أطاووف في جنوب بلاد الغال، ثم سَلَّطَتْه على قبائل الوندال، فاستمرَّ زحف القوط الغربيين الأقوياء يُنهي ويضغط ويطرد قبائل الوندال إلى الجنوب، وفي أثناء تراجع الوندال كانوا يُخَرِّبُون ما بقي من حضارة الرومان في شبه الجزيرة، إلى أن انتصر القوط الغربيون وأحكموا سلطانهم على الجزيرة؛ خاصة في عهد الزعيم القوي (واليا Valia).



    لم يلبث الأمر كثيرًا حتى تضعضعت الإمبراطورية الرومانية؛ مما جعل القوط الغربيين يستقلُّون عن الإمبراطورية بحكم شبه الجزيرة، واتخذ (يوريك Euric) لقب الملك في عام (467م)، وهو يُعَدُّ المؤسس الحقيقي لدولة القوط الغربيين، الذين سيُعرفون باسم (القوط) في كل مراحل التاريخ اللاحقة



    لذريق زعيم القوط

    قبل الفتح الإسلامي لإسبانيا بسنة أو تزيد قام أحد رجال الجيش واسمه لُذريق بالاستيلاء على السلطة وعزل الملك غِيطشَة، وغداةَ الفتح الإسلامي كان لُذريق هو حاكم البلاد



    كانت إسبانيا قبل الفتح الإسلامي تشكو الاضطراب والفساد الاجتماعي، والتأخُّر الاقتصادي وعدم الاستقرار؛ نتيجة السياسة ونظام المجتمع السائد، والسلطة الفاسدة، لكن هذا لا يعني أن هذه السلطة لم تكن قادرة على الدفاع، كما لا يعني انعدام قوتها السياسية والعسكرية؛ بل كان بإمكانها أن تصدَّ جيشًا مهاجمًا وتُحاربه وتقف في وجهه؛ فقد أقام القوط في إسبانيا دولة اعْتُبِرَتْ أقوى الممالك الجرمانية حتى أوائل القرن السادس الجرماني، وبقيت بعد ذلك تتمتَّع بقوة عسكرية مُدَرَّبة وقوية، تقارع الأحداث وتقف للمواجهات
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty الدولة الأموية .. وقفة إنصاف

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 00:05


    الدولة الأموية .. وقفة إنصاف

    لماذا الأندلس؟

    لماذا اتّجه المسلمون في فتوحاتهم إلى هذه البلاد خاصَّة؟ لماذا اتجهوا نحو الشمال ولم ينحدروا إلى الجنوب -مثلاً- في أعماق القارة الإفريقية؟ ولِمَ في هذا التوقيت تحديدًا؛ (أي: سنة 92هـ=711م)؟



    كان المسلمون قد انتهَوْا -في هذا الوقت- من فتح بلاد الشمال الإفريقي كلّها؛ فتحوا مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، ووصلوا إلى حدود المغرب الأقصى والمحيط الأطلسي؛ ومن ثَمَّ لم يكن أمامهم في سير فتوحاتهم إلاَّ أحد سبيلين؛ إمَّا أن يتَّجهوا شمالاً، ويعبروا مضيق جبل طارق ويدخلوا بلاد إسبانيا والبرتغال -وهي بلاد الأندلس آنذاك- وإمَّا أن يتَّجهوا جنوبًا صوب الصحراء الكبرى ذات المساحات الشاسعة والأعداد القليلة من السكان.



    لم يكن هدف المسلمين هو البحث عن الأراضي الواسعة أو جمع الثروات، إنما كانت الدعوة إلى الله وتعليم دينه للناس كافَّة هو الهدفَ الأساس للفتوحات الإسلامية، وكان الأمر قد استتبَّ لهم في بلاد شمال إفريقيا في أواخر الثمانينيات من الهجرة؛ لذا كان من الطبيعي أن تتجه الفتوح الإسلامية صوب بلاد الأندلس آنذاك؛ لتصل دعوة الله إلى الجميع.



    وكان هذا هو النهج الذي سار عليه المسلمون في كل فتوحاتهم، ويُجَسِّد هذا النهج ذلك الحوار الذي دار بين ربعي بن عامر t وبين رستم قائد الفرس قبل معركة القادسية -وكان رسولاً إليه- فلقد سأل رستمُ رِبْعِيَّ بنَ عامر: ما جاء بكم؟ فأجابه الصحابي الجليل: إن الله ابتعثنا لنُخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَنْ قَبِلَ ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومَنْ أبى قاتلناه أبدًا حتى نُفضي إلى موعود الله. قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال مَنْ أبى، والظفر لمن بقي



    الدولة الأموية

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
    كان فتح الأندلس في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة؛ أي في عصر الدولة الأموية، وتحديدًا في خلافة الوليد بن عبد الملك -رحمه الله- الخليفة الأموي الذي حكم من عام (86هـ=705م) إلى عام (96هـ=715م)؛ وهذا يعني أن فتح الأندلس كان في منتصف خلافة الوليد الأموي.



    والحقُّ أن الدولة الأموية ظُلمت ظلمًا كثيرًا في التاريخ الإسلامي؛ وأُشيع عنها الكثير من الافتراءات والأكاذيب والأحداث المغلوطة التي تُشَوِّه صورتها، وبالتالي تنال من صورة التاريخ الإسلامي في أزهى عصوره -بعد عصر النبي والخلفاء الراشدين- وهو العصر الذي عاش في كنفه الصحابة والتابعون، ومن أثر ذلك أن زعم بعض الناس -لا سيما أعداء الحكم بالشريعة الإسلامية- أن التاريخ الإسلامي لم يكن إلاَّ في عهد أبي بكر وعمر، بل لقد وصل الأمر إلى الطعن في تاريخ أبي بكر وعمر مع علم الجميع بفضلهما.



    ولا يخفى على أحد أن المراد من ذلك هو أن يترسَّخ في الأذهان استحالة قيام دولة إسلامية من جديد، فإذا كان هذا شأن السابقين القريبين من عهد الرسول وأصحابه رضوان الله عليهم؛ وإذا كان هذا شأن دولتي بني أمية وبني العباس القريبتين من عهد النبوة ومع ذلك لم تستطع إحداهما أن تُقيم حكمًا إسلاميًّا صالحًا -كما يزعمون- فكيف بالمتأخِّرين؟! وهي رسالة يُريدون أن يَصِلُوا بها إلى كل مسلم، وليس لهم من غرض وراء ذلك إلاَّ أنهم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

    وقفة إنصاف لبني أمية (40-132هـ=660-750م)


    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    الدولة الأموية كغيرها من الدول الإسلامية لها الأيادي البيضاء والفضل الكبير على المسلمين في شتَّى بقاع الأرض، ونظرة واحدة على عدد المسلمين الذين دخلوا الإسلام في زمن حكمها تكفي للردِّ على الافتراءات والمزاعم التي حِيكت في حقِّها، فهذا إقليم شمال إفريقيا بكامله دخل الإسلام في عهد بني أمية؛ ابتداء من ليبيا وحتى المغرب، وإذا كانت الفتوح الإسلامية لهذه البلاد قد بدأت في عهد عثمان بن عفان t؛ فإن هذه البلاد قد ارتدَّت على عقبها ثم فُتحت من جديد في عهد بني أمية.



    كانت الدولة الأموية تفتح البلاد بالإسلام في أربع جبهات في وقت واحد، منها جبهة الغرب التي وصلت إلى الأندلس -وهو ما نتحدث عنه في هذه المقالات- لكن ثمة ثلاث جبهات أخرى: كانت في بلاد السند على يد محمد بن القاسم الثقفي، وفي بلاد ما وراء النهر حتى الصين على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، وفي بلاد القوقاز في الشمال على يد مسلمة بن عبد الملك المرواني.



    فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وأشرقت شمس الإسلام على بلادٍ كانت تعبد الأصنام والأوثان والنار والملوك، وانزاحت من وجه العالم خرافاتٌ وأباطيل، وأبصر الناس –بفضل الله الذي جرى على يد بني أمية- نور الله المبين، فأقبلوا على الإسلام زرافات ووحدانًا، ثم ما لبثوا أن كانوا من جنوده وأبطاله وعلمائه ورُوَّاده، وقطفت الأُمَّة الإسلامية عبر كل تاريخها ثمار الزرع الذي غرسه بنو أمية، فكم من رءوس الأُمَّة ومُقَدِّميها -في العلم والفقه والتفسير والأدب والطب والجغرافيا والهندسة والكيمياء والفلسفة- كانوا من هذه البلاد التي فتحها بنو أمية! مثل:



    البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، والطبري وابن خلدون والذهبي، وابن سينا والفارابي والكندي والبيروني، وسلسلة طويلة تستعصي على الحصر، فتح الإسلام بلادهم ثم قلوبهم، ثم فتح بهم بلادًا وقلوبًا أخرى كثيرة.



    كان الجهاد في أيام الأمويين أمرًا طبيعيًّا؛ يخرج إليه الناس ابتغاء مرضاة ربهم، وتبليغًا لدعوة ربِّ العالمين، وإضافة إلى ذلك فقد دُوِّنَت السُّنَّة النبوية في خلافتهم، وحُكِّم شرع الله وطُبِّق في دولتهم.



    ولقد قال فيهم الإمام الكبير العَلَم ابن حزم كلمة ما أصدقها، قال: «وكانت دولة عربية لم يتخذوا قاعدة، إنما كان سكنى كل امرئ منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة، ولا أكثروا احتجانَ الأموال ولا بناءَ القصور، ولا استعملوا مع المسلمين أن يخاطبوهم بالتمويل ولا التسوي، ويُكاتبوهم بالعبودية والمُلك، ولا تقبيل الأرض ولا رِجْلٍ ولا يَدٍ وإنما كان غرضهم الطاعةَ الصحيحة من التولية والعزل في أقاصي البلاد، فكانوا يعزلون العمَّال، ويولُّون الآخرين في الأندلس، وفي السند، وفي خراسان، وفي أرمينية، وفي اليمن، فما بين هذه البلاد. وبعثوا إليها الجيوش، وولَّوْا عليها مَنِ ارتضوا من العمال... فلم يملك أحد من ملوك الدنيا ما ملكوه من الأرض، إلى أن تغلَّب عليهم بنو العباس بالمشرق، وانقطع بهم ملكهم، فسار منهم عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس، وملكها هو وبنوه، وقامت بها دولة بني أمية نحو الثلاثمائة سنة، فلم يكُ في دول الإسلام أنبل منها، ولا أكثر نصرًا على أهل الشرك، ولا أجمع لخلال الخير»



    ومع كل هذا فإنَّا لا نقول بتبرئتهم من كل خطأ أو عيب؛ فالنقص والخطأ شيمة البشر، ومن المؤكَّد أن هناك أخطاءً كثيرةً في تاريخ بني أمية، لكن -بلا شكٍّ- كل هذه الأخطاء تذوب في بحر حسناتهم وبحر أفضالهم على المسلمين، فقد امتدَّ حُكم بني أمية اثنين وتسعين عامًا، من عام (40هـ=660م) إلى (132هـ=750م)، وكان أول خلفاء بني أمية الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان t -ورضي الله عن أبيه أبي سفيان صاحب رسول الله - ذلك الخليفة الذي لم يَسْلَم من ألسنة كثير من الناس؛ فطعنوا في تاريخه وفي خلافته t، ولقد كذبوا، فليتنا نَصِلُ إلى معشار ما فعله معاوية بن أبي سفيان للإسلام والمسلمين.



    وإن كان هذا ليس مجال الحديث عن بني أمية إلاَّ أنَّ هذه المقدمة البسيطة قد تُفيد -بمشيئة الله- في الحديث عن الأندلس، فبعد معاوية بن أبي سفيان t تتابع الخلفاء الأُميون، وكان أشهرهم عبد الملك بن مروان -رحمه الله، ومَنْ تَبِعَه من أولاده، وكان منهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وقد تخلَّلهم الخليفة الراشد المشهور عمر بن عبد العزيز t، وهو خليفة أموي من أبناء الدولة التي يطعنون فيها، وهو الذي ملأ الأرض عدلاً ورحمةً وأمنًا ورخاءً؛ حتى عدَّه المؤرخون خامس الخلفاء الراشدين.



    أمَّا الجانب السيِّئ من تاريخ دولة بني أمية فإنه يكمن في السنين السبع الأخيرة من تاريخهم، تلك التي شهدت الكثير من المآسي، والكثير من الاختلاف عن المنهج الإسلامي، وكانت سُنَّة الله تعالى؛ فحين فسد الأمر في الدولة الأموية قامت دولة أخرى وهي الدولة العباسية، أمَّا الأندلس وفَتْحُها فيبقى حسنةً من أعظم حسنات بني أمية.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty موسى بن نصير .. القائد الفذ

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 00:08


    موسى بن نصير .. القائد الفذ

    وضع المسلمين في الشمال الإفريقي

    دخل الإسلام بلاد الشمال الإفريقي قبل فتح الأندلس بسبعين سنة؛ أي سنة (22هـ=644م)، وكانت تسكن هذا الإقليم قبائل ضخمة تُسَمَّى قبائل الأمازيغ (البربر) وهذه القبائل قبائل قوية الشكيمة شديدة البأس، وقد ارتدَّت عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ فدارت الحروب بينها وبين المسلمين، وانتهت باستقرار الإسلام في هذا الإقليم أواخر عام (85 أو 86هـ= 704 أو 705م) على يد موسى بن نصير -رحمه الله.



    موسى بن نصير القائد ابن القائد (19-97هـ=640-716م)


    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    كان موسى بن نصير قائدًا بارعًا، تقيًّا ورعًا، ثَبَّت الله به أقدام الإسلام في هذه المنطقة المترامية الأطراف، وهو من التابعين، وقد روى عن بعض الصحابة مثل تميم الداريt.



    قال عنه ابن خلِّكان: كان عاقلاً كريمًا شجاعًا ورعًا تقيًّا لله تعالى، لم يُهزم له جيشٌ قطُّ. أمَّا أبوه فهو نُصَير بن عبد الرحمن بن يزيد، وكان شجاعًا وممن شهد معركة اليرموك الخالدة، وكانت منزلته مكينة عند معاوية بن أبي سفيان t، وبلغ في الرتب أن كان رئيس الشرطة في عهد معاوية حين كان واليًا على الشام في خلافة عمر وعثمان ، وفي روايات أخرى أنه كان رئيس حرس معاوية نفسه



    ولمَّا خرج معاوية لصفين لم يخرج نُصير معه، فقال له: ما منعك من الخروج معي؛ ولي عندك يدٌ لم تُكافئني عليها؟ فقال: لم يمكني أن أشكرك بكفري مَنْ هو أولى بشكري منك. فقال: مَنْ هو؟ فقال: الله . فأطرق مليًّا، ثم قال: أستغفر الله. ورضي عنه.



    كذلك روى التاريخ لأمِّ موسى قصة بليغة في الشجاعة، فلقد شهدت هي -أيضًا- معركة اليرموك مع زوجها وأبيه، وفي جولة من جولات اليرموك التي تقهقر فيها المسلمون أبصرت أمُّ موسى رجلاً من كفار العجم يأسر رجلاً من المسلمين، تقول: "فأخذتُ عمود الفسطاط، ثم دنوت منه فشدخت به رأسه، وأقبلتُ أسلبه فأعانني الرجل على أخذه"



    فمِن هذين الأبوين خرج مُوسَى بن نصير، الذي تربَّى في كنف القادة وقريبًا من بيت الخلافة مع أولاد معاوية وأولاد الأمراء والخلفاء، فنشأَ على حُبِّ الجهاد في سبيل الله ونشر الدين؛ حتى أصبح شابًّا يافعًا يتقلَّد الرتب والمناصب فكان على الخراج بالبصرةولى قيادة جيش البحر وغزا قبرص في عهد معاوية ، ثم تولَّى إفريقية والمغرب في عهد الوليد بن عبد الملك في عام 89 هـ، وقيل في عام 77 هـ



    من هنا كانت الفرصة مواتية لموسى بن نصير ليُنْجِزَ ما عجز السابقون عن إنجازه، فيُعيد الاستقرار لهذا الإقليم؛ فتوَجَّه –رحمه الله- ناحية المغرب وأعاد تنظيم القوات الإسلامية، وكانت البلاد في ذلك الوقت في قحطٍ شديد، فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء. وأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صَلَّى وخطب في الناس ودعا، ولم يذكر الوليدَ بنَ عبد الملك، فقيل له: ألا تدعو لأمير المؤمنين؟!

    فقال: هذا مقام لا يُدعى فيه لغير الله ، فسُقُوا حتى رَوَوا



    [color=red]موسى بن نصير يُثَبِّت دعائم الإسلام في إفريقيا


    كان الهمُّ الأول لموسى بن نصير منذ أصبح واليًا على المغرب هو تثبيت دعائم الإسلام في هذا الإقليم، الذي ارتدَّ أهله عن الإسلام أكثر من مرَّة؛ ولكي يتمكَّن من ذلك كان عليه أن يعلم لماذا يرتدُّ الناس في هذا الإقليم عن الإسلام؟ وكيف يعودون لقتال المسلمين بعد أن كانوا مسلمين؟!



    أسباب الردة

    وفي بحثه عن أسباب هذه الردَّة المتكرِّرة وجد موسى بن نصير خطأين وقع فيهما مَنْ سبقوه:

    الخطأ الأول: هو أن عقبة بن نافع ومَن معه كانوا يفتحون البلاد فتحًا سريعًا، ثم يتوغَّلُون داخلها طمعًا في فتح أماكن أخرى كثيرة، دون أن يُوَفِّرُوا الحماية لظهورهم في هذه المناطق التي فتحوها؛ ومن ثَمَّ كانت النتيجة أن الأمازيغ (البربر) انتبهوا لهذا الأمر واستغلُّوه جيدًا؛ فانقلبوا على عُقبة وأحاطوا به وقتلوه، وحتى يتغلَّب على هذا الأمر بدأ مُوسَى بن نُصَير بفتح البلاد في أناةٍ شديدة، وفي هدوء وحذرٍ كحذر خالد بن الوليد t، فبدأ يتقدَّم خطوة ثم يُؤَمِّن ظهره، ثم خطوة أخرى ويُؤَمِّن ظهره، حتى أتمَّ الله عليه فتح هذا الإقليم مرَّة أخرى في سبع أو ست سنوات، بينما استغرق عقبة بن نافع في فتحه شهورًا معدودات.



    أمَّا الخطأ الثاني: فقد وجد أن سكان هذا الإقليم لم يتعلَّموا الإسلام جيدًا، ولم يعرفوه حقَّ المعرفة، فبدأ بتعليمهم الإسلام؛ فكان يأتي بعلماء التابعين من الشام والحجاز ليُعَلِّمُوهم الإسلام ويُعَرِّفُوهم به، فأقبلوا على الإسلام وأحبُّوه، ودخلوا فيه أفواجًا، حتى أصبحوا جند الإسلام وأهله بعد أن كانوا يُحاربون المسلمين
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty موسى بن نصير وقرار فتح الأندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 00:12


    موسى بن نصير وقرار فتح الأندلس

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    فتح الأندلس .. تفكير قديم

    لم يكن موسى بن نصير -رحمه الله- هو أول مَنْ فَكَّر في فتح الأندلس، وإنما كانت فكرة فتح الأندلس فكرة قديمة؛ فلقد استطاعت الجيوش الإسلامية أيام عثمان بن عفان الوصول إلى القسطنطينية ومحاصرتها، إلاَّ أنها لم تستطع أن تفتحها، فقال عثمان بن عفان t: "إن القسطنطينية إنما تُفتح من قِبَل البحر، وأنتم إذا فتحتم الأندلس فأنتم شركاء لمن يفتح القسطنطينية في الأجر آخر الزمان



    أي: إنه على المسلمين لكي يتمكَّنُوا من فتح القسطنطينية أن يفتحوا الأندلس أولاً، ثم يتَّجهون منها بعد ذلك إلى القسطنطينية -في شرق أوربا- ويقصد عثمان t بالبحر ما كان يُعرف بالبحر الأسود في ذلك الوقت، لكن المسلمين لم يستطيعوا أن يصلوا إلى الأندلس إلاَّ أيام بني أمية، وفي ولاية موسى بن نصير على الشمال الإفريقي.

    موسى بن نصير وعقبات فتح الأندلس

    استتبَّ الأمر لموسى بن نصير في شمال إفريقيا، وانتشر الإسلام وبدأ الناس يُقبلون على تعلُّم دينهم، فلمَّا رأى موسى بن نصير ثمار عمله، بدأ يُفَكِّر في نشر الإسلام في البلاد التي لم يصلها بعدُ، فبدأ يُفَكِّر في فتح بلاد الأندلس، والتي لا يفصلها عن شمال إفريقيا سوى المضيق الذي صار يُعْرف بعد الفتح الإسلامي بـ(مضيق جبل طارق)، ولكن كانت هناك عدَّة عقباتٍ؛ كان أهمها ما يلي:

    العقبة الأولى: قلَّة السفن

    وجد موسى بن نصير أن المسافة التي سيقطعها في البحر بين المغرب والأندلس لا تقلُّ عن 13 كم، ولم يكن لديه سفنٌ كافيةٌ ليعبر بجيشه هذه العقبة المائية؛ فمعظم معارك المسلمين -باستثناء بعض المواقع مثل: ذات الصواري وفتح قبرص- كانت برِّيَّة؛ ومن ثَمَّ لم تكن هناك حاجة كبيرة إلى سفن ضخمة، ولكن الآن الأمر مختلف، وهم في حاجة للسفن الضخمة لتنقل الجنود وَتَعْبر بهم المضيق ليصلوا إلى الأندلس.

    العقبة الثانية: وجود جزر البليار النصرانية في ظهره

    كان موسى بن نصير قد تعلَّم من أخطاء سابقيه؛ فلم يكن يخطو خطوةً حتى يُؤَمِّن ظهره أولاً، وفي شرق الأندلس كانت تقع جزرٌ تُسَمَّى جزر البليار -وهي عدَّة جزر تقع أمام الساحل الشرقي لإسبانيا، وأهمها ثلاثة جزر هي: مَيُورْقَة ومَنُورقَة ويَابِسَة، وتُسَمَّى في المصادر العربية بالجزر الشرقية- وهي قريبة جدًّا من الأندلس؛ ومن هنا فإن ظهره لن يكون آمنًا إن دخل الأندلس، وكان عليه أولاً أن يحمي ظهره.



    العقبة الثالثة: وجود ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق في أيدي نصارى على علاقة بملوك الأندلس

    لم يكن المسلمون حينئذٍ قد فتحوا مدينة سَبْتَة، وهي مدينة ذات موقع استراتيجي مهم، ولها ميناء يطلُّ على مضيق جبل طارق، فكانت آنئذٍ تحت حكم رجل نصراني يُدْعَى (يُليان)، الذي كانت تربطه علاقات طيبة بملك الأندلس السابق غِيطشَة، وغِيطشَة هذا كان قد تعرَّض لانقلاب قادَه قائد له يُدعى لُذريق، وتولى لُذريق حُكم الأندلس نتيجة هذا الانقلاب، فخشي موسى بن نصير إن هو هاجم الأندلس أن يتحالف يُليان مع لُذريق ضدَّه نظير مقابل مادي أو تحت أي بند آخر، فيُحاصروه ويقضوا عليه هو وجنوده.

    العقبة الرابعة: قلة عدد المسلمين

    كانت العقبة الرابعة التي واجهت موسى بن نصير هي أن قوات المسلمين الفاتحين التي جاءت من جزيرة العرب ومن الشام واليمن محدودة جدًّا، وكانت في الوقت نفسه منتشرة في بلاد الشمال الإفريقي؛ ومن ثَمَّ قد لا يستطيع أن يُتِمَّ فتح الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين، هذا مع خوفه أن تنقلب عليه بلاد الشمال الإفريقي إذا هو خرج منها بقواته.

    العقبة الخامسة: كثرة عدد النصارى

    في مقابل قوَّة المسلمين المحدودة كانت قوات النصارى تقف بعُدَّتها وضخامتها عقبةً في طريق موسى بن نصير لفتح الأندلس، وكان للنصارى في الأندلس أعدادٌ ضخمةٌ، هذا بجانب قوَّة عُدَّتهم وكثرة قلاعهم وحصونهم، وإضافة إلى ذلك فهم تحت قيادة لُذريق القائد القوي.



    العقبة السادسة: طبيعة جغرافية الأندلس، وكونها أرضًا مجهولةً بالنسبة للمسلمين


    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    كان البحر حاجزًا بين المسلمين وبلاد الأندلس، فلم يكونوا على علمٍ بطبيعتها وجغرافيتها؛ وهذا ما يجعل الإقدام على غزو أو فتح هذه البلاد أمرًا صعبًا، فضلاً عن هذا فقد كانت بلاد الأندلس تتميَّز بكثرة الجبال والأنهار، تلك التي ستقف عقبةً كئودًا أمام حركة أيِّ جيش قادم، خاصةً إذا كانت الخيول والبغال والحمير هي أهمُّ وسائل ذلك الجيش في نقل العُدَّة والعَتَاد.

    موسى بن نصير ومواجهة العقبات

    لم يستسلم موسى بن نصير رغم هذه العقبات التي كانت موجودة في طريق فتح الأندلس، بل زادته هذه العقبات إصرارًا على فتحها، ومن هنا بدأ -وفي أناةٍ شديدة- يُرَتِّب أموره ويُحَدِّد أولوياته، فعمل على مواجهة هذه العقبات على النحو التالي:

    أولاً: بناء المواني وإنشاء السفن

    بدأ موسى بن نصير في عام (87 أو 88هـ=706 أو 707م) ببناء المواني التي تُشَيَّد فيها السفن، وإن كان هذا الأمر ربما يطول أمده، إلاَّ أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناء في الشمال الإفريقي

    ثانيًا: تعليم الأمازيغ (البربر) الإسلام

    وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير -أيضًا- يبذل جهودًا أكبر لتعليم الأمازيغ (البربر) الإسلامَ في مجالس خاصة لهم، أشبه بما نُسَمِّيه الآن الدورات المكثَّفة، فلمَّا اطمأنَّ إلى فهمهم للإسلام بدأ يعتمد عليهم ويستعملهم في جيشه، وهذا الصنيع من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- أن نجده عند غير المسلمين؛ فلم تستطع دولةٌ محارِبَةٌ أو فاتحة غير الدول الإسلامية أن تُغَيِّر من طبائع الناس وحُبِّهم وولائهم الذي كانوا عليه؛ حتى يُصبحوا هم المدافعين عن هذه الدولة والناشرين لدينها؛ خاصَّة إذا كانوا حديثي عهدٍ بهذا الفتح أو بهذا الدين الجديد، فهذا أمر عجيب حقًّا، ولا يتكرَّر إلاَّ مع المسلمين وحدهم؛ فقد ظلَّت فرنسا -على سبيل المثال- في الجزائر مائة وثلاثين عامًا، ثم خرجت جيوشها، بينما ظلَّ الجزائريون كما كانوا على الإسلام لم يتغيَّرُوا، بل زاد حماسهم له وزادت صحوتهم الإسلامية.



    علَّم موسى بن نصير الأمازيغ (البربر) الإسلام عقيدةً وعملاً، وغرس فيهم حُبَّ الجهاد وبَذْل النفس والنفيس لله ؛ فكان أن صار جُلُّ الجيش الإسلامي وعمادُه من الأمازيغ (البربر) الذين كانوا منذ ما لا يزيد على خمس سنوات من المحاربين له.

    ثالثًا: تولية طارق بن زياد على الجيش

    القائد هو قِبلة الجيش وعموده، بهذا الفَهْم ولَّى موسى بن نصير قيادةَ جيشه - المتَّجه إلى فتح بلاد الأندلس - القائدَ الأمازيغي (البربري) المحنَّك طارق بن زياد (50-102هـ=670-720م) ذلك القائد الذي جمع بين التقوى والورع، والكفاءة الحربية، وحُبِّ الجهاد، والرغبة في الاستشهاد في سبيل الله، ورغم أنه كان من الأمازيغ (البربر) وليس من العرب إلاَّ أن موسى بن نصير قدَّمه على غيره من العرب، وكان ذلك لعدة أسباب؛ منها:

    1- الكفاءة: لم يمنع كون طارق بن زياد غير عربي أن يُوَلِّيَه موسى بن نصير قيادةَ الجيش؛ فهو يعلم أنه ليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي فضلٌ إلاَّ بالتقوى؛ فقد وجد فيه الفضل على غيره، والكفاءة في القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن دعوة الإسلام ليست دعوة قَبَلِية أو عنصرية تدعو إلى التعصب، وتُفَضِّل عنصرًا أو طائفةً على طائفة؛ إنما هي دعوة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].



    2- قدرته على فَهم وقيادة قومه: إضافة إلى الكفاءة التي تميَّز بها طارق بن زياد كان لأصله الأمازيغي (البربري) الفضلُ في القضاء على أيٍّ من العوامل النفسية التي قد تختلج في نفوس الأمازيغ (البربر) الذين دخلوا الإسلام حديثًا؛ ومِن ثَمَّ استطاع قيادتهم وتطويعهم للهدف الذي يصبو إليه، ثُمَّ لكونه أمازيغيًّا (بربريًّا) فهو قادر على فهم لغة قومه؛ إذ ليس كل الأمازيغ (البربر) يُتقنون الحديث بالعربية، وكان طارق بن زياد يُجيد اللغتين العربية والأمازيغية (البربرية)؛ ولهذه الأسباب وغيرها رأى موسى بن نصير أنه يصلح لقيادة الجيش فولاَّه إيَّاها.

    رابعًا: فتح جزر البليار وضمها إلى أملاك المسلمين

    من أهمِّ الوسائل التي قام بها موسى بن نصير تمهيدًا لفتح الأندلس، وتأمينًا لظهره -كما عهدناه- قام بفتح جزر البليار -التي ذكرناها سابقًا- وضمَّها إلى أملاك المسلمين، وبهذا يكون قد أمَّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدلُّ على حُنكته وبراعته في التخطيط والقيادة، ومع هذا كلِّه فقد أُغفِل دورُه في التاريخ الإسلامي كثيرًا.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty سرية طريف بن مالك

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 00:16


    سرية طريف بن مالك

    استطاع موسى بن نصير أن يتغلَّب على قلَّة عدد الجيش من خلال الأمازيغ (البربر) أنفسِهم، وتغلَّب -كذلك- على العقبة المتمثِّلة في قلَّة السفن نسبيًّا ببناء موانٍ وصناعةِ سفنٍ جديدة، وبقيت أرض الأندلس -كما هي- أرضًا مجهولة له، وكذلك ظلَّت مشكلة ميناء سبتة قائمة لم تُحَلّ بعدُ، وهو ميناء حصين جدًّا يحكمه النصراني يُليان، وقد استنفد موسى بن نصير جهده وطاقته، وفعل كل ما في وُسْعِه، ولم يجد حلاًّ لهاتين المشكلتين، وهنا تدخَّل الأمر الإلهي والتدبير الرباني: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17].



    وهذا ما حدث بالفعل وتجسَّد في فعل يُليان صاحب سَبْتَة، وكان على النحو التالي:

    - فكَّر يُليان جدِّيًّا في الأمر من حوله، وكيف أن الأرض بدأت تضيق عليه، وتتآكل من قِبَل المسلمين الذين يزدادون قوَّة يومًا بعد يوم، وتساءل: إلى متى سيظلُّ صامدًا أمامهم إن هم أتوا إليه؟

    - ومن جانب آخر كان يُليان مع ذلك يحمل الحقد الدفين لـ لُذريق حاكم الأندلس؛ ذلك الذي قتل صديقه غِيطشَة ، وقد كان بين يُليان وغِيطشَة علاقات طيبة؛ حتى إن أولاد غِيطشَة من بعده استنجدوا بـ يُليان هذا ليُساعدهم في حرب لُذريق، ولكن لم يكن لـ يُليان طاقة بلُذريق، كما لم يكن لأولاد غِيطشَة -أيضًا- طاقة به، ومن هنا كان ثمة عداء دفين بين صاحب سَبْتَة وحاكم الأندلس؛ ومن ثَمَّ فإلى أين سيفرُّ يُليان إن استولى المسلمون على ميناء سَبْتَة؟!



    - وتَذْكُر الكثيرُ من الروايات أن السبب الرئيس في توتُّر العلاقة بين يُليان حاكم سَبْتَة ولُذريق حاكم الأندلس، ما فعله الأخير بابنة يُليان؛ إذ إنه اغتصبها، فلمَّا أُخبر بذلك يُليان أقسم أن ينال منه، ولم يجد أمامه إلاَّ أن يُساعد المسلمين ويُوَفِّر لهم بعض التسهيلات



    - والأمر الأخير الذي نتوقَّع أنه دار في خَلَدِ يُليان هو أن ظروف الأندلس الداخلية كلها كانت تصبُّ في مصلحة المسلمين؛ إنْ هم أرادوا فتح الأندلس، فكان يُليان على علم بأن لُذريق قد بالغ في ظلم شعب الأندلس، وفَرَضَ عليهم الضرائب الباهظة؛ فعاشوا في فقر وبؤس شديدين؛ بينما هو في النعيم والمُلك؛ وهذا ما جعلهم يكرهونه ويتمنَّوْنَ الخلاص منه، كما أنه قد عاد إلى اضطهاد اليهود، وكان قد رُفع عنهم الاضطهاد أيام غِيطشَة، فلمَّا جاء لُذريق أعاد العنف والقهر؛ لدرجة أنهم أرسلوا وفدًا ليُقابل طارق بن زياد ويستحثُّه على فتح الأندلس هذا إلى جوار رغبة يُليان في استعادة ممتلكات وضِياع أولاد غِيطشَة الكثيرة في الأندلس، والتي كان لُذريق قد صادرها.



    عرض يليان

    من تدبير ربِّ العالمين أن اختمرت هذه الأفكار جيدًا في عقل يُليان، بينما كان موسى بن نصير -آنذاك- قد استنفد جهده وتحيَّر في أمره -فإذا بيُليان يُرسل إلى طارق بن زياد والي طَنْجَة (على بعد عدَّة كيلو مترات من ميناء سَبْتَة) برُسُلٍ من قِبَله يعرض عليه عرضًا للتفاوض، أمَّا تدبير العناية الإلهية والمفاجأة الحقيقية فكانت في بنود هذا العرض وهذا الطلب العجيب، الذي نصَّ على ما يلي:

    1- نسلِّمُك ميناء سَبْتَة. (وكانت تلك معضلة حَارَ المسلمون أعوامًا في الاهتداء إلى حلٍّ لها؛ حيث كانت فوق مقدرتهم).

    2- نمدُّك بالمعلومات الكافية عن أرض الأندلس.

    أمَّا المقابل فهو: ضيعات[3] وأملاك غِيطشَة التي صادرها لُذريق، وكان لغِيطشَة ثلاثة آلاف ضيعة، وكانت مِلكًا لأولاده من بعده، فأخذها منهم لُذريق وصادرها



    ما أجمل العرض وأحسن الطلب!

    بهذا العرض أراد يُليان صاحب سَبْتَة أن يتنازل للمسلمين عن سَبْتَة، ويُساعدهم في الوصول إلى الأندلس، ثم حين يحكمها المسلمون يسمع يُليان ويُطيع، على أن يردَّ المسلمون بعد ذلك ضيعات وأملاك غِيطشَة، فما أجمل العرض! وما أحسن الطلب! وما أعظم السلعة! وما أهون الثمن!

    إن المسلمين لم يُفَكِّروا يومًا في مغنم أو ثروة أو مالٍ حالَ فتحهم البلاد، ولم يرغبوا يومًا في دنيا يملكها غِيطشَة أو يُليان أو لُذريق.. أو غيرهم؛ فقد كان هدفهم تعليم الناس الإسلام، وتعبيدهم لربِّ العباد XXXXXXXXXX codeBase=http://download.macromedia.com/pub/shockwave/cabs/flash/swflash.cab#version=6,0,40,0 height=18 width=18 classid=clsid:d27cdb6e-ae6d-11cf-96b8-444553540000> ، فإذا دخل الناس في الإسلام كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولو لم يدخلوا في الإسلام وأرادوا دفع الجزية فحينئذٍ يُترك لهم كل ما يملكون.



    ومن هنا كان الثمن هيِّنًا جدًّا والعرض غاية الآمال، فبعث طارق بن زياد إلى موسى بن نصير -وكان في القيروان عاصمة الشمال الإفريقي آنذاك (وهي في تونس الآن)- يُخبره هذا الخبر، فسُرَّ سرورًا عظيمًا، ثم بعث موسى بن نصير بدوره إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يُطلعه -أيضًا- الخبر، ويستأذنه في فتح الأندلس، فكتب إليه الوليد: أن خُضْهَا بالسرايا؛ حتى تختبر شأنها، ولا تُغَرِّرْ بالمسلمين في بحرٍ شديد الأهوال. فراجعه: إنه ليس ببحر؛ وإنما هو خليج، يُتبيَّن للناظر ما وراءه. وهنا أَذِنَ له الوليد بن عبد الملك، إلاَّ أنه شرط عليه شرطًا كان قد فكَّر فيه قبل ذلك موسى بن نصير نفسُه، وهو: ألاَّ يدخل بلاد الأندلس حتى يختبرها بسَرِيَّة من المسلمين، فما يُدريه أن المعلومات التي سيُقَدِّمها له يُليان عن الأندلس ستكون صحيحة؟! ومَنْ يضمن له ألاَّ يخون يُليان عهده معه، أو يتَّفق مِنْ ورائه مع لُذريق، أو مع غيره؟



    سَرِيَّةُ طَرِيف بن مَالِك

    وصلت رسالة الإذن من الخليفة الوليد بن عبد الملك فجهَّز موسى بن نصير بالفعل سريةً من خمسمائة رجل، وجعل على رأسهم طَريف بن مالك، وكان طريف -أيضًا- من الأمازيغ (البربر).

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    سار طريف بن مالك -ويكنى أبا زرعة- من المغرب على رأس خمسمائة من المسلمين (أربعمائة راجل معهم مائة فارس) صوب الأندلس، واستقلَّ أربعة مراكب فوصلها في رمضان عام (91هـ=710م)، وتَذْكُر بعض الروايات أن طريفًا قام بعدَّة غارات وغنم غنائم كثيرة من أموال وأمتعة وأسرى أيضًا



    وقد قام طريف بن مالك / بمهمته على أكمل وجه في دراسته لمنطقة الأندلس الجنوبية، التي سينزل فيها الجيش الإسلامي بعد ذلك، (وقد عُرِفَت هذه الجزيرة فيما بعدُ باسم هذا القائد فسُمِّيَتْ جزيرة طريف)، ثم عاد بعد انتهائه منها إلى موسى بن نصير وشرح له ما رآه، وفي أناةٍ شديدةٍ وعملٍ دءوبٍ ظلَّ موسى بن نصير بعد عودة طريف بن مالك عامًا كاملاً يُجَهِّز الجيش ويُعِدُّ العُدَّة، حتى جَهَّزَ في هذه السنة سبعةَ آلافِ مقاتلٍ، وبدأ بهم الفتح الإسلامي للأندلس رغم الأعداد الضخمة لقواتِ النصارى هناك



    فتح الأندلس ومساعدة يُليان واليهود

    شبهة مساعدة يليان

    تكثر بعض الروايات العربية والأجنبية من ذِكْر يُليان حاكم سَبْتَة وتُقحمه في كل مرحلة من مراحل فتح المسلمين لبلاد الأندلس، وتُفيد بأن التفكير في فتح الأندلس لم يأتِ إلاَّ بعد عرض يُليان المساعدة على المسلمين، أو طلبه المساعدة من المسلمين لإرجاع أولاد غِيطشَة إلى حكم الأندلس، والانتقام من لُذريق الذي نال من عِرْض ابنته.



    وحقيقة الأمر أن الاتصال بين يُليان حاكم سَبْتَة وبين طارق بن زياد وموسى بن نصير جاء مواتيًا في الوقت الذي كان فيه موسى بن نصير (والي إفريقية) يُفَكِّر في فتح الأندلس، وذلك بعد فتح طَنْجَة المشرفة على الأندلس، فمن الطبيعي جدًّا أن تكون الأندلس هي الخطوة الثانية التي يُفَكِّر فيها موسى بن نصير، ونحن لا ننفي الاتصال بين الجانبين الإسلامي والإسباني؛ ولكن لا نجعله السبب الرئيس لفكرة الفتح؛ لأنه يُقَلِّلُ من قيمة الفتح الإسلامي للبلاد؛ حيث يَدَّعِي البعض أن مساعدات يُليان وتسهيلاته لطارق هي التي ساعدت في نجاح الفتح، ولكننا لا نستبعد أن يكون ذلك عاملاً مساعدًا من عوامل نجاح عملية الفتح، ولا يُستبعد -كذلك- أن يكون يُليان قدَّم تسهيلات للمسلمين؛ خاصة فيما يتعلَّق بأماكن البلاد وسبل مداخلها ومخارجها، أمَّا أن يكون العامل الوحيد فهذا أمر تأباه الحقيقة التاريخية.



    شبهة مساعدة اليهود

    أمَّا ما يتعلَّق بمساعدة اليهود للمسلمين وتقديمهم التسهيلات اللازمة لإتمام عملية الفتح، فليس لها أساس من الصحَّة لأسباب عدة؛ منها:

    لا توجد أي إشارة في المصادر والمراجع العربية عن أي تسهيلات قدَّمها اليهود للمسلمين؛ إذ لو كانت هناك مساعدة لذكرها المؤرخون للتاريخ الأندلسي وهم كثر، ولتناقلتها الرواة جيلاً بعد جيل؛ كما ذكروا مساعدة يُليان وتناقلوها.



    ليس من الداعي أن نُقحم اليهود في عملية الفتح؛ خاصَّة بعد أن علمنا أن فكرة الفتح نفسها فكرة إسلامية صميمة؛ قبل أن يعرض يُليان أو أولاد غِيطشَة أو اليهود المساعدة على المسلمين، فكان من حكمة القائد الفذِّ موسى بن نصير أن يستغلَّ هذه الفرصة، خاصة وهم أدرى الناس بمداخل الأندلس ومخارجها.



    المتتبِّع لسير عملية الفتح التي قام بها المسلمون للمدن الأندلسية، يتَّضح له أن المسلمين لم يكونوا على علم بوجود أعداد كثيرة من اليهود في بلاد الأندلس، فصاحب (أخبار مجموعة) يقول عن فتح إِلْبِيرة: «فحَصَروا مدينتها فافْتُتِحَتْ، فألْفَوا بها يومئذٍ يهودًا. ويقول لسان الدين بن الخطيب صاحب كتاب (الإحاطة في أخبار غرناطة) عن فتح طارق بن زياد لغَرْنَاطَة مدينة إِلْبِيرة: «فحاصروا مدينتها، وفتحوها عَنْوَة، وألفوا بها يهودًا ضمُّوهم إلى قَصَبَة غَرْنَاطَة، وصار لهم ذلك سُنَّة مُتَّبَعَة؛ متى وجدوا بمدينة فتحوها يهودًا، يضمونهم إلى قصبتها، ويجعلون معهم طائفةً من المسلمين يسدونها».



    وهذا ينفي وجود أي صلة لليهود بالفتح؛ إذ لو كان لهم صلة لَعَلِمَ المسلمون بأماكن تواجدهم بالأندلس، وصيغة «ألفوا» توحي بعدم المعرفة المسبقة للأمر، وكأنَّ الأمر مفاجأة.



    لا يُسْتَبْعَد أن يكون إقحام اليهود في عملية الفتح متعمَّدًا، ويكون الهدف من ذلك هو التقليل من عملية الفتح الإسلامي العظيم، والنصر المؤزَّر الذي حَقَّقه طارق بن زياد على القوط على الرغم من قلَّة عدد المسلمين بالنسبة للجيش الأندلسي، الذي كان يفوقه أضعافًا.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty طارق بن زياد والعبور إلى الأندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 10:30


    طارق بن زياد والعبور إلى الأندلس

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    بعد عام من الحملة الاستطلاعية الناجحة التي قادها طريف بن مالك -رحمه الله، وبعد أن انتهى موسى بن نصير من وضع خطة الفتح، وفي شعبان من سنة 92هـ= يونيه 711م تحرَّك هذا الجيش المكون من سبعة آلاف فقط من جنود الإسلام، وعلى رأسه القائد طارق بن زياد



    يقول ابن الكردبوس: «وكان موسى بن نصير حين أنفذ طارقًا مُكِبًّا على الدعاء والبكاء والتضرُّع لله تعالى، والابتهال إليه في أن ينصر جيش المسلمين...».

    حملة طارق وسفن العبور

    كثيرًا ما يتردَّد في تاريخ الفتح الإسلامي للأندلس الحديث عن السفن التي استعملها الجيش الإسلامي في عبوره إلى الأندلس، وفي هذه السطور نُوَضِّح بعض الأمور المهمة عن حقيقة تلك السفن، ومدى نسبتها إلى يُليان حاكم سَبْتَة من خلال النقاط التالية



    - أتم المسلمون فتح بلاد شمال أفريقيا قبل فتح الأندلس بعقود طويلة، ومعلوم أن الشمال الإفريقي تطلُّ شواطئه على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وهذا يجعلهم يُفَكِّرُون في توفير السفن اللازمة لحمايتها من أي اعتداء بيزنطي؛ وهو متوقَّع لِمَا كان بين الدولة الإسلامية والبيزنطيين من عداء مستحكم؛ وهذا لا يجعلهم يتوجَّهُون إلى استعارة السفن، بل يجب أن تكون مملوكة لهم.



    - سبق للمسلمين نشاط بحري حربي في الشمال الإفريقي؛ ففي عام 46هـ وجَّه معاويةُ بن حُدَيْج عبدَ الله بنَ قيس لغزو صقلية، فكان أول مَنْ غزاها، وذلك في عهد معاوية بن أبي سفيان



    - كان اهتمام المسلمين واضحًا بصناعة السفن منذ وقت مبكِّر بعد فتح إفريقية، فأقاموا دارًا لصناعة السفن في تونس في عهد الحسان بن النعمان والي الشمال الإفريقي 76-86هـ.



    - فُتِحَتْ طَنْجَة في ولاية عقبة بن نافع سنة 63هـ، وهي ميناء صالح لصناعة السفن.



    - استعمل طريف بن مالك أربعة سفن للعبور بسريته الخمسمائة، وهذه السفن هي التي استعملها طارق بن زياد لعبور سبعة آلاف مسلم من المضيق إلى الأندلس، ولم يُذكر اسم يُليان في هذا السياق، بل وتُصَرِّح بعض الروايات بأن موسى بن نصير قد عمل من السفن عِدَّة؛ يقول المقري: «وكان موسى منذ وَجَّه طارقًا لوجهه قد أخذ في عمل السفن؛ حتى صار عنده منها عدة كثيرة، فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مددًا كملت بهم عدة مَنْ معه اثني عشر ألفًا؛ أقوياء على المغانم، حِرَاصًا على اللقاء، ومعهم يُليان المستأمن إليهم في رجاله وأهل عمله؛ يدلُّهم على العورات، ويتجسَّس لهم الأخبار. وتَذْكُر بعض الروايات أن السفن التي حملت الجيش الإسلامي إلى الأندلس هيَّأها له يُليان حاكم سَبْتَة، ويقول ابن عذاري في البيان المغرب: «فكان يُليان يحتمل أصحاب طارق في مراكب التجار التي تختلف إلى الأندلس، ولا يشعر أهل الأندلس بذلك، ويظنُّون أن المراكب تختلف بالتجار، فحمل الناسَ فوجًا بعد فوج إلى الأندلس»
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty معركة شذونة .. وادي لكة .. وادي برباط

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 10:47


    معركة شذونة .. وادي لكة .. وادي برباط

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    أُولَى الانتصارات في الأندلس

    لما وصلت أنباء تَقَدُّمِ طارق بن زيا إلى لُذريق -وكان في الشمال- لم يتهيَّب الموقف للمرَّة الأولى؛ لاعتقاده أن المسألة لا تعدو أن تكون غزوة من غزوات النهب، لن تلبث أن تتلاشى، ولكن حين وصلته أنباءُ تَقَدُّمِ المسلمين ناحية قُرْطُبَة، أسرع إلى طُلَيْطلَة وحشد حشوده، وأرسل قوَّة عسكرية بقيادة ابن أخته بنشيو -وكان أكبر رجاله- للتصدِّي لهم، ووقع القتال بالقرب من الجزيرة الخضراء، فكانوا عند كل لقاء يُهْزَمون، وقُتِلَ قائدهم بنشيو، وفرَّ مَنْ نَجَا من جنوده في اتجاه الشمال؛ ليُخبروا لُذريق بما جرى، وبفداحة الخطر القادم من الجنوب

    معركة وادي بَرْبَاط 92هـ=711م وفتح الأندلس

    وتسمى كذلك معركة شذونة ووادي لكة

    حين وصلت رسالة الفارِّين المنهزمين إلى لُذريق وقعت عليه وَقْعَ الصاعقة؛ فجُنَّ جنونُه، وفي غرورٍ وصلفٍ جمع جيشًا قِوَامه مائةُ ألف من الفرسان[، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب يقصد جيشَ المسلمين، وكان طارق بن زياد في سبعة آلاف فقط من المسلمين جُلُّهم من الرَّجَّالة، وعددٍ محدود جدًّا من الخيل، فلمَّا أبصر أمرَ لُذريق وجد صعوبة بالغة في المواجهة، سبعة آلاف أمام مائة ألف؛ فأرسل إلى موسى بن نصير يستنجده ويطلب منه المدد، فبعث إليه طريف بن مالك على رأس خمسة آلاف آخرين من الرجَّالة -أيضًا- تحملهم السفن



    وصل طريف بن مالك إلى طارق بن زياد وأصبح عدد الجيش الإسلامي اثني عشر ألف مقاتل، وبدأ طارق بن زياد يستعدُّ للمعركة؛ فكان أول ما صنع أن بحث عن أرض تصلح للقتال، حتى وجد منطقة تُسمَّى وادي بَرْبَاط، وتُسَمِّيها بعض المصادر أيضًا وادي لُكَّة[ وكلك معركة شذونة، وكان لاختيار طارق بن زياد لهذا المكان أبعاد إستراتيجية وعسكرية مهمة؛ فقد كان مِن خلفه وعن يمينه جبل شاهق، وبه حَمَى ظهرَهُ وميمنته؛ فلا يستطيع أحدٌ أن يلتفَّ حوله، وكان في ميسرته -أيضًا- بحيرة فهي ناحية آمنة تمامًا، ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي أي في ظهره فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك؛ حتى لا يُباغت أحدٌ ظهرَ المسلمين؛ ومن ثَمَّ يستطيع أن يستدرج قوات النصارى من الناحية الأمامية إلى هذه المنطقة، ولا يستطيع أحدٌ أن يلتفَّ من حوله.



    ومن بعيد جاء لُذريق في أبهى زينة؛ يلبس التاج الذهبي والثياب الموشَّاة بالذهب، وقد جلس على سرير محلًّى بالذهب يجرُّه بغلان[، فهو لم يستطع أن يتخلَّى عن دنياه؛ حتى وهو في لحظات الحرب والقتال، وقَدِمَ على رأس مائة ألف من الفرسان، وجاء معه بحبالٍ محمَّلةٍ على بغالٍ! ولا تتعجَّب كثيرًا؛ إذا علمت أنه أتى بهذه الحبال ليُقَيِّد بها أيدي المسلمين وأرجلهم بعد هزيمتهم المحقَّقة -في زعمه- ثم يأخذهم عبيدًا، وهكذا في صلف وغرور ظنَّ أنه حسم المعركة لصالحه؛ ففي منطقه وبقياسه أنَّ اثني عشر ألفًا يحتاجون إلى الشفقة والرحمة؛ وهم أمام مائة ألف من أصحاب الأرض.



    وفي 28 من شهر رمضان سنة 92هـ= 19 من يوليو سنة 711م بوادي بَرْبَاط دارت معركة هي من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين، وإن الناظر العادي إلى طرفي المعركة ليدخُلُ في قلبه الشفقة -حقًّا- على المسلمين؛ الذين لا يتعدَّى عددهم الاثني عشر ألفًا، وهم يُواجهون مائة ألف كاملة، فبمنطق العقل: كيف يُقاتِلُون؟ هذا فضلاً عن أن ينتصروا.

    بين الفريقين

    رغم المفارقة الواضحة بين الفريقين إلاَّ أنَّ الناظر المحلِّل يرى أن الشفقة كل الشفقة على المائة ألف، فالطرفان {خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]؛ وشتَّان بين الخصمين! شتان بين فريق خرج طائعًا مختارًا، راغبًا في الجهاد، وبين فريق خرج مُكرهًا مضطرًا مُجبرًا على القتال! شتان بين فريق خرج مستعدًا للاستشهاد، مسترخصًا الحياة من أجل عقيدته، متعاليًا على كل روابط الأرض ومنافع الدنيا، أسمى أمانيه الموتُ في سبيل الله، وبين فريق لا يعرف من هذه المعاني شيئًا، أسمى أمانيه العودة إلى الأهل والمال والولد! شتان بين فريق يقف فيه الجميع صفًّا واحدًا كصفوف الصلاة؛ الغنيُّ بجوار الفقير، والكبير بجوار الصغير، والحاكم بجوار المحكوم، وبين فريق يمتلك فيه الناس بعضهم بعضًا ويستعبد بعضهم بعضًا!



    فهذا فريق يقوده رجل رباني -طارق بن زياد- يجمع بين التقوى والكفاءة، وبين الرحمة والقوَّة، وبين العزَّة والتواضع، وذاك فريق يقوده متسلِّط مغرور، يعيش مترفًا مُنعَّمًا، بينما شعبه يعيش في بؤس وشقاء، وقد ألهب ظهره بالسياط! هذا جيش تُوَزَّع عليه أربعةُ أخماس الغنائم بعد الانتصار، وذاك جيش لا ينال شيئًا، وإنما يذهب كله إلى الحاكم المتسلط المغرور؛ وكأنما حارب وحده! هذا فريق ينصره ويُؤَيِّده الله ربُّه؛ خالق الكون ومالك الملك ، وذاك فريق يُحارب الله ربَّه ويتطاول على قانونه وعلى شرعه! وبإيجاز فهذا فريق الآخرة وذاك فريق الدنيا، فعلى مَنْ تكون الشفقة إذًا؟! على مَنْ تكون الشفقة وقد قال : {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]؟! على مَنْ تكون الشفقة وقد قال : {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]؟! فالمعركة إذًا باتت وكأنها محسومة قبلاً.

    وادي بَرْبَاط وشهر رمضان

    هكذا وفي شهر رمضان بدأت معركة وادي بَرْبَاط -أو وادي لكة أو معركة شذونة- غير المتكافئة ظاهريًّا، والمحسومة بالمنطق الرباني، بدأت في شهر الصيام والقرآن، الشهر الذي ارتبط اسمه بالمعارك والفتوحات والانتصارات، وعلى مدى ثمانية أيام متصلة دارت رحى الحرب، وبدأ القتال الضاري الشرس بين المسلمين والنصارى، أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين، والمسلمون صابرون صامدون؛ {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].



    وعلى هذه الحال ظلَّ الوضع طيلة ثمانية أيَّام متَّصلة انتهت بنصر مؤزَّر للمسلمين؛ بعد أن عَلِمَ اللهُ صبرهم وصِدْق إيمانهم، لقد سطر المسلمون بقيادة طارق بن زياد ملحمة من ملاحم الجهاد التي لم تشهدها بلاد المغرب والأندلس من قبلُ؛ ثمانية أيام تتلاطم فيها السيوف وتتساقط فيها أشلاء القتلى والشهداء، لقد قاتل الجيش القوطي قتالاً شديدًا يُعَبِّر عن شدَّة بأس وقوَّة شكيمة؛ ولكن هيهات أن تصمد تلك القوَّة أمام صلابة الإيمان وقوة العقيدة التي يتحلَّى بها الجيش المسلم؛ واثقًا بربه متيقِّنًا النصر! ويصف ابن عذاري جيش المسلمين وهم في هذا الجوِّ المتلاطم في المعركة فيقول: «فخرج إليهم طارق بجميع أصحابه رجَّالة، ليس فيهم راكب إلاَّ القليل؛ فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى ظنُّوا أنه الفناء». وفي نفح الطيب يقول المقري: «كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فاتَّصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال بعد تتمة ثمانية أيام، ثم هَزَمَ الله المشركين؛ فقُتِلَ منهم خلق عظيم، أقامت عظامهم -بعد ذلك بدهر طويل- ملبسة لتلك الأرض». وأمَّا لُذريق فقيل: إنه قُتِلَ. وفي رواية: إنه فرَّ إلى الشمال. لكنَّ ذِكْره اختفى إلى الأبد.



    والحقيقة التي أثبتتها هذه المعركة -وغيرها من المعارك الحاسمة في التاريخ الإسلامي- أن المسلمين لا ينتصرون إلاَّ بقوتهم الإيمانية؛ إن هذا الفتح يعود إلى قوَّة المسلمين بتمكُّن العقيدة وتغلغل معانيها في نفوسهم، إن تفوُّق المسلمين مستمدٌّ دومًا من إيمانهم بعقيدتهم؛ وليس من سوء أحوال الآخرين، كما أن الإسلام ينبع تفوُّقه وسبقه من ذاتيَّته القوية وعقيدته النقية وتشريعه المكين؛ لأنه من وحي الله تعال.



    نتائج معركة وادي برباط

    تمخَّضَت عن هذه المعركة عدَّة نتائج؛ كان أهمها:

    1- طوت الأندلس صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الرقيِّ والتحضُّرِ.

    2- غنم المسلمون غنائم عظيمة؛ كان أهمها الخيول، فأصبحوا خَيَّالة بعد أن كانوا رجَّالة.

    3- بدأ المسلمون المعركة وعددهم اثنا عشر ألفًا، وانتهت المعركة وعددهم تسعةُ آلاف؛ فكانت الحصيلة ثلاثة آلاف من الشهداء رَوَوْا بدمائهم الغالية أرض الأندلس، فأوصلوا هذا الدين إلى الناس، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty خطبة طارق بن زياد ومسألة حرق السفن

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 10:50


    خطبة طارق بن زياد ومسألة حرق السفن

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    خطبة طارق بن زياد

    أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان والمقري التلمساني في نفح الطيب أنه لما اقترب جيش لُذريق من الجيش الإسلامي، قام طارق بن زياد في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثَّ المسلمين على الجهاد ورغَّبَهم فيه، ثم قال: «أيها الناس؛ أين المفرُّ؟! والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله! إلاَّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضْيَعُ من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتُم عدوَّكم بجيشه وأسلحته، وأقواتُه موفورة، وأنتم لا وَزَرَ لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلاَّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تُنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوبُ من رعبها منكم الجراءةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقته إليكم مدينَتُه المحصَّنة، وإنَّ انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أُحَذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوَة، ولا حملتُكم على خُطَّة أرخصُ متاعٍ فيها النفوسُ إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً؛ استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فيما حَظُّكم فيه أوفر من حَظِّي، وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ من الحورِ الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدُّرِّ والمَرْجَان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيَان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عُرْبانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقةً منه بارتياحِكم للطِّعَان، واستماحِكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حَظُّه معكم ثوابَ الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصًا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذِكْرًا في الدارين. واعلموا أنِّي أول مجيب إلى ما دعوتُكم إليه، وأنِّي عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لُذَرِيق فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي، فإنْ هلكتُ بعده فقد كَفَيْتُكم أمره، ولن يُعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخْذلون».

    ولنا وقفات مع هذه الخطبة

    1- لم يتعرَّض المؤرخون لتاريخ الفتح الأندلسي -سواء من المتقدمين أو المتأخرين- إلى هذه الخطبة، وهذا يُشير إلى عدم شيوعها، وعدم معرفة المؤرِّخين لها؛ وهو أمر يُقَلِّل أو يمحو الثقة بواقعيتها.

    2- لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر القرن الأول الهجري، وغير متوقَّع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.

    3- ذكر في الخطبة: «وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانًا». والذي انتخبهم القائد موسى بن نصير والي إفريقية وليس الوليد.

    4- كان المتوقَّع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن وأحاديث الرسول الأمين ، أو وصايا وأحداثٍ ومعانٍ إسلامية تُناسب المقام كالمعهود.

    5- إن طارقًا -وأكثر الجيش- من الأمازيغ البربر؛ مما يجعل من المناسب أن يخاطبهم بلغتهم؛ إذ ليس من المتوقَّع أن تكون لغتهم العربية قد وصلت إلى مستوًى عالٍ

    .مسألة حرق السفن

    قبل الانتقال إلى ما بعد وادي بَرْبَاط، لا بدَّ لنا من وقفةٍ أخرى؛ أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفةٍ عامَّةٍ، والتاريخ الأوربي بصفةٍ خاصةٍ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي بَرْبَاط مباشرة.



    فما حقيقة ما يُقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها؟ وذلك حتى يُحَمِّس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدوُّ من أمامكم، فليس لكم نجاة إلاَّ في السيوف.



    في حقيقة الأمر هناك من المؤرخين مَنْ يُؤَكِّد صحَّة هذه الرواية، ومنهم مَنْ يُؤَكِّد بطلانها، ونحن مع مَنْ يرى أنها من الروايات الباطلة؛ وذلك للأسباب الآتية:

    أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي؛ فعِلْمُ الرجال وعِلْمُ الجرح والتعديل الذي تميَّز بهما المسلمون عن غيرهم يُحيلانا إلى أن الرواية الصحيحة لا بُدَّ من أن تكون عن طريق أناس موثوق بهم، وهذه الرواية لم تَرِدْ قطُّ في روايات المسلمين الموثوق بتأريخهم، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوربية التي كتبت عن معركة وادي بَرْبَاط.



    ثانيًا: أنه لو حدث وأحرق طارق هذه السفن بالفعل لتطلَّب ذلك ردَّ فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارًا عن هذه الواقعة، أو حوارًا بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو تعليقًا من علماء المسلمين عن جواز هذا الفعل من عدمه، وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي ردِّ فعل من هذا القبيل؛ مما يُعطي شكًّا كبيرًا في حدوث مثل هذا الإحراق.



    ثالثًا: أن المصادر الأوربية قد أشاعت هذا الأمر؛ لأن الأوربيين لم يستطيعوا أن يُفَسِّروا كيف انتصر اثنا عشر ألفًا من المسلمين الرجَّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وفي عقر دارهم، وفي أرض عرفوها وألِفوها؟! ففي بحثهم عن تفسيرٍ مقنعٍ لهذا الانتصار الغريب قالوا: إن طارق بن زياد قام بإحراق السفن لكي يضع المسلمين أمام أحد أمرين: الغرق في البحر من ورائهم، أو الهلاك المحدق من قِبَل النصارى من أمامهم، وكلا الأمرين موت محقَّقٌ؛ ومن ثَمَّ فالحلُّ الوحيد لهذه المعادلة الصعبة هو الاستماتة في القتال؛ للهروب من الموت المحيط بهم من كل جانب؛ فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار، ولو كانوا يملكون العودة لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم.



    وهكذا فسَّر الأوربيون النصارى السرَّ الأعظم -في زعمهم- في انتصار المسلمين في وادي بَرْبَاط، وهم معذورون في ذلك؛ إذ لم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجَّلة في كتاب الله U والتي تقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].



    فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلَّة على أعدائهم الكثيرين؛ بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد، واغترُّوا بتلك الزيادة أن تكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين، وهذا هو ما حدث يوم حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].



    ومن هنا فقد حاول الأوربيون -عن جهلٍ منهم وسوء طوية- أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحُجَّة الواهية؛ حتى يُثبِتُوا أن النصارى لم يُهزَمُوا في ظروفٍ متكافئةٍ، وأن المسلمين لم ينتصروا إلاَّ لظروف خاصة جدًّا.



    رابعًا: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل تلك الحماسة التي تُحرق فيها سفنُهم؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف -وهي كثيرة- والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد، طالبين الموت في سبيل الله؛ ومن ثَمَّ فلا حاجة لهم بقائد يُحَمِّسُهم بحرق سفنهم، وإنْ كان هذا يُعَدُّ جائزًا في حقِّ غيرهم.



    خامسًا: ليس من المعقول أن قائدًا محنَّكًا مثل طارق بن زياد -رحمه الله- يُقدِمُ على إحراق سفنه، وقطع خطِّ الرجعة على جيشه، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة، وهو أمر وارد وطبيعي جدًّا؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرَّة على المسلمين؛ خاصة وهم يعلمون قول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15- 16].



    فهناك إذًا احتمال أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة؛ وذلك إمَّا متحرِّفين لقتال جديد، وإمَّا تحيُّزًا إلى فئة المسلمين، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الإفريقي؛ فكيف إذًا يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرُّف والاستعداد إلى قتال جديد، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين؟! ومن هنا فإنَّ مسألة حرق السفن هذه تُعَدُّ تجاوزًا شرعيًّا كبيرًا، لا يُقدِم عليه مثل طارق بن زياد –رحمه الله، وما كان علماء المسلمين وحُكَّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث.



    سادسًا: وهو الأخير في الردِّ على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه؛ فبعضها -كما ذكرتْ بعضُ الروايات- أن يُليان صاحب سَبْتَة قد أعطاها له بأجرةٍ ليعبر عليها ثم يُعيدها إليه بعد ذلك؛ فيعبر بها يُليان إلى الأندلس -كما أوضحنا سابقًا- ومن ثَمَّ فلم يكن من حقِّ طارق بن زياد إحراق هذه السفن.

    لكل هذه الأمور نقول: إن قصة حرق السفن هذه قصة مخْتَلَقة، وما أُشيعت إلاَّ لتُهَوِّن من فتح الأندلس وانتصار المسلمين.

    طارق بن زياد يتوغل في بلاد الأندلس

    بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي بَرْبَاط، تدفَّق الناس من المغرب والشمال الإفريقي إلى جيش طارق فتضخَّم جيش طارق إلى حدٍّ يصعب تقديره[9]، فوجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر؛ وذلك لِمَا كان يراه من الأسباب الآتية:

    1- النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفًا على مائة ألف؛ وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين.

    2- ازدياد عدد الجيش المسلم بما انضمَّ إليه من المتطوعين في المغرب والشمال الإفريقي.

    3- ما أصاب القوط النصارى من فقدان الثقة، التي تجسَّدت في انعدام الروح المعنوية.

    4- وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قُتِل من القوط النصارى وتفرَّق منهم الكثير؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكانٍ.

    5- وجد طارق بن زياد أن انتهاء لُذَرِيق المستبدِّ -قُتِلَ أو فرَّ هاربًا- عن الناس والتأثير فيهم فرصة كبيرة لأن يُعلِّم الناسَ دين الله ؛ ومن ثَمَّ فهم أقرب إلى قبوله والدخول فيه.

    6- لم يضمن طارق بن زياد أن يظلَّ يُليان صاحب سَبْتَة على عهده معه مستقبلاً؛ ولذلك فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملاً الفتح.



    لهذه الأسباب أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتَّجه شمالاً؛ لفتح بقيَّة بلاد الأندلس، قاصدًا طُلَيْطلَة عاصمة القوط، التي كانت تُحضِّر لاختيار قائد جديد بعد اختفاء لُذريق، وفيها جرى التنافس بين أتباع لذريق وبين أتباع غِيطْشة.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty فتوحات طارق بن زياد في الأندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 10:53


    فتوحات طارق بن زياد في الأندلس

    انطلق طارق بن زياد بجيشه الرئيسي نحو طُلَيْطلَة، ووزع باقي الجيش -الذي كثر عدده- في سرايا إلى أنحاء الجزيرة المختلفة؛ توجَّه طارق بن زيد إلى مدينة إِسْتِجَة Ecija وهي -أيضًا- من مدن الجنوب، وكانت فلول القوط قد تجمَّعت بها واستعدَّت لمعركة أخرى مع المسلمين، ففتح في الطريق شَذُونَة ثم مورور، ثم في إِسْتِجَة قاتل المسلمون قتالاً عنيفًا، لكنه -بلا شَكٍّ- أقلُّ مما كان في وادي بَرْبَاط؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قوتهم في موقعة وادي بَرْبَاط، وقبل أن ينتصر المسلمون في أواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وصالحهم طارق على الجزية.

    وثمة فارق كبير جدًّا بين أن يُصالح النصارى على الجزية، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحًا؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحًا أي: بالقتال لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها، أمَّا إنْ صالح النصارى على الجزية؛ فإنهم يظلُّون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلاَّ الجزية، التي كانت تُقَدَّر آنذاك بدينارٍ واحد في العام.

    ومن إِسْتِجَة وبجيش لا يتعدَّى تسعة آلاف رجل بدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى[2]، وانطلق هو بقوَّة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال؛ حتى يصل إلى طُلَيْطلَة عاصمة الأندلس آنذاك، فقد بعث بسرية إلى قُرْطُبَة، وسرية إلى غَرْنَاطَة، وسرية إلى مَالَقَة، وسرية إلى مُرْسِيَة، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمطلَّة على مضيق جبل طارق، وكان عدد الرجال في هذه السرايا لا يزيد على سبعمائة رجل، ومع ذلك فقد فُتحت قُرْطُبَة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدَّى سبعمائة رجل؛ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، كذلك كانت الحملات الأخرى التي أرسلها إلى غَرْنَاطَة وإِلْبِيرة ومَالَقَة تفتح البلاد والمدن، وفتحت مُرْسِيَة وقاعدتها أوريولة صلحًا

    .
    طارق بن زياد على أعتاب طُلَيْطلَة

    وطُلَيْطِلَة مدينة قديمة من مدن إسبانيا تقع في وسط شبه جزيرة أيبريا على مسافة 91 كيلو مترًا جنوب غرب مدريد -العاصمة الإسبانية الحالية- ويُحيط بها نهر التاجو من جهات ثلاث في وادٍ عميق يسقي مساحات شاسعة من أراضيها.

    وكان موسى بن نصير -رحمه الله- الذي اتَّسم بالحكمة والأناة- قد أوصى طارق بن زياد ألاَّ يتجاوز مدينة جَيَّان أو لا يتجاوز مدينة قُرْطُبَة، وأمره ألاَّ يُسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طُلَيْطِلَة حتى لا يحوطه جيش النصار.

    لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق إلى طُلَيْطِلَة مفتوحٌ أمامه، وليس فيه صعوبات تُذْكَر؛ فاجتهد رأيه، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طُلَيْطِلَة العاصمة، التي تُعدُّ أحصن مدن النصارى على الإطلاق؛ فهي محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب، أمَّا الجهة الجنوبية -وهي الجهة المفتوحة- فقد كان عليها حصن كبير جدًّا، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يُصيب النصارى فيها الضعف الشديد، فلن يستطيعوا معه مقاومة جيش المسلمين ويتمكَّن من فتحها، وهذا ما قد يتعذَّر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها، وثبتت براعة طارق فقد فتحت المدينةُ أبوابها له، ودخلها دون قتال على قلَّة ما معه، وانعدام المدد من خلفه

    ثم لم يكتفِ طارق بفتح العاصمة، بل واصل الزحف شمالاً، فاخترق قشتالة وليون وطارد فلول القوط حتى أسترقة، فلجئوا إلى آخر الشمال الغربي عند جبال جيليقية الشامخة، وعبر طارق جبال أشتوريش استورياس حتى وصل إلى خليج غسقونية بسكونية على المحيط الأطلسي، فكانت هذه نهاية فتوحاته

    موسى بن نصير يأتي بالمدد

    تَقَدُّمُ طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس لم يَنَلْ قَبُولاً لدى موسى بن نصير؛ إذ وجد فيه تهوُّرًا كبيرًا لا يُؤْمَن عواقبه، وكان قد عُرِفَ عن موسى بن نصير الأناةُ والحكمةُ والصبرُ في كل فتوحاته في شمال إفريقيا حتى وصوله إلى المغرب؛ ومن ثَمَّ فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكفِّ عن الفتح، والانتظار حتى يصل إليه؛ وذلك خشية أن تلتفَّ حوله الجيوش النصرانية.

    وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعِدُّ العُدَّة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس، فجَهَّز من المسلمين ثمانية عشر ألفًا
    من أين جاءوا؟

    إن المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادًا، فقد كان جُلُّ الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من الأمازيغ البربر، أمَّا هؤلاء الثمانية عشر ألفًا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق، اجتازوا كل هذه المسافة البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرةً ومددًا لطارق بن زياد.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty طارق بن زياد وموسى بن نصير .. لقاء الأبطال

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 11:02


    طارق بن زياد وموسى بن نصير .. لقاء الأبطال

    فتوحات موسى بن نصير

    كان موسى بن نصير قائدًا محَنَّكًا، له نظرة واعية وبُعْدُ نظرٍ ثاقب، ولم يكن يومًا كما يَدَّعِي أناس أنه عطَّل طارق بن زيد عن الفتح؛ حسدًا أن يُنسَب إليه وحده فتحُ بلاد الأندلس؛ ومن ثَمَّ أراد أن يشترك في الأمر معه؛ ذلك أنَّ طارق بن زياد من عُمَّال موسى بن نصير، وواليه على الأندلس، وحسنات طارق بن زياد تُعَدُّ في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله؛ فقد دخل الإسلام على يديه، ولكن كانت رؤية موسى بن نصير تستند إلى الحفاظ على جيش المسلمين من الهلكة وهو بعيد عن أرضه لم تستقر خطوط إمداده؛ لا سيما والجيش قد اخترق أرض الأندلس نحو العاصمة، وظلَّت كثير من المدن في ظهره غير مفتوحة ولا آمنة



    ومن ثَمَّ فقد قَدِمَ موسى بن نصير وسلك بالجيش نحو المدن التي لم يفتحها طارق، فتوجَّه نحو إِشْبِيلِيَة وفي الطريق أعاد إخضاع شَذُونَة، وافتتح قَرْمُونَة –وهي يومئذٍ من أمنع معاقل الأندلس- ثم حاصر إِشْبِيلِيَة حصارًا شديدًا، طال مداه شهورًا حتى فَتَحت أبوابها أخيرًا، ثم تجاوزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي، وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد؛ وليس أخذ النصر أو الشرف منه.

    واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد، وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَارِدَة[3]، كل هذا وطارق بن زياد في طُلَيْطِلَة ينتظر قدومه، وكانت مَارِدَة من المناطق التي تجمَّع فيها كثير من القوط النصارى، فحاصرها موسى بن نصير حصارًا بلغ مداه -أيضًا- شهورًا، كان آخرها شهر رمضان، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية، وهكذا كانت تمرُّ الأعياد على المسلمين في جهاد لنشر دين الله في ربوع العالمين[4].

    عبد العزيز بن موسى بن نصير
    فاتح البرتغال

    لم يكتفِ موسى بن نصير بذلك، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بنِ نصير -رحمهم الله جميعًا- الذي تربَّى كأبيه وجدِّه على الجهاد؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب، وقد توغَّل عبد العزيز في الغرب كثيرًا؛ حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس، التي تسمى حاليًا دولة البرتغال، فقد وصل إلى لَشْبُونَة وفتحها ثم فتح البلاد الواقعة في شمالها، وبهذا يُعَدُّ عبد العزيز بن موسى بنِ نصير فاتح البرتغال.

    موسى بن نصير وطارق بن زياد.. لقاء الأبطال واستكمال الفتح

    تذكر بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنَّفه ووبَّخه، بل تذكر -أيضًا- أنه قيَّده وضربه بالسوط، وبعضها يقول: إنه حبسه وهمَّ بقتله[5]. إلاَّ أننا نقطع بأن هذا لم يحدث، وإنما الذي حدث أن موسى بن نصير قد عنَّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قُرْطُبَة أو جَيَّان واستمراره حتى طُلَيْطِلَة -كما ذكرنا- وقد كان تعنيفًا سريعًا؛ ولا نشكُّ في أنه كان لقاءً حارًّا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين، منذ رمضان سنة 92هـ= يوليو 711م وحتى ذي القعدة سنة 94هـ= أغسطس 713م، فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصلت إلى طُلَيْطِلَة عامًا كاملاً، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارقًا في المكان نفسه عامًا كاملاً.

    ومما يدلُّ على تلك العلاقة السامية بين هذين القائدين العظيمين ما جاء في نفح الطيب من أن موسى بن نصير لما سمع بانتصار طارق عبر الجزيرة بمَنْ معه ولحق به، فقال له: يا طارق؛ إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئًا مريئًا. فقال له طارق: أيها الأمير؛ والله! لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنتهِ إلى البحر المحيط، أخوض فيه بفرسي -يعني البحر الشمالي أي: المحيط الأطلنطي- من ناحية شمال شبه جزيرة الأندلس [6].

    فكأن موسى بن نصير تنازل عن الأندلس لطارق من قبل أن يأتيه أمر الوليد بهذا؛ لِمَا أُعجب به من عمل طارق وجهاده، بل وتنازل عنها إعجابًا وبطيب نفس «هنيئًا مريئًا»، ثم إن طارقًا لم يكن ممن يهمه الولاية والإمارة، بل شغله حُبُّ الجهاد، وما رضي عنه بغيره، ولو كان المنصب على الجزيرة الغنية.

    وبعد اللقاء اتَّحَدَا معًا واتجها إلى فتح منطقة الشمال؛ لاستكمال عمليات الفتح، ففتحا مناطق عِدَّة؛ كان منها -على سبيل المثال- منطقة بَرْشُلُونَة ففتحاها[7]، ثم اتجها إلى مدينة سَرَقُسْطَة؛ وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها[8]، وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعملٍ يُحْسَد عليه؛ فقد أرسل سريَّة خلف جبال البِرِينيه، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، عبرت هذه السرية جبال البرينيه، ثم وصلت إلى مدينة تُسمَّى أرْبُونَة، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواةً لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان، كما سيأتي بيانه بمشيئة الله.

    وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره، وقد ظلَّ المسلمون يفتحون مدن الأندلس؛ المدينة تلو الأخرى حتى تمَّ الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس، إلاَّ منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بلاي، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي[9].

    ففي زمن قُدِّر بثلاث سنوات ونصفٍ -ابتدأ من سنة 92هـ=711م وانتهى في آخر سنة 95هـ= 714م- كان قد تمَّ للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس عدا صخرة بلاي هذه، وحين عزم موسى بن نصير على أن يُتِمَّ فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته، أتاه ما لم يكن يتوقَّعه.

    لو لم تكن البراهين ثابتة على تمام الفتح في هذه المدة القصيرة لما صدَّقه أحد؛ لأن شبه الجزيرة الأندلسية قطر عسير فسيح لا يسهل على أحد فتحه أو إخضاعه... والحق أن فتح المسلمين للأندلس معجزة في حدِّ ذاته؛ إذ لا يُصَدِّق المرء وهو يتتبَّع أخبار هذا الفتح أن الذين كانوا يقومون به -بهذا النظام، وبهذا النظر البعيد- إنما كانوا بربرًا لم يسبق لهم عهد بالنظام ولا الجيوش ولا المعاهدات، الحق أن الإسلام قد خطا بمعتنقيه خلال القرن الأول بضعة قرون إلى الأمام، وهذا تاريخ الرومان في إفريقية: لم يوفقوا إلى تحضيرها على نحو يُقارب ما فعله الإسلام -ولو من بعيد- في بضعة قرون، فما بالك وقد فعل الإسلام ذلك في نحو نصف قرن؟!

    ولو ذكرنا أن موسى أكمل عمل طارق، وأن عبد العزيز أكمل عمل الاثنين لاستبان أن العرب ساروا في فتح هذه البلاد على خطَّة محكمة لم يكن من الميسور وضع أحسن منها: فقد قُضِيَ على المقاومة واحتلت العاصمة في أول وثبة، ثم اتجهت الهمة إلى إخضاع كبريات مدن الغرب، ثم فتح المسلمون إقليم سَرَقُسْطَة وتتبَّعوا فلول المقاومة في معاقلها في الشمال والشمال الغربي، ثم فتحوا أقصى الغرب، وخُتم العمل بفتح الجنوب الشرقي. ولو أن مجلسًا للحرب من كبار العسكريين اجتمع ليضع خطة لفتح البلاد لما وُفِّق إلى خير من ذلك، وتلك ناحية ينبغي ألاَّ تغيب عن ذهن أحدنا وهو يدرس هذا الفتح؛ لأنها في الواقع تدلُّ على نبوغ حربي عند هؤلاء المسلمين الأولين[10].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty رسالة الوليد بن عبد الملك

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 11:05


    رسالة الوليد بن عبد الملك

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    من أقصى بلاد المسلمين.. من دمشق.. من أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك تصل رسالة إلى موسى بن نصير وطارق بن زياد بأن يعودا أدراجهما إلى دمشق، ولا يستكملا الفتح، حزن موسى بن نصير وأَسِفَ أشدَّ الأسف، لكن لم يكن بُدٌّ من الاستجابة والعودة كما أُمر.



    ولنا أن نندهش مع موسى بن نصير لماذا هذا الأمر الغريب؟! ولماذا الاستدعاء في هذا التوقيت خاصة؟! إلاَّ أن هذه الدهشة سرعان ما تتبخَّر حين نعلم سبب ذلك عند الوليد بن عبد الملك، وكان كما يلي:

    1- كان الوليد بن عبد الملك يشغله همُّ توغُّل المسلمين بعيدًا عن ديارهم؛ فهو المسئول عن المسلمين الذين انتشروا في كل هذه المناطق الواسعة، وقد رأى أن المسلمين توغَّلوا كثيرًا في بلاد الأندلس في وقت قليل، وخشي –رحمه الله- أن يلتفَّ النصارى من جديد حول المسلمين؛ فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في هذه البلاد، فهي قليلة وبعيدة عن مصدر إمدادها، فأراد ألاَّ يتوغَّل المسلمون أكثر من هذا.



    2- كان من الممكن للوليد بن عبد الملك أن يُوقف الفتوح دون عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد، لكن كان هناك أمر آخر عجيب قد سمعه الوليد بن عبد الملك؛ جعله يُصِرُّ على عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق؛ ذلك أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير يُريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوربا حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب.



    كانت القسطنطينية قد استعصت على المسلمين من الشرق، وكثيرًا ما ذهبت جيوش الدولة الأموية إليها ولم تُوفَّق في فتحها، وهنا فكَّر موسى بن نصير أن يخوض كل بلاد أوربا؛ فيفتح إيطاليا ثم يوغوسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم منطقة تركيا الحالية، حتى يصل إلى القسطنطينية من جهة الغرب؛ أي أنه سيتوغَّل بالجيش الإسلامي في عمق أوربا منقطعًا عن كل مدد، فأفزع هذا الأمر الوليد بن عبد الملك، وخشي على جيش المسلمين من الهَلَكَة؛ فعجَّل بأمر عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد.

    هِمَّة عالية

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    هنا لا بُدَّ لنا أن نقف وقفة عند هذه الهمَّة العالية التي كانت عند موسى بن نصير؛ خاصة إذا علمنا أنه عندما كان يُفَكِّر هذا التفكير كان يبلغ من العمر خمسًا وسبعين سنة؛ فلله دَرُّه! شيخ كبير ومع ذلك يجاهد في سبيل الله، ويركب الخيول، ويفتح المدينة تلو المدينة، يحاصر إِشْبِيلِيَة شهورًا ويحاصر مَارِدَة شهورًا، ثم يفتح بَرْشُلُونَة وسَرَقُسْطَة والشمال الشرقي، ثمَّ يتَّجه إلى الشمال الغربي ويتجه إلى الصخرة يُريد أن يفتحها، ثم هو يُريد أن ينطلق إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها حتى يصل إلى القسطنطينية!



    أيُّ همَّة هذه التي امتلكها هذا الشيخ الكبير؟! التي تجعله يفعل كل هذا ويُؤَمِّل لهذا التفكير وعمره خمسٌ وسبعون سنة! إنه ليضرب المثل لرجالات المسلمين اليوم وشيوخهم الذين بلغوا مثل عمره أو أقل منه، وظنُّوا أنهم قد «خرجوا على المعاش» وانتهت رسالتهم بخروجهم هذا؛ فهي رسالة واضحة لهم بأن رسالتهم في الحياة لم تنتهِ بعدُ، فمَنْ لتعليم الأجيال؟! ومَن لتوريث الخبرات؟! ومَن لتصحيح المفاهيم؟!



    فقد بدأ موسى بن نصير فتح الشمال الإفريقي وقد تجاوز الستين من عمره؛ أي تجاوز سنَّ المعاش في زمننا هذا، ثم ها هو ذا في سنِّ الخامسة والسبعين يحزن حزنًا شديدًا، ولكن على أي شيءٍ كان حزنه؟! حزن أولاً على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه ساحة الجهاد، وقد كان محبًّا له؛ علَّه ينال الشهادة التي لم تُصِبْهُ، ثم حزن ثانيًا حزنًا شديدًا؛ لأن الصخرة لم تُفتَح بعدُ، ثم حزن ثالثًا -وكان حزنه أشدَّ- لأنه لم يستكمل حُلْمَ فتح القسطنطينية من قِبَل الغرب كما كان يتمنى.



    وفي هذا يذكر المَقَّرِيُّ صاحب نفح الطيب أن موسى بن نصير ترك الأندلس «وهو مع ذلك متلهِّف على الجهاد الذي فاته، أَسِيفٌ على ما لحقه من الإزعاج، وكان يُؤَمِّل أن يخترق ما بقي عليه من بلد إفرنجة فرنسا، ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملاً أن يتَّخذ مختَرَقُه بتلك الأرض طريقًا مَهْيَعًا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم -من المشرق وإليه- على البرِّ لا يركبون بحرًا».

    عودة وأُمنية

    لم يجد موسى بن نصير إلاَّ أن يسمع ويُطيع لأمر الوليد بن عبد الملك، فأخذ طارقَ بن زياد وعاد أدراجه إلى دمشق، وعندما وصل وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت، ثم لم يلبث أن مات وتولَّى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن عبد الملك، وكان على رأي أخيه في استبقاء موسى بن نصير في دمشق؛ خوفًا من هلكة جيش المسلمين في توغُّله داخل بلاد أوربا نحو القسطنطينية.



    وبعد عام من قدوم موسى بن نصير سنة 97هـ=716م كان سليمان بن عبد الملك ذاهبًا إلى الحجِّ، وهذا ما وافق اشتياقًا كبيرًا من قِبَل موسى بن نصير؛ فقد عاش في أرض الجهاد في شمال إفريقيا وبلاد الأندلس أكثر من عشر سنين لم يَعُدْ فيها مرَّة واحدة، فما كان منه إلاَّ أن رافق سليمان بن عبد الملك في طريقه إلى الحجِّ في ذلك العام

    وفاة موسى بن نصير

    وفي طريقه إلى هناك قال موسى بن نصير: اللهم إن كنت تُريد لي الحياة فأعدني إلى أرض الجهاد، وأَمِتْني على الشهادة، وإن كنت تُريد لي غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله . ووصل –رحمه الله- إلى الحجِّ، وبعد حجِّه وفي طريق عودته مات في مدينة رسول الله ، ثم دُفِنَ مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين



    وهكذا كانت همم الصالحين وقلوب المَوْصُولين برب العالمين، فقد بلغ من الكبر عِتِيًّا؛ إلاَّ أنه قَدَّم أكثر مما عاش، ظلَّ قلبه معلَّقًا بحُبِّ ربه حتى دعاه، فكانت الخاتمة وكانت الإجابة، عاش بين الأسنَّة في أقصى بلاد الأندلس، إلاَّ أنه مات بعد الحجِّ في مدينة رسول الله ، فلله دَرُّه من قائد وقدوة!



    لقد مات القائد المسلم موسى بن نُصير بعد أن ملأ جهادُه -بقيادة المدِّ الإسلامي المبارك- وِدْيانَ المغرِب الإسلامي الشمال الإفريقي والأندلس وجباله وسهوله وهضابه، ووَجَّه دعاةَ الحق لإسماع ساكنيه نداءَ الخير؛ فيُخرجهم من الظلمات إلى النور المبين... كان موسى بن نصير يقود هذا الجهاد في شبه الجزيرة الأندلسية وهو يبلغ من العمر خمسًا وسبعين سنة، ممتطيًا جواده؛ يهبط في وديانها ويرتفع على صخراتها، يتحرَّك فيه إيمانٌ بالله العلي الكبير، فتسمو نفسه وتتجدَّد طاقته وتحدوه لإعلاء كلمة الله ورفع رايته في كل مكان، فيندفع قويَّ الجنَان رغم ما علا رأسه من الشَّيْب الوقور، يقوده إصرار العقيدة السمحة، وهِمَّة الإيمان الفتيِّ، وتُفَتِّق طاقاتِه كلمةُ الله، وتُقيم قوتها إيمانًا يعلو على أي اعتبار

    مصير طارق بن زياد

    أمَّا رفيق الدرب طارق بن زياد فقد انقطعت أخباره كُلِّيَّةً بعد رحيله إلى دمشق مع موسى بن نصير، ولا أحدٌ يدري هل عاد مرَّة أخرى إلى الأندلس أم بَقِيَ في دمشق؟!



    مهما بلغ المؤرخ في الثناء على طارق فإنه لا يستطيع وفاء حقِّه، ولو فكَّر أحدنا في الأمر لحظة لاستخرج من حياة طارق وأعماله سرًّا من أسرار قوَّة الإسلام، وناحية من نواحي امتيازه؛ فطارق هذا رجل مغربي بربري لم يكن ليصبح -بغير الإسلام- إلاَّ قائدًا خاملاً لجماعة من البربر منسيين في ركن من أركان الأطلسي، فجاء الإسلام فجعل منه قائدًا فاتحًا، وسياسيًّا محنَّكًا يقود الجيوش ويفتح الأمصار، ويُوَقِّع المعاهدات في قدرة وكياسة جديرتين بالإعجاب، فلو لم يكن للإسلام من أثر إلاَّ تكوين أمثال هذا الرجل واستنهاض قومه للعمل الجليل لكفاه، فكيف وقد بثَّ الإسلام هذه الروح في كل مكان أظلَّته رايته، وكيف وقد فعل هذا في أقصر وقت وحققه على أتم وجه؟!

    الصخرة.. والدرس الصعب

    رحل موسى بن نصير وطارق بن زياد من الأندلس إلى دمشق بعدما وصلا بفتوحاتهما إلى غرب فرنسا، إلاَّ أنه كانت هناك منطقة صغيرة جدًّا في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تُفتَح بعدُ، ولم يخطر على بال أحد من المسلمين أنه سيأتي يومٌ وتكون تلك المنطقة هي نواة الممالك النصرانية التي ستنشأ فيما بعدُ، وستكون صاحبة اليد الطُّولَى في سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون.



    تلك هي منطقة الصخرة التي لم يستكمل المسلمون فتحها، وكانت فيها طائفة كبيرة من النصارى، وأغلب الظنِّ أنه لو بقي موسى بن نصير أو طارق بن زياد ما تركوها، إلاَّ أننا نستطيع أن نقول: إن التهاون في أمر بسيط جدًّا قد يُؤَدِّي إلى ويلات عظيمة على مَرِّ الزمن، فلا بُدَّ أن يأخذ المسلمون كلَّ أمورهم بالعزم والحزم وعدم الطمأنينة، إلاَّ بعد استكمال النهايات على أتَمِّها.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty عصر الولاة في الأندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 11:13


    عصر الولاة في الأندلس

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    عصر الولاة

    بعد انتهاء عهد الفتح يبدأ عهد جديد في تاريخ قصة الأندلس يُسمَّى عصر الولاة، الذي يبدأ من عام 95هـ=714م ويستمرُّ مدَّة اثنين وأربعين عامًا حيث ينتهي عام 138هـ=755م ، وعهد الولاة يعني أنَّ حُكم الأندلس في هذه الفترة كان يتولاَّه رجل يتبع الحاكم العام للمسلمين، وهو الخليفة الأموي الموجود في دمشق في ذلك الوقت.

    وإذا نظرنا إلى عصر الولاة نرى أنه قد تعاقب فيه على حكم الأندلس اثنان وعشرون واليًا، أو عشرون واليًا تولَّى اثنان منهم مرتين؛ فيُصبح مجموع فترات حكم الأندلس اثنتين وعشرين فترة خلال اثنين وأربعين عامًا؛ أي أن كل والٍ حكم سنتين أو ثلاث سنوات فقط.



    ولا شكَّ أن هذا التغيير المتتالي للحكام قد أثَّر تأثيرًا سلبيًّا على بلاد الأندلس، إلاَّ أن هذا التغيير في الواقع كان له ما يُبَرِّرُه؛ حيث كان هناك في بادئ الأمر كثيرٌ من الوُلاة الذين يُستَشْهَدون أثناء جهادهم في بلاد فرنسا، ثم جاءت مرحلة كان فيها كثيرٌ من الوُلاة يُغَيَّرون عن طريق المكائد والانقلابات والمؤامرات.. وما إلى ذلك.



    ومِنْ هنا نستطيع أن نُقَسِّم عهد الولاة بحسب طريقة الإدارة وطريقة الحكم إلى فترتين رئيستين مختلفتين تمامًا؛ حيث كانت الفترة الأولى فترة جهاد وفتوح وعظمة للإسلام والمسلمين، وتمتدُّ من بداية عهد الولاة من عام 95هـ=714م وحتى عام 123هـ=741م؛ أي: سبعة وعشرين عامًا.



    وكانت الفترة الثانية فترة ضعف ومؤامرات ومكائد وما إلى ذلك، واستمرَّت من سنة 123هـ=741م وحتى سنة 138هـ=755م؛ أي مدَّة خمس عشرة سنة، وفي تناولنا لفترتي عهد الولاة هاتين لن ندخل في ذكر تفاصيل كُلٍّ منهما، وإنما سنقتصر على بعض الولاة فقط؛ لما لهم من الأهمية في دراستنا هذه

    عهد القوة

    بصفة عامَّة تميَّزت الفترة الأولى من عهد الولاة بعِدَّة أمور؛ كان من أهمها:

    نشر الإسلام في بلاد الأندلس

    بعد أن تمكَّن المسلمون من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد بدءوا يُعَلِّمون الناس الإسلام، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفِطَر السوية من الناس عندما عرفوه، فاختاروه بلا تردُّد؛ فلقد وجد الإسبان في الإسلام دينًا متكاملاً شاملاً يُنَظِّم كل أمور الحياة، وجدوا فيه عقيدة واضحة وعبادات منتظمة، وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات، وجدوا فيه تواضع القادة الفاتحين، وجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء، ووجدوا فيه كيفية التعامل مع العدوِّ والأسير، ومع كل الناس.



    لقد تعوَّد الإسبان في حياتهم -قبل ذلك- فصلاً كاملاً بين الدين والدولة؛ فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرَّد مفاهيم لاهوتية غير مفهومة، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها، وفي التشريعات والحكم يُشَرِّع لهم مَنْ يحكمهم وَفق هواه، وحسبما يُحَقِّق مصالحه الشخصية، أمَّا في الإسلام فقد وجدوا أن الأمر يختلف عن ذلك تمامًا؛ فلم يستطيعوا أن يتخلَّفوا عن الارتباط به والانتساب إليه؛ فدخلوا فيه أفواجًا.



    وفي مدَّةٍ قليلة أصبح عموم أهل الأندلس السكان الأصليين يدينون بالإسلام، وأصبح المسلمون من العرب والأمازيغ البربر قلَّةً بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين، وهم الذين اتَّجَهُوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.

    نشأة جيل المولَّدين

    كان من جرَّاء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين، وانتشار الإسلام بصورة سريعة أن نشأ جيل جديد عُرِفَ باسم جيل المولَّدين، وهم أبناء الذين أسلموا من أهل الأندلس الأصليين، فقد كان الأب عربيًّا أو أمازيغيًّا بربريًّا والأم أندلسية.

    إلغاء الطبقية ونشر الحرية العقائدية

    ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس جميعًا؛ حتى كان الحاكم والمحكوم يقفان سويًّا أمام القضاء للتحاكم في المظالم، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحريَّة العقائدية للناس؛ فتركوا للنصارى كنائسهم، وما هدموها قطُّ، وما كانوا يُحَوِّلونها إلى مساجد إلاَّ إذا وافق النصارى على بيعها لهم، وكان بيع الكنائس للمسلمين يُقَدَّر بأثمانٍ باهظة، أمَّا إن رفضوا بيعها تركها المسلمون لهم.



    وهذه المواقف العظيمة إنما كانت تحدث والنصارى محكومون من قِبَل المسلمين، وعلينا أن نَعِيَ هذا الأمر جيدًا، ونقارن صنيع المسلمين هذا بما فعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس، فيما عُرِفَ باسم محاكم التفتيش الإسبانية.

    الاهتمام بالحضارة المادية

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    اهتمَّ المسلمون في هذه الفترة بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية؛ فأسَّسوا الإدارة، وأقاموا العمران، وأنشئوا القناطر والكباري؛ ومما يدلُّ على براعتهم في هذا الأمر تلك القنطرة العجيبة التي تُسَمَّى قنطرة قُرْطُبَة، وكانت من أعجب القناطر الموجودة في أوربا في ذلك الزمن، كذلك أنشأ المسلمون دورًا للأسلحة وصناعة السفن، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة.



    تقليدُ الإسبانِ للمسلمين في كل شيء

    كان من السمات المميِّزة -أيضًا- في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الإسبان بدءوا يُقَلِّدُون المسلمين في كل شيء؛ حتى أصبحوا يتعلَّمُون اللغة العربية التي يتكلَّمها الفاتحون، بل كان الإسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم.

    اتخاذ المسلمين قُرْطُبَة عاصمة لهم

    كذلك كان من بين السمات المميزة لهذه الفترة -أيضًا- أن اتخذ المسلمون قُرْطُبَة عاصمةً لهم؛ وقد كانت طُلَيْطِلَة في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس، ولكن وجد المسلمون أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة، وهما من مصادر الخطر عليهم؛ فرأوا أن طُلَيْطِلَة بذلك مدينة غير آمنة؛ ومن ثَمَّ فلا يمكن أن تكون هي العاصمة؛ لذلك اختاروا مدينة قُرْطُبَة، التي تقع في اتجاه الجنوب؛ لانتفاء الأسباب السابقة، وحتى تكون -أيضًا- قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب.



    الجهاد في فرنسا

    كان الجهاد في فرنسا من أهم السمات المميزة لهذه الفترة من عهد الولاة، فاتخذت خطوات كبيرة في هذه الفترة، وسنذكر بعض الولاة الذين كان لهم سَبْقٌ وحضور في عملية الجهاد في بلاد فرنسا.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty عبد الرحمن الغافقي

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 11:15


    عبد الرحمن الغافقي

    بعد استشهاد عَنْبَسَة بن سُحَيْم -رحمه الله- بدأت الأمور في التغيُّر؛ فقد تولَّى حكم الأندلس مِن بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين، فعلى مدى خمس سنوات فقط (107-112هـ=725-730م) تولَّى إمارة الأندلس ستة ولاة، كان آخرهم رجل يُدعى الهيثم بن عبيد الكلابي –أو الكناني حسب بعض الروايات- وكان عربيًّا متعصبًا لقومه وقبيلته.

    ومن هنا بدأت الخلافات تدبُّ بين المسلمين: المسلمون العرب من جهة والمسلمون الأمازيغ (البربر) من جهة أخرى، وكانت خلافات بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح الله على المسلمين هذه المناطق وحتى هذه اللحظة، ولم تمرّ خلافات العصبيات هذه مرور الكرام، وإنما دارت معاركُ ومشاحناتٌ بين المسلمين العرب والمسلمين الأمازيغ (البربر)، حتى مَنَّ الله على المسلمين بمَنْ قضى عليها ووحَّد الصفوف من جديد، وبدأ يبثُّ في الناس رُوح الإسلام الأولى، التي جمعت بين الأمازيغ (البربر) وبين العرب، والتي لم تُفَرِّق بين عربي وأعجمي إلاَّ بالتقوى، ذلك هو عبد الرحمن الغَافِقِيُّ -رحمه الله.

    عبد الرحمن الغافقي

    مَنْ يكون عبد الرحمن الغافقي؟

    هو عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغَافِقِيّ العَكِّيّ (ت 114هـ=732م)، ينتسب إلى قبيلة (غافق) وهي فرع من قبيلة (عك) باليمن، ويُكنى أبا سعيد, وكان من كبار القادة الغزاة الشجعان، وهو أحد التابعين –رحمه الله

    ربما يكون وُلِدَ في اليمن ورحل إلى إفريقية، وَفَدَ على سليمان بن عبد الملك الأموي في دمشق، وعاد إلى المغرب، فاتصل بموسى بن نصي وولده عبد العزيز، أيام إقامتهما في الأندلس، ووليَ قيادة الشاطئ الشرقي من الأندلس.

    فكره العسكري

    تميَّز القائد عبد الرحمن الغافقي من الناحية العسكرية بالحسم، وهو مبدأ في غاية الأهمية، ويحتاج إليه القائد؛ حتى لا تتشتَّت الأمور ويبعد الهدف في ظلِّ التراخي عن اتخاذ القرار وتأخير ذلك عن وقته.



    كما تميَّز أسلوبه العسكري النابع من فكره الصائب بالتوازن، بين ما يملك من قوى وما يُريد من أهداف، إضافة إلى اعتماد مبدأ الإعداد قبل التلاقي؛ أي: إعداد الجنود والشعب كله قبل المعركة إعدادًا قويًّا من كافَّة النواحي، والتأكُّد من توافر كل أنواع القوة؛ بداية من قوة الإيمان بالله، مرورًا بقوَّة التماسك والأخوة بين أفراد الجيش جميعًا، بل وأفراد الشعب، وانتهاءً بقوة الساعد والسلاح، وهي القوة المادية، وعدم الاستهانة أو التقليل من شأن أي نوع من أنواع هذه القوى؛ فإن أي قصور في أي نوع منها كفيلٌ بجلب الهزيمة على الجيش كله.

    خلُقه

    وكان t، من أحسن الناس خُلُقًا، وكانت إنسانيته هذه تنبع من تربيته الإسلامية الصحيحة على يد الصحابة –رضي الله عنهم؛ فلا عجب إذا رأينا منه حُسْنَ السيرة في أخلاقه مع رعيته، ولا عجب إذا رأينا العدل والورع والصبر على الرعية، وإسداء المعروف للناس دون انتظار أي مقابل؛ فهو ليس بحاجة إلى أحد من الناس؛ فهو أمير وقائد، ويمتلك مقومات كثيرة غير أنه ينتظر الأجر من الله .



    قال عنه الذهبي –رحمه الله: عبد الرحمن بن عبد الله الغَافِقِيّ أمير الأندلس وعاملها لهشام بن عبد الملك. روى عن ابن عمر، وعنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وعبد الله بن عياض، وذكره ابن بشكوال فيمن دخل الأندلس من التابعين.



    وذكر الحميدي أنه روى الحديث عن ابن عمر، وروى عنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وكان صالحًا جميل السيرة في ولايته، كثير الغزو للروم، عَدْلَ القسمة في الغنائم

    يتبع
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty معركة بلاط الشهداء

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 15:42


    معركة بلاط الشهداء

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    لموقعة بلاط الشهداء ظرف خاص لسنا نجده في الكثير من المواقع؛ ذلك أن المصادر الإسلامية تصمت تمامًا عن ذكر تفاصيل هذه المعركة، وهذا في حقيقة الأمر من العجائب التي لا نعرف لها تفسيرًا بعدُ، فإمَّا أن ما كُتب عن المعركة ما زال مفقودًا في بطون المخطوطات غير المنشورة، ينتظر لحظة النور وهنا تنسجم الأمور؛ فالمسلمون لم يتوقَّفُوا في التأريخ لهزيمة مهما كانت قاسية لا في الأندلس ولا في غير الأندلس، لا في القديم ولا في الحديث منذ غزوة أُحُد وحُنَين، وحتى سقوط غَرْنَاطة، أو الهزائم الكبرى التي قبلها كالعِقَاب مثلاً.

    فإن لم يكن ما كُتب عن المعركة مفقودًا، وكان المسلمون قد توقَّفُوا في الحديث عنه لسبب ما، فإننا لا نجد في هذه اللحظة إلاَّ أن نسير مع المؤرخ المحقق الدكتور حسين مؤنس الذي أدهشه قلة التفاصيل، واجتهد في معرفة السبب فلم يجد إلاَّ أن قال: «الواقع أن المسألة لا تُعَلَّل إلاَّ بشيء واحد: هو أن هزيمة المسلمين كانت من الشدَّة بحيث كان أوائل الرواة ينفرون حتى من مجرَّد ذكرها من فرط الألم والتشاؤم، فاندرجت في مدارج النسيان، وتعاقبت عليها الأعصر فلم يبقَ في ذاكرة الرواة منها شيء إلاَّ أن أهل الإسلام قد هزموا في هذه الناحية هزيمة مروعة بين سنتي 114 و115 هـ

    وحين خلت تفاصيل المعركة من الرواية الإسلامية لم يبقَ في المتاح إلاَّ الرواية الأوربية المسيحية عنها، وهي روايات حافلة بكثير من التفاصيل، وبكثير من الأساطير كذلك.. ولقد تشبعت الروايات الأوربية بالمبالغات في وصف المعركة ووصف النصر العظيم للفرنجة، والهزيمة الساحقة الماحقة للمسلمين، مبالغة مَنْ رأى فيها إنقاذ المسيحية من الفناء على يد الإسلام الزاحف بسرعة مدهشة، والذي لم يقف أمامه حتى الآن شيء، فإذ به ينتقل من الشرق إلى الغرب، ومن جنوب المتوسط إلى شماله، ويكاد يجعل بحر المتوسط بحيرة تامَّة لمملكته الناهضة.

    إذًا فكلُّ ما نعرفه عن تفاصيل بلاط الشهداء مأخوذ من الرواية الأوربية لا غير، وخلاصة ما تُقَدِّمه الرواية الغربية نميل إلى تصديقه بعد استخلاصه من المبالغات، وإن كان لا يسلم من مؤاخذات واعتراضات كذلك، وسنعرض لها بعد توقُّفنا أمام المعركة.

    الكثرة والغنيمة من عوامل الهزيمة

    رغم ضخامة حملة عبد الرحمن الغَافِقِيّ –رحمه الله- تلك إلاَّ أنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنًا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه؛ ومن ثَمَّ فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثَقُلَ في أيدي المجاهدين، وهنا بدأ المحاربون ينظرون إلى هذه الغنائم، ويُفتَنُون بهذه الأموال الضخمة التي حصَّلوها.

    ثم عندما وصل عبد الرحمن الغَافِقِيُّ –رحمه الله- بالجيش إلى بواتيه ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة؛ فقد تجدَّدت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والأمازيغ (البربر) من جديد؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه أمر معروف ومُتَّفق عليه، وأخذ كلٌّ ينظر إلى ما بيد الآخر؛ يقول العرب: إنهم أحقُّ لأفضليتهم. ويقول الأمازيغ البربر: نحن الذين فتحنا البلاد. ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرَّقوا قطُّ بين عربٍ وأمازيغ بربر، بل ما فرَّقوا بينهم وبين مَنْ دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك.

    يمكننا أن نضيف -أيضًا- ما قد يكون من زهو واغترار بالكثرة والعدد الضخم، فخمسون ألفًا من المجاهدين عدد لم يُسبَقْ في تاريخ الأندلس، فأخذتهم العزَّة، وظنُّوا أنهم لن يُغلَبوا بسبب كثرتهم هذه، لا سيما وأنهم اكتسحوا الجنوب والوسط الفرنسي، ولم تقف لهم قوَّة ذات بال.

    معركة بلاط الشهداء

    التقى الجيشان؛ خمسون ألفًا من المسلمين أمام أربعمائة ألف استطاع شارل مارتل تجميعهم من كل شيء طالته يداه؛ فمحاربون ومرتزقة، وفرنجة وهمج قادمون من الشمال، وأمراء وعامة وعبيد، واندلع القتال بين الجيشين لمدَّة تسعة أيام لا غالب ولا مغلوب.

    حتى إذا كان اليوم العاشر، حمل المسلمون على الفرنج حتى كادوا ينتصرون إلاَّ أن فرقة من فرسان الفرنجة استطاعت أن تنفذ إلى معسكر الغنائم في خلف الجيش الإسلامي، وهنا صاح الصائح ينادي على الغنائم، فقفلت فرقة من الفرسان في قلب الجيش الإسلامي إلى الخلف مدافعة عن الغنائم، فاهتزَّ قلب الجيش الإسلامي، ثم اهتزَّ وضع الجيش جميعه مع هذه الحركة المفاجئة، وما كان عبد الرحمن الغافقي –رحمه الله- ينادي على الناس ويحاول تجميعهم من جديد حتى أصابه سهم ألقاه من على فرسه شهيدًا، فصارت الطامَّة طامتان: ارتباك حركة الجيش، واستشهاد القائد العظيم.

    بالغت الروايات الأوربية كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم، وهو بلا شَكٍّ رقم مبالغ فيه جدًّا؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يَتَعَدَّ خمسين ألفًا، أو ثمانين في أقصى التقديرات.

    بعد انقضاء اليوم العاشر انسحب المسلمون إلى الجنوب، وجاء اليوم الحادي عشر فنهض الفرنجة لمواصلة القتال، فلم يجدوا من المسلمين أحدًا، فتقدَّمُوا على حذر من مضارب المسلمين فإذا هي خالية، وقد فاضت بالغنائم والأسلاب والخيرات، فظنُّوا الأمر خدعة، وتريَّثُوا قبل أن يجتاحوا المعسكر وينتهبوا ما فيه، ولم يُفَكِّر أحد منهم في تتبُّع المسلمين؛ إما لأنهم خافوا أن يكون العرب قد نصبوا لهم بهذا الانسحاب شركًا، أو ربما لأن شارل مارتل اطمأن أنه يستطيع العودة إلى بلاده في الشمال مطمئنًّا إلى انصراف المسلمين عنها.

    قصة الغنائم

    رأي الدكتور عبد الرحمن الحجي

    يرفض الدكتور عبد الرحمن الحجي في كتابه «التاريخ الأندلسي» قصة الغنائم هذه، ويسوق في الردِّ عليها جملة من الأمور هي: عدم ثبوت شيء متعلق بأن ثمة نزاعًا كان بين العرب والبربر لا من قبل المعركة ولا في الوقت الذي تلاها، كذلك ما يبدو في قصة الغنيمة من أسطورية تجانب ما عُرف عن الأهداف العليا للفتح الإسلامي، ولما عُرف عن الفاتحين في فرنسا من الزهد في مثل هذه الأمور، كما أنه من الغريب أن يحمل الفاتحون غنائمهم وهم متوجهون إلى معركة يعرفون أنها حاسمة، ولو قُدِّر أن اجتمع لهم مثل هذا القدر الضخم من الغنائم -كما تصف الرواية الأوربية- لكانوا أودعوها مدنًا مفتوحة وما حملوها معهم؛ لا سيما وقد أظهرت لنا طبيعة الفتوح في الأندلس اهتمام المسلمين بالخيل والسلاح تحديدًا لا بغير ذلك من الغنائم، كذلك تتناقض الرواية الأوربية حين تقول بأن الفرنج لم يكتشفوا حيلة المسلمين وانسحابهم إلاَّ في صبيحة اليوم التالي، وقد كانوا يتجهزون لقتال، ما يعني أنه لم تكن تبدو بوادر انتصار لهم ولا هزيمة للمسلمين، فضلاً عن أن تكون هزيمة ساحقة كما تمَّ تصويرها، بل الأرجح في هذه الحالة أن المسلمين انسحبوا بشكل تكتيكي طبيعي لَمَّا استشهد الغافقي، وهو قرار عسكري يُؤخذ بلا حرج حين تبدو صعوبة المعركة، ولا يعني في حدِّ ذاته هزيمة فادحة.

    إلاَّ أننا لا نميل كل الميل إلى كلام الدكتور الحجي، وإن كان طرح بعض ما يحتاج إلى دراسة متخصصة، ذلك أن الفاتحين من البشر ويجوز أن يحرصوا على الغنائم وأن يُفتنوا بها، وليسوا –على عظمتهم- بأكرم من الصحابة –رضي الله عنهم- الذين فُتنوا بها في غزوة أُحُد، كما أن الهزيمة في بلاط الشهداء إذا لم تكن كبيرة لكُنَّا سمعنا بعودة أخرى للمسلمين إلى تلك المناطق، إلاَّ أن ذلك لم يحدث؛ وهذا ما يعطينا الإيحاء القوي -الذي يفتقر للدليل الأكيد- بأنها كانت حقًّا هزيمة مؤثِّرة، وبها توقَّفت الفتوحات في شمال فرنسا، كذلك لا يُفَسِّر الدكتور الحجي طبيعة الصعوبات التي تدفع المسلمين لانسحاب ليس بعده رجعة، وقد عهدناهم في كل مراحل التاريخ -وفي فتح الأندلس نفسها- يُقاتلون في عدد وعدَّة أقل كثيرًا من عدوهم، وفي أرض لا يعرفونها كما يعرفها أصحابها.

    رأي الدكتور عبد الحليم عويس

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    وأمَّا الدكتور عبد الحليم عويس فيبدو أنه ممن يميل إلى تفسير الغنائم كسبب للهزيمة؛ يقول: «قصة الغنيمة‏ في تاريخنا غريبة، والدرس الذي تُلقيه علينا -كذلك- أغرب! لقد بدأت أولى هزائمنا بسبب الغنيمة، ولقد وقفنا مرغمين -عند آخر مدى وصلت إليه فتوحاتنا، بسبب الغنيمة- كذلك! فقصة الغنيمة‏.‏‏.‏ هي قصة الهزيمة في تاريخنا. كان قائد المعركة الأولى هو الرسول .‏‏.‏ وخالف الرماةُ أمرَه، وخافوا من أن تضيع فرصتهم في الغنيمة‏.‏‏.‏ فكانت أُحُد،‏ وشهد الجبل العظيم استشهاد سبعين رجلاً من خِيرَة المسلمين‏.‏‏.‏ بسبب الغنيمة‏.‏‏.‏ نعم بسبب الغنيمة!

    وكان قائد المعركة الأخيرة عبد الرحمن الغافقي‏ آخر مسلم قاد جيشًا إسلاميًّا منظمًا لاجتياز جبال البرانس، ولفتح فرنسا، وللتوغُّل -بعد ذلك- في قلب أوربا. وهُزِمَ الغافقي‏.‏‏.‏ سقط شهيدًا في ساحة بلاط الشهداء‏ إحدى معارك التاريخ الخالدة الفاصلة‏.‏‏.‏ وتداعت أحلام المسلمين في فتح أوربا، وطَوَوا صفحتهم في هذا الطريق‏.‏‏.‏ وكان ذلك للسبب نفسه الذي استفتحنا به دروس الهزيمة‏.‏‏.‏ أعني بسبب الغنيمة. ومنذ تمَّ الاستقرار في المغرب العربي، وإسبانيا الإسلامية، وهم يطمحون إلى اجتياز جبال البرانس وفَتْح ما وراءها، هكذا أراد موسى بن نصر،‏ لكن الخليفة الوليد بن عبد الملك‏ خشي أن يُغَامِر بالمسلمين في طريق مجهولة، ثم فكَّر على نحو جدي السمحُ بن مالك الخولاني والي الأندلس ما بين عامي 100-102هـ‏‏، وتقدَّم فاستولى على ولاية سبتمانيا‏‏ إحدى المناطق الساحلية المطلَّة على البحر الأبيض المتوسط جنوب فرنسا، وعبر -بذلك-‏ السَّمْح‏ جبال البرانس، وتقدَّم فنزل في أرض فرنسا مُنعطِفًا نحو الغرب؛ حيث مجرى نهر الجارون، مُستوليًا في طريقه على ما يقابله من البلدان، حتى وصل إلى تولوز -في جنوب فرنسا- لكنه لم يستطع أن يستقرَّ فيها، وقُتِلَ السَّمْحُ، وتراجعت فلول جيشه تحت قيادة أحد قواده عبد الرحمن الغافقي‏‏ فكأن السَّمْح لم ينجح إلاَّ في الاستيلاء على سبتمانيا»‏.

    وعلى كل حال، فما زال الباحثون في انتظار الجديد الذي تجود به الأيام من نفائس المخطوطات، مما عسى أن يساعدنا في فهم هذه المعركة التي بها توقفت فتوحنا في أوربا.‏

    النصر الكارثي

    ربما يبدو هذا العنوان غريبًا على البعض؛ لكنه في الحقيقة كان ما أثبته الواقع وشهد به التاريخ، ولقد فطن إلى هذا المعنى بعض المنصفين من مؤرخي أوربا، قال أناتول فرانس: "إن أهم تاريخ في حياة فرنسا هو معركة بواتيه -بلاط الشهداء- حين هَزَم شارل مارتل الفرسان العرب -المسلمين- في بواتيه سنة 732م، ففي ذلك التاريخ بدأ تراجع الحضارة العربية أمام الهمجية والبربرية الأوربية.

    بين التاريخ والواقع

    يقول الله في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. فالملاحظ أن المسلمين قد اغترُّوا بهذه الدنيا التي فُتحت عليهم فتنافسوها؛ ففي الحديث عن عمرو بن عوف الأنصاري t أن رسول الله قال: «فَوَاللهِ! مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ». فسُنَّة الله في خلقه أنه إن فُتِحَت الدنيا على الصالحين؛ فاغترُّوا بها وتنافسوا فيها؛ فإنها ستُهلكهم لا محالة كما أهلكت مَنْ كان قبلهم؛ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].

    أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة؛ وهو العنصرية والعصبيَّة القَبَلِيَّة، التي كانت بين العرب والأمازيغ (البربر) في هذه بلاط الشهداء، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذه العصبية ووَعَته كتبهم، وظلَّ في ذاكرتهم على مدار التاريخ، حتى مرَّت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة 1830م حتى سنة 1960م، فلمَّا قامت الحركات الاستقلاليَّة منذ سنة 1920م وما بعدها، فكَّرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة، ولم تجد أمامها إلاَّ إشاعة الفتنة بين العرب والأمازيغ (البربر)، وضَرْب بعضهم ببعض، فكانت تُشِيعُ بين الأمازيغ البربر أنهم قريبون من العنصر الآري وهو العنصر الأوربي، وبعيدون عن العنصر السامي وهم العرب؛ أي: أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء. وذلك للتشابه الكبير بين الأمازيغ (البربر) والأوربيين في المظهر، وهذا ما لا يعترف به الإسلام ولا يُقِرُّه على الإطلاق، فمعيار التفاضل في الإسلام هو التقوى.

    ولم تكتفِ فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق الأمازيغ (البربر)، في حين منعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق؛ وذلك حتى يتمَّ فصل الأمازيغ (البربر) عن العرب تمامًا في منطقة الجزائر، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء، إلاَّ أنها لم تُفلح على الإطلاق في تحويل الأمازيغ البربر من الإسلام إلى النصرانية، فظلَّ الأمازيغ (البربر) على إسلامهم، وإن كانت لغتهم قد تغيَّرت.

    وكانت قبائل الأمازيغ (البربر) تمثِّل 15٪ من شعب الجزائر، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية، إلاَّ أنهم كانوا يتمسَّكون بالعربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، لكن حين قامت فرنسا بنفخ نار العصبية، بدأت تُذْكي الروح الأمازيغية (البربريَّة) في اللغة المنفردة لهذه القبائل؛ فبدأت تُعَلِّم اللغة الأمازيغية؛ حتى إنها أنشأت في فرنسا عام 1967م أكاديميةً خاصةً لتعليم اللغة الأمازيغية، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية؛ رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة، وقامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة، وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة الأمازيغية، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من الأمازيغ (البربر) لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا؛ حتى إنها في عام 1998م أنشأت ما يُسَمَّى بالأكاديمية العالمية للبربر، فبدأت تُجَمِّع الأمازيغ (البربر) من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتُعَلِّمهم اللغة الخاصة بهم؛ وكل ذلك لفصل الأمازيغ (البربر) عن العرب، تلك الجموع التي ما هي إلاَّ جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين، لكنها رأت آثار ذلك في بلاط الشهداء وما تلاها فلم تتوانَ، وفي الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد مسلم عربي، كانت هي نفسها التي رفضت المشروع الذي تَقَدَّم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة 1999م بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا، والذي ردَّ عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تُريد بلقنة فرنسا. أي: جعلها كدول البلقان، بلاد متفرقة بحسب العِرْقِ وبحسب العنصر، فهذا الأمر -في رأيهم- حلال على الجزائر حرام على فرنسا!
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty وقفات بعد معركة بلاط الشهداء

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 15:44


    وقفات بعد معركة بلاط الشهداء


    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    وقفات

    بعد استشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- في موقعة بلاط الشهداء في منطقة بواتيه، وبعد هزيمة المسلمين فيها انسحب المسلمون، وتوقَّفت الفتوحات الإسلامية في هذه المنطقة، وقبل استكمال الطريق والخوض في تفاصيل ما حدث بعد بلاط الشهداء، هناك بعض النقاط المهمَّة، والتي نَوَدُّ الوقوف أمامها قليلاً.



    أولها: لماذا لم يقمْ أهل الأندلس بالثورات رغم ضآلة الحاميات الإسلامية في الأندلس؟

    كان قِوَامُ الجيش الإسلامي في بلاد الأندلس ثلاثين ألفَ مقاتلٍ، كان مع طارق بن زياد منهم اثنا عشر ألفًا وقد استُشهِد منهم في وادي بَرْبَاط ثلاثةُ آلافٍ، واستشهد مثلُهم في الطريق من وادي بَرْبَاط إلى طُلَيْطِلَة، فوصل طارق بن زياد إلى طُلَيْطِلَة بستة آلاف فقط من الرجال، ثم عبر موسى بن نصير بثمانية عشر ألفًا، فأصبح قِوَام الجيش الإسلامي أربعة وعشرين ألف مقاتل، تمَّ توزيعهم على كل مناطق الأندلس الواسعة وبعض مناطق جنوب فرنسا، كحاميات إسلامية وفاتحين لمناطق أخرى لم تُفْتَح.



    فلماذا لم يقم أهل هذه البلاد -على سَعَتِها- بالثورة على المسلمين، أو على الحاميات الإسلامية الموجودة فيها؛ رغم قِلَّتها الملحوظة التي لا تُقارَن بعدد السكان على الإطلاق؟!



    ومثل هذا السؤال هو العجب كل العجب! فالسؤال الذي كان متوقعًا هو: لماذا يثور أهل الأندلس؟ وليس لماذا لم يثوروا؟ كان أهل الأندلس قبل دخول الإسلام يعيشون ظلمًا مريرًا وضنكًا شديدًا؛ تُنهب أموالهم وتُنتهك أعراضهم فلا يعترضون؛ حُكَّامهم في الثروات والقصور يتنعَّمُون، وهم لا يجدون ما يسدُّ الرمق، يزرعون الأرض وغيرُهم يأكل ثمارها، بل إنهم يُباعون ويُشترَوْن مع تلك الأرض التي يزرعونها.



    فلماذا إذًا يثور أهل الأندلس؟! أيثورون من أجل هذا الذي أذاقهم العذاب ألوانًا؟! أم يثورون من أجل ظهور لُذريق جديد؟! أم يثورون من أجل ذكريات أليمة مليئة بالجوع والعطش، والنهب والسرقة، والظلم والتعذيب والتنكيل، والفساد والرشوة والجبروت؟!



    ثم ماذا كان البديل المطروح؟ إنه الإسلام الذي حملته أرواح المسلمين الفاتحين، إنه الإسلام الذي حرَّم كل ما سبق، وجاء ليقول لهم: تعالَوْا أُعْطِكم بدلاً من الظلم عدلاً؛ ليس هبةً مني، لكنه حقٌّ لكم ولقومكم وأولادكم وذريتكم من بعدكم. إنه الإسلام الذي لم يُفَرِّق بين حاكم ومحكوم، فإن حدث لأيٍّ منكم مظلمة قام القاضي لا يُفَرِّق بين المسلم واليهودي والنصراني، أيًّا كان شكله أو لونه أو جنسه.



    إنه الإسلام الذي لا يرفع من قيمة الأشخاص بقدر أموالهم أو صورهم أو أجسامهم؛ إنما بقدر أعمالهم، والأعمال متاحة للجميع الغني والفقير، الحاكم والمحكوم، إنه الإسلام الذي يقول فيه الحاكم لك: إِنْ كنتَ من المسلمين وكنت غنيًّا فلن تدفع إلاَّ 2.5٪ زكاةً لأموالك، إذا بلغت النِّصابَ، وحال عليها الحَوْلُ، وإن كنت فقيرًا فلن تدفع شيئًا، بل ستأخذ من بيت مال المسلمين إلى أن تغتني.



    وإن كنت من غير المسلمين وكنت غنيًّا وقادرًا على القتال -وليس غيرَ ذلك- فستدفع جزيةً؛ هي أقل بكثير من زكاة المسلمين، نظير أن يُدَافعوا عنك، وإن هم فشلوا في الدفاع عنك فستُرَدُّ إليك أموالك.

    إنه الإسلام خلاص الشعوب؛ وحين عرفه أهل الأندلس تمسَّكوا به، واعتنقوه اعتناقًا، ولم يرضَوْا عنه بديلاً؛ فكيف يحاربونه ويُضَحُّون بهذا النعيم المقيم في الدنيا والآخرة من أجل حياة المرارة والعذاب والذلِّ والحرمان؟!



    ثانيًا: ولكن البعض سيقول: هل من المعقول أن كل أهل الأندلس أُعجبوا بهذا الدين؟! ألم يكن هناك ولو رجل واحد يُريد أن يثور ويعترض حبًّا في سلطان أو مصلحة كانت قد ضُيِّعَتْ عليه؟!

    نقول: بلى؛ كان هناك كثير من الناس من أصحاب المصالح، الذين كان لهم أعوان كثيرون أرادوا أن يثوروا على حكم الإسلام؛ ليسترجعوا مجدهم، ويُحَقِّقوا مصالح كانت لهم، أمَّا لماذا لم يثوروا؟ فالجواب عنده في قوله: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13].



    فلقد كانت للمؤمن زمنَ الفتوحات رهبة في قلوب النصارى واليهود، وفي قلوب المشركين بصفة عامَّة، فالله يُلقي على المؤمن جلالاً ومهابةً؛ فيخافه القريب والبعيد، يقول : «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ». ويقول : {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2].



    ولم يكن هذا الرعب بسبب بشاعة في الحرب، أو إجرام منقطع النظير، إنما كان هبة ربانية لجند الله ولأوليائه، فلم تكن حرب الإسلام إلاَّ رحمةً للناس كل الناس؛ فها هو ذا كما جاء في الحديث الشريف عن بُريدة t حين كان يُوَدِّع الجيوش فكان يخاطبهم؛ قائلاً: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا»

    وفي رواية: «وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلاَ طِفْلاً صَغِيرًا وَلاَ امْرَأَةً



    فأين هذا من حروب غير المسلمين مع المسلمين؟! أين هذا مِن قَتْلِ مائتي ألف مسلمٍ من المدنيين في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟! أين هذا من فِعْل الروس في الشيشان، وفِعْل الهنود في كشمير، وفِعْل اليهود في فلسطين، وفِعْل أميركا في أفغانستان والعراق؟!



    فرغم أن الرهبة والرعب أُلقِيَ في قلوب الأعداء، إلاَّ أن حروب المسلمين كانت رحمة للعالمين؛ حتى لقد سَعِدَ الذين لم يدخلوا في الإسلام من اليهود والنصارى في ظلِّ حكم الإسلام أيما سعادة؛ عملاً بقوله : {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].



    فقد تُركَتْ لهم كنائسُهم، وكان لهم قضاءٌ خاصٌّ بهم، ولم يُفَرَّق بين مسلم ونصراني ويهودي في مظلمة؛ فكان العجب حقًّا أن يثوروا، العجب كل العجب أن ينقلبوا على الإسلام، والعجب كل العجب أن يرفضوا حكم الإسلام وقد جاء من عند حكيم خبير، يَعْلَمُ ما يُصلِحُ كونَه وأرضه وعبيده؛ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].



    ثالثًا: تساؤل البعض عن عوامل الهزيمة في بلاط الشهداء؛ إذ كيف تتعلق قلوب هذا الجيل القريب من عهد رسول الله r وصحابته -وهو جيل التابعين أو تابعي التابعين- بالغنائم وحب الدنيا؟! وكيف تظهر فيهم هذه العنصرية القبلية؟!

    وللإجابة على الشقِّ الأول من هذا السؤال، نقول: إذا كانت هذه العوامل قد حدثت في سنة 114هـ=732م فإنها قد حدثت مع الصحابة y في عهد الرسول سنة 3هـ=625م وذلك في غزوة أُحُد، والتي نزل فيها قوله مخاطبًا الصحابة: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وكأنَّ غزوة أُحُدٍ تُعيد نفسَها من جديد في بلاط الشهداء.



    فقد نزلت هذه الآية في الصحابة y حين خالفوا أمر الرسول ، ونزل الرماة وتركوا مواقعهم طلبًا للغنيمة، بعد أن تيقَّنوا من النصر، فكانت الهزيمة بعد النصر؛ حتى إن عبد الله بن مسعود t قال: ما كنتُ أحسب أنَّ مِنَّا مَنْ يُريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152].



    وهكذا في بلاط الشهداء كانت الغَلَبَةُ للمسلمين في أول المعركة في أول يومين أو أول ثلاثة أيام، ثم لما التفَّ النصارى حول الغنائم يأخذونها -وكان قد وقع حبُّها في قلوب المسلمين- حدث الانكسار في الجيش ثم هُزِمُوا.



    يقول ابن كثر -رحمه الله- في تفسير قوله : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، يقول: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}؛ أي: لم يستأصلكم في هذه الموقعة، وأعطاكم الفرصة للقيام من جديد. وهكذا في بلاط الشهداء، لم يُستَأْصَلِ الجيش الإسلامي، لكنه عاد وانسحب ليقوم من جديد.



    وإذا جئنا إلى ما قبل أُحُد، وإلى الرَّعيل الأول من الصحابة y في غزوة بدر وجدنا -أيضًا- صورةً من صور بلاط الشهداء، وذلك حين انتصر المسلمون ثم اختلفوا على الغنائم؛ حتى إن سورة الأنفال التي نزلت بعد ذلك تُعَظِّم من هذا النصر المجيد قد بدأت بقوله : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]. وهو كلام له وَقْعُ السِّهَام على الصحابة، لكنه أمر قد حدث وهو أصيل في النفس البشرية.

    ومن هنا فما حدث في بلاط الشهداء ليس بجديد؛ لأنه من عيوب النفس البشرية، وقد حدث مثله في بدر وفي أُحُد، لكن كان هناك اختلافٌ؛ فالرسول بعد غزوة أُحُد تدارك الأمر بسرعة؛ فحمَّس المسلمين على الجهاد، وذكَّرهم بالآخرة حتى قاموا في حمراء الأسد، فكانت الغلبة وردُّ الاعتبار، أمَّا بعد بلاط الشهداء فلقد قام بالفعل رجل من المسلمين هو عقبة بن الحجاج -رحمه الله-، يُحَمِّسهم ويُشَجِّعهم، إلاَّ أنه لم تحدث موقعة بعد بلاط الشهداء كموقعة حمراء الأسد بعد أُحُد -يسترد فيها المسلمون اعتبارهم وثقتهم بأنفسهم.



    كذلك اختلف الفريقان في أن معظم جيش المسلمين في بلاط الشهداء لم يرجع عن حبِّه للدنيا وتعلُّقه بها، أمَّا في أُحُد فقد قال عنهم : {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآَخِرَةَ} [آل عمران: 152]؛ ولذلك لم يَعُدِ المسلمون بعد بلاط الشهداء كما عادوا بعد أُحُد مباشرة.



    ومن أَوْجُهِ الشبه الكبيرة -أيضًا- بين أُحُد وبلاط الشهداء أنه عندما أُشيع خبر وفاة الرسول في أُحُد حدث الانكسار، وانهزم المسلمون وفرُّوا، وكذلك بالنسبة لبلاط الشهداء، فحينما قُتِلَ عبدُ الرحمن الغافقي -رحمه الله- انسحب المسلمون، وانكمشوا على أنفسهم إلى الداخل، وهنا تكمن العبرة والعِظَة من أحداث المسلمين المتكرِّرة وشديدة التشابه.



    مشكلات القومية والعنصرية

    وهي الشق الثاني من السؤال، وكسابقتها فإن مسألة القومية والعنصرية كانت قد ظهرت -أيضًا- في عهد الرسول ، وهذا لا يُعَدُّ قَدْحًا في هذا العهد أو في هؤلاء الصحابة، بقدر ما هو بيانٌ لأمور فُطِرَت وجُبِلَت عليها النفسُ الآدمية، لكن فرقٌ بين أن تعود هذه النفس إلى طريق بارئها وبين أن تتمادى في غيِّها.

    ولعلَّنَا نذكر هنا تلك الحادثة المشهورة التي حدثت بين أبي ذرٍّ t وبين بلال بن رباح t؛ حين عيَّره أبو ذرٍّ بأُمِّه في خلاف بينهما؛ قائلاً لبلال: يابن السوداء.

    فذهب بلال إلى رسول الله مغاضبًا يحكى له ما حدث، فما كان من الرسول إلاَّ أن غضب غضبًا شديدًا، وقال لأبي ذرٍّ: «طَفُّ الصَّاعِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلْ وَلْيُلْبِسهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ



    والعبرة هنا بردِّ فعل أبي ذرٍّ t حيال هذا الغضب من رسول الله ، وحيال هذا الذنب الذي اقترفه، فما كان من أبي ذرٍّ إلاَّ أن وضع رأسه على التراب مُصرًّا على أن يطأ وجهَه بلالٌ t بقدمه؛ حتى يُكَفِّر عن خطيئته تلك، وكان رَدُّ فعل بلال tأن غفر لأبي ذرٍّ، ورفض أن يطأ وجهه، وقد حدث مثل هذا -أيضًا- بين الأوس والخزرج، حين فَتَنَ بينهم شاسُ بن قيس، فقالت الأوس: يا لَلأَوس. وقالت الخزرج: يا لَلْخَزرج. وحينها قال الرسول : «اللهَ اللهَ! أَبْدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرْكُمْ، دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»



    وليس أدل على تلك القَبَلِيَّة مما حدث بمجرَّد وفاة الرسول من فتنة بني حنيفة، واجتماع الناس حول مُسَيْلِمَة الكَذَّاب، حتى سُئِلَ رجلٌ من أتباع مُسَيْلِمَة: أتعلم أن محمدًا صادق ومسيلمة كاذب؟ فأجاب قائلاً: والله أعلمُ أنَّ محمدًا صادق، وأن مسيلمةَ كاذب، ولكنَّ كاذب بني ربيعة، أحبُّ إليَّ من صادق مضر. هكذا كانت النظرة قَبَلِيَّة تمامًا في نظر هذا الرجل، ولو لَمَسَ الإيمانُ قلبَه ما قال مثل قولته هذه.



    إذًا فقد ظهرت العنصرية والقبلية منذ عهد رسول الله ، إلاَّ أن الرسول كان يتدارك هذا الأمر بسرعة، ويُحَفِّز الناس بالإيمان ويُقَرِّبهم إلى ربهم، ويُذَكِّرهم بالآخرة: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. فسرعان ما يتجاوزون ما حدث ولا يعودون، متذكِّرين قوله في كتابه الكريم: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 101- 103].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty عقبة بن الحجاج السلولي

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 15:46


    عقبة بن الحجاج السلولي

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    ولاية عبد الملك بن قطن الفهري 114-116هـ

    وصلت أنباء فاجعة بلاط الشهداء واستشهاد عبد الرحمن الغَافِقِيّ -رحمه الله- إلى عبيدة بن عبد الرحمن القيسي والي إفريقية، فبعث إلى الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك -رحمه الله- يُخبره بولاية عبد الملك بن قَطَن على الأندلس فأقَرَّه الخليفة عليها، وكان ذلك في رمضان وقيل: شوال عام 114هـ=732م

    ظلم وجهاد

    كان همُّ عبد الملك بن قطن تثبيت أمر المسلمين في المناطق الفرنسية، التي بدأت تتهاوى بعد بلاط الشهداء، وقد نجح في ذلك بعزمه، وبانفضاض سكان الجنوب عن الولاء لشارل مارتل -الذي كان يُعاملهم بظلم وعسف ويطلق فيهم يد جنوده- وبغزوات قائده في أرْبُونَة يوسف الفهري، ومع جهاده هذا إلاَّ أنه كان ظلومًا جائرًا عنيفًا سيِّئ السياسة، فلم يجد والي إفريقية عبيد الله بن الحبحاب بُدًّا من عزله؛ بعد أن كثرت شكاوى الأندلسيين منه، فكان عزله في رمضان 116هـ=734م، بعد سنتين من ولايته الأولى

    عقبة بن الحجاج 116-123هـ:

    اختار عبيد الله بن الحبحاب لولاية الأندلس مجاهدًا فذًّا يُسَمَّى عقبة بن الحجَّاج السلولي -رحمه الله، الذي تولَّى من سنة 116هـ=734م إلى سنة 123هـ=741م

    وقد خُيِّر عقبة بين إمارة إفريقية بكاملها كل الشمال الإفريقي وبين إمارة الأندلس، ففَضَّلَ إمارة الأندلس؛ لأنَّها أرض جهاد؛ لملاصقتها لبلاد النصارى. قال ابن عذاري: «أقام عقبة بالأندلس بأحسن سيرة وأجملها، وأعظم طريقة وأعدلها. وقال المقَّرِي: «وَوَليَ عقبة بن الحجاج السَّلُولي من قِبَل عبيد الله بن الحبحاب، فأقام خمس سنين محمودَ السيرة، مجاهدًا مظفَّرًا».

    فتوحاته

    وقد قام عقبة بن الحجاج -رحمه الله- خلال سنوات إمارته السبع بأكثر من سبع حملات داخل فرنسا، وكان ينزل إلى الأسرى بنفسه يُعَلِّمهم الإسلام؛ حتى إنه أسلم على يديه ألف من الأسرى وقد قال رسول الله : «لأَنْ يَهْدِي اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ فكيف بألفٍ؟!

    بدأ عقبة بن الحجاج -رحمه الله- يُعيد أمجاد الجهاد الإسلامي في بلاد فرنسا، فثبَّت أقدام المسلمين في بروفانس -جنوب شرقي فرنسا، وأقام فيها الرباطات، واستولى عقبة على بلاد الدوفينيه -شرقي ليون، وفتح مدينة سان بول، وفتح –رحمه الله- مدينة أرْبُونَة عاصمة مقاطعة سبتمانيا، وقرقشونة إحدى مدنها، واتسعت فتوحات المسلمين حتى وصلت إلى مقاطعة بيدمونت بشمال إيطاليا

    وواصل عقبة جهاده لإقرار الفتح في المدن الأندلسية لا سيما في الشمال الغربي في أرض جيليقية، التي لم تكن فُتحت حتى الآن، وبلغ في ذلك غاية ما يستطيع، إلاَّ أنه واجه -والحق يقال- بسالة نادرة، حتى ليروي صاحب «أخبار مجموعة» أنه «لم تبقَ في جيليقية قرية لم تُفتح غير الصخرة، فإنه لاذ بها ملك يقال له: بِلاي، فدخلها في ثلاثمائة رجل، فلم يزل يقاتلونه ويغاورونه حتى مات أصحابه جوعًا، وترامت طائفة منهم إلى الطاعة، فلم يزالوا ينقصون حتى بقي في ثلاثين رجلاً ليست معهم عُشْر نَسوة فيما يقال، إنما كان عيشهم بالعسل، ولاذوا بالصخرة فلم يزالوا يتقوتون بالعسل معهم جِبَاح النحل عندهم في خروق الصخرة. وأعيا المسلمين أمرُهم، فتركوهم وقالوا: ثلاثون عِلْجًا ما عسى أن يكون أمرهم، واحتقروهم، ثم بلغ أمرهم إلى أمر عظيم

    ولقد ظلَّ عقبة بن الحجاج -رحمه الله- مجاهدًا حسن السيرة بين جنده إلى أن استشهد سنة 123هـ=741م [، وباستشهاده تكون قد انتهت الفترة الأولى من عهد الولاة.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty عبد الرحمن الداخل

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 15:48


    عبد الرحمن الداخل

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    نشأة عبد الرحمن الداخل



    صقر قريش عبد الرحمن الداخللكي نفهم قصة دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى أرض الأندلس، يجب أن نعود إلى الوراء قليلاً حتى سنة (132هـ=750م)، وهو زمن سقوط الدولة الأموية في المشرق، فقد قتل العباسيون كلَّ مَن كان مُؤَهَّلاً من الأُمَوِيِّين لتولِّي الخلافة؛ فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء وأبناء أبناء الأمراء (الأحفاد)، إلا قلَّة ممَّن لم تصل إليهم سيوفُهم[1].



    وكان من هؤلاء الذين لم تصل إليهم سيوف بني العباس- عبدُ الرحمن بن معاوية حفيدُ هشام بن عبد الملك الذي حكم من سنة (105هـ=723م) إلى سنة (125هـ=743م).



    وقد نشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي، وكان الفاتح الكبير مسلمة بن عبد الملك عَمَّ أبيه يراه أهلاً للولاية والحكم، وموضعًا للنجابة والذكاء، وسمع عبد الرحمن ذلك منه مشافهة، فترك ذلك في نفسه أثرًا إيجابيًّا، ظهرت ثماره فيما بعدُ[2]، ولما بلغ رَيْعَانَ شبابه انقلب العباسيون على الأمويين، وأعملوا فيهم السيف -كما ذكرنا- حتى لا يُفَكِّر في الخلافة أحدٌ منهم؛ فكانوا يقتلون كلَّ مَنْ بلغ من البيت الأموي، ولا يقتلون النساء والأطفال، وكان هذا في سنة (132هـ).


    هروب عبد الرحمن الداخل

    هرب عبد الرحمن بن معاوية من مكانه ومستقره في قرية دير خنان من أعمال قنسرين بالشام إلى بعض القرى في العراق ناحية الفرات، ولكن المطاردة العباسية المحمومة –بما جنَّدته من مكافآت وعيون تبلغها الأنباء- بلغته في مكانه، وبينما كان يجلس في بيته؛ إذ دخل عليه ابنه ذو الأربع سنوات يبكي فزعًا، وكان عبد الرحمن بن معاوية مريضًا معتزلاً في الظلام في ركن من البيت؛ لأنه كان يُعاني من رمد في عينه، فأخذ يُسَكِّن الطفل بما يُسكَّن به الأطفال، إلاَّ أن الطفل ظلَّ فزعًا مرعوبًا لم يهدأ، فقام معه عبد الرحمن بن معاوية فوجد الرايات السود (رايات الدولة العباسية) خارج البيت، وكانت تعمُّ القرية جميعها، فعلم أنَّه مطلوب، فرجع عبد الرحمن بن معاوية وأخذ أخاه هشام بن معاوية وما معه من نقود، وترك النساء والأطفال وكل شيء؛ لأنه يعلم أنهم لن يمسوهم بسوء.



    وانطلق عبد الرحمن هاربًا –ومعه أخوه هشام- نحو الفرات، وعند الفرات أدركتهما خيول العباسيين، فألقيا بأنفسهما فيه وأخذا يسبحان، ومن بعيد ناداهما العباسيون: أن ارجعا ولكما الأمان. وأقسموا لهما على هذا، كانت الغاية أن يقطعا النهر سباحة حتى الضفة الأخرى، إلاَّ أن هشامًا لم يقوَ على السباحة لكل هذه المسافة، ثم أثَّر فيه نداء العباسيين وأمانهم، فأراد أن يعود، فناداه عبد الرحمن يستحثُّه ويُشَجِّعه: أن لا تَعُدْ يا أخي، وإلاَّ فإنهم سوف يقتلونك. فردَّ عليه: إنهم قد أَعْطَوْنَا الأمان. ثم عاد راجعًا إليهم، فما أن أمسك به العباسيون حتى قتلوه أمام عيني أخيه، وعَبَر عبد الرحمن بن معاوية النهر وهو لا يستطيع أن يتكلَّم، أو يُفَكِّر من شدَّة الحزن على أخيه ابن ثلاث عشرة سنة، ثم اتجه إلى بلاد المغرب؛ لأن أمَّه كانت من إحدى قبائل الأمازيغ (البربر)، فهرب إلى أخواله هناك، في قصة هروبٍ طويلة جدًّا وعجيبة -أيضًا- عبر فيها الشام ومصر وليبيا والقيروان[3].



    وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى بَرْقَة (في ليبيا)، وظلَّ مختبئًا فيها خمس سنين إلى أن يهدأ الطلب والمطاردات، ثم خرج إلى القيروان، وكانت القيروان حينئذٍ في حكم عبد الرحمن بن حبيب الفهري([4]، وكان قد استقلَّ -فعليًّا- بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية.



    كان عبد الرحمن بن حبيب من نسل عقبة بن نافع فاتح المغرب الأول، وكان ابن عم يوسف الفهري الذي كان يحكم الأندلس، وكان يرغب في أن يحكم الأندلس -أيضًا- إذ الأندلس تَبَعٌ للمغرب، وكان ظهور عبد الرحمن بن معاوية مما يُعَطِّل هذه الأماني.


    لماذا يعطل ظهور عبد الرحمن بن معاوية آمال عبد الرحمن بن حبيب الفهري؟

    إجابة هذا السؤال فيها جانب واقعي تقريري، وجانب آخر طريف يتمثَّل في النبوءة!

    عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان، والحاكم الفعلي لمنطقة الشمال الإفريقي، وابن عم صاحب الأندلس يوسف الفهري، يعلم أن عبد الرحمن بن معاوية -وهو الأموي سليل بيت الخلافة الأموية التي فتحت هذه البلاد، ونصبت هؤلاء الولاة على مقاليدها، وكانت تملك عزلهم وتوليتهم- لا يسعه أن يجلس في بيته قانعًا من الحياة بالعيش الطيب فحسب، بل لا بُدَّ له أن يطلب حقه في مُلك آبائه وأجداده الخلفاء، فما هذه إلاَّ بلاد هم الذين افتتحوها وملكوها وحكموها بالإسلام.



    وهذا في الواقع صحيح جدًّا، وهو -بالمناسبة- التفسير الذي يُفَسِّر تلك الدموية البالغة التي استعملتها الدولة العباسية في القضاء على الأمويين؛ إذ ما دام وُجد أمويٌّ أو عصبة أموية فإنها لن تفتأ تُفَكِّر في استعادة مُلكها المغصوب؛ ومن هنا كان لا بُدَّ من اجتثاث الأمويين تمامًا لإنهاء هذه المعضلة الخطيرة، والتي أخطر ما فيها مسألة «الشرعية»؛ إذ حُكْم بني أمية لهذه البلاد بعد أن فتحوها بجهادهم لا يُشَكُّ في شرعيته، بينما انقلاب العباسيين على الأمويين موضع أخذ وردٍّ وقيل وقال.



    فظهور أموي في بلاد المغرب كعبد الرحمن بن معاوية يفتح في ذهن صاحب المغرب –كما سيفتح في ذهن صاحب الأندلس فيما بعدُ- بابًا من الخوف والتوجُّس والانزعاج؛ إذ الأموي أحق بحكم تلك البلاد، وهي من ميراث أجداده الخلفاء العظام.



    دار هذا في ذهن عبد الرحمن بن حبيب، ولا شَكَّ أنه دار -أيضًا- في ذهن كلِّ صاحب رأي، وكل مَنْ كان من أهل الحلِّ والعقد والرئاسة والزعامة. هذا هو الجانب الواقعي.


    نبوءة مسلمة بن عبد الملك

    أمَّا الجانب الطريف فهو مسألة النبوءة!

    أجمعت كتب التاريخ على أن مسلمة بن عبد الملك -الفاتح العظيم وفارس بني أمية الذي تولَّى فتح بلاد الشمال والقوقاز كما ذكرنا- كان يتنبَّأ بزوال مُلك بني أمية في المشرق، ثم هروب فتى منهم لإحيائه في بلاد المغرب مرَّة أخرى! وتزيد بعض الكتب فتقول بأنه كان يتوقَّع أن يكون عبد الرحمن بن معاوية هو هذا الفتي الذي سيُقيم مُلك الأمويين في المغرب بعد زواله في المشرق.



    وبهذه النبوءة يُفَسِّر كثير من المؤرخين أحداث هذه الفترة، فيُفَسِّرون بها إصرار العباسيين على مطاردة عبد الرحمن بن معاوية خاصة، ويُفَسِّرون بها اتجاه عبد الرحمن بن معاوية إلى بلاد المغرب، ويفسرون بها حُبَّ هشام بن عبد الملك ورعايته لحفيده عبد الرحمن هذا دون غيره من أبنائه وأحفاده، ويفسرون بها -أيضًا- سعي عبد الرحمن بن حبيب لقتل عبد الرحمن بن معاوية في القيروان.



    وما يزيد في الطرافة أن النبوءة تقول بأن صاحب الأندلس يُرسل شَعْرَه ويجعل فيه ضفيرتين، فكان عبد الرحمن بن معاوية بهذا الوصف، وكذا كان عبد الرحمن بن حبيب أيضًا[5].

    ما حقيقة هذه النبوءة في الواقع التاريخي؟

    الحقيقة أن النبوءات دخلت في العديد من أحداث التاريخ، ولكن -على حدِّ علمي- في كل هذه الأحداث ليس من دليل يقول بأن هذه النبوءة وُجدت أو قيلت قبل وقوع الأحداث نفسها، ثم جاءت الأحداث تصدق النبوءة.



    وهذه النبوءة التي نحن بصددها لا تختلف عن هذا، فليس في كتب التاريخ التي وصلت إلينا ما يُؤَيِّد أنها نبوءة ظهرت قبل وقوع الأحداث، لا سيما وأننا نتحدَّث عن تاريخ مبكِّر جدًّا، في بداية القرن الثاني الهجري، قبل أن تُكتب المصادر التاريخية التي بين أيدينا.



    والشاهد في موضوعنا أن عبد الرحمن بن حبيب كان يرجو هو -أيضًا- أن يكون صاحب الأندلس، فهو من أبناء الملوك، وهو صاحب جديلتين؛ ومن ثَمَّ فظهور مَنْ يُنافسه في النبوءة -أيضًا- كان من الخطر الذي لا بُدَّ من التخلُّص منه.



    وكان عبد الرحمن بن حبيب قد عرف بخبر النبوءة من خادم يهودي له كان قد خدم مسلمة بن عبد الملك، فأوصل ذلك الخادم لعبد الرحمن بن حبيب نبوءة مسلمة من أن قرشيًّا أمويًّا يملك بلاد المغرب بعد زوال الأمر من المشرق[6].



    ولما كثر الهاربون الأمويون الواصلون إلى أرض المغرب، ازدادت خشية عبد الرحمن بن حبيب من تَكَوُّن عصبة أموية في بلاده، فأخذ في طرد الكثير منهم، وقتل اثنين من أبناء الوليد بن يزيد، وتزوَّج غصبًا بأخت إسماعيل بن أبان بن عبد العزيز بن مروان، وأخذ مالاً له، ثم جدَّ في طلب عبد الرحمن بن معاوية[7].


    إلى بلاد الأندلس

    بلغ ذلك عبد الرحمن الداخل الذي ما كان له أن تفوته مثل هذه الأمور، فلما أن طلبه عبد الرحمن بن حبيب كان قد خرج من القيروان إلى تادلا، ومنها إلى مضارب قبيلة نفزة بالمغرب الأقصى، وهم أخواله؛ إذ إن أمَّ عبد الرحمن كانت جارية من نفزة، ولم يكن الوضع هناك بالآمن؛ إذ إن وجود الخوارج في هذه المنطقة -وهم الذين يكرهون الأمويين- كان يجعل مقامه هذا -أيضًا- مقامًا على شفا جرف هارٍ[8].



    في الواقع لم يَعُدْ أمام عبد الرحمن بن معاوية إلاَّ بلاد الأندلس، وإذا جرينا وراء النبوءة فيمكننا أن نقول بأن بلاد الأندلس لم تكن فقط وجهته الوحيدة، بل كانت -أيضًا- مطلبه وغايته وهدفه القديم منذ أن سمعه صبيًّا من عم أبيه مسلمة بن عبد الملك.



    فعبد الرحمن مطلوب الرأس في أيِّ قُطْرٍ من بلاد المسلمين؛ ففي أقصى الشرق من فارس وما يليها تكمن شوكة العباسيين ومعقلهم الرهيب، وقد كانت فارس في هذه الأثناء تحت حكم الرجل القوي الجبار أبو مسلم الخراساني، الذي لُقِّبَ بحجاج بني العباس، وفي العراق عاصمة العباسيين، وفي الشام ومصر سلطة العباسيين مكينة كذلك، وفي الشمال الإفريقي وبلاد المغرب الإسلامي مطلوب من عبد الرحمن بن حبيب والخوارج.



    هذا من ناحية الأخطار التي يمكن أن تحيط بالفرد العادي إن كان مطلوبًا، فكيف وهو من بني أمية الذين لا يأمن أحد الملوك على ملكه وتحت سلطانه واحد منهم؟! لم يكن يسعه في الحقيقة إلاَّ أن يعيش أميرًا أو ملكًا، وإلاَّ فلن يعيش. بذا قضى قانون الواقع على عبد الرحمن بن معاوية.

    كانت الأندلس أصلح البلدان لاستقباله؛ وذلك لأنها:

    أولاً: أبعد الأماكن عن العباسيين والخوارج.

    وثانيًا: لأن الوضع في الأندلس ملتهب جدًّا؛ وذلك على نحو ما ذكرنا في عهد يوسف بن عبد الرحمن الفهري في نهاية الفترة الثانية من عهد الولاة؛ ففي هذا الجوُّ يستطيع عبد الرحمن بن معاوية أن يدخل هذه البلاد؛ ولو كانت تابعة للخلافة العباسية ما استطاع أن يدخلها، كما أنها لو كانت على فكر الخوارج ما استطاع -أيضًا- أن يدخلها؛ فكانت الأندلس أنسب البلاد له على وُعُورَتها واحتدام الثورات فيها.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty عبد الرحمن الداخل في الأندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 15:50


    عبد الرحمن الداخل في الأندلس

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    خطة دخول الأندلس



    عبد الرحمن الداخل في الأندلسفي سنة (136هـ=753م) بدأ عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) يُعِدُّ العُدَّةَ لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:

    أولاً: أرسل مولاه بدرًا إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثِّرة في الحُكم فيها، فلقد كانت الأندلس في تنازع بين اليمنية –وزعيمهم أبو الصباح اليحصبي- والقيسية -وزعيمهم أبو جوشن الصميل بن حاتم- وهم الذين كانوا عمادًا لدولة عبد الرحمن بن يوسف الفهري



    ثانيًا: راسل كلَّ محبِّي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه بدر، والحقُّ أن كثيرًا من الناس في عهد الدولة الأموية وفي غيرها كانوا يُحِبُّون الأمويين كثيرًا، فمنذ ولاية معاوية بن أبي سفيان t على الشام في خلافة عمر بن الخطاب t، وفي خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب-رضي الله عنهم جميعا، والمسلمون في أقطار الدولة الإسلامية يحبُّون بني أمية حبًّا شديدًا، فقد اشتهر بنو أمية على مَرِّ العصور بالسخاء والسياسة والحكمة، واكتساب ثقة الناس وحُسن معاملتهم، والجهاد في سبيل الله، ونشر الدين، وفتح البلاد، فكان لبني أمية داخل بلاد الأندلس الكثير من المؤيدين، والكثير من المحبين حتى من غير بني أمية من القبائل المختلفة.



    ثالثًا: راسل كلَّ الأمويين في الأندلس يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم



    كانت الخطوة المؤثِّرة التي نجح فيها بدر[4] –مولى عبد الرحمن الداخل- هو وصوله إلى موالي بني أمية في الأندلس، وشيخهم أبو عثمان، ومن خلالهم حاول التحالف مع القيسية، إلاَّ أن الصميل بن حاتم -وقد كان زعيم القيسية الذين كانوا عماد الفهري- عَبَّر بوضوح عن مخاوفه من وجود أمير أموي في البلاد، فوَضْع القيسية حينئذٍ لن يكون كما هو في ظلِّ الفهري الذي يستطيعون أن يأخذوا منه ويَرُدُّوا عليه
    فذهبوا إلى اليمنية فرضوا وتمَّ لهم الأمر.



    وإذًا، فقد نجح بدر في مهمته، فأرسل رسولاً إلى عبد الرحمن يقول له: إن الوضع أصبح جاهزًا لاستقبالك هناك. وحينما سأله عن اسمه، قال: تمام. قال: وما كنيتك؟ قال: أبو غالب. فقال: الله أكبر! الآن تمَّ أمرنا، وغَلَبْنَا بحول الله تعالى وقوته. وبدأ يُعِدُّ العُدَّةَ، ويجهِّز السفينة التي أخذته منفردًا إلى بلاد الأندلس.


    عبد الرحمن الداخل في الأندلس

    نزل عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- على ساحل الأندلس بمفرده، واستقبله هناك مولاه بدر، وكان يحكم الأندلس في ذلك الوقت يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكالعادة كان في الشمال يقمع ثورةً من الثورات



    وبمجرَّد أن دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس بدأ يُجَمِّع الناس من حوله؛ محبِّي الدولة الأموية، والأمازيغ (البربر)، وبعض القبائل المعارضة ليوسف بن عبد الرحمن الفهري، كما كان قد وصلت إلى الأندلس فلول من الأمويين الهاربين، إلى جانب التحالف المأخوذ مع اليمنية.



    كان على رأس اليمنيين في ذلك الوقت أبو الصباح اليحصبي، وكان المقرُّ الرئيس لهم في إِشْبِيلِيَة، وهي المدينة الكبيرة التي كانت تُعَدُّ حاضرة من حواضر الإسلام في ذلك الوقت، فذهب عبد الرحمن بن معاوية بنفسه إلى إِشْبِيلِيَة، واجتمع طويلاً مع أبي الصباح اليحصبي، فبايعه أبو الصباح.



    وقبل القتال أرسل عبد الرحمن بن معاوية عدَّة رسائل إلى يوسف بن عبد الرحمن الفهري يطلب وُدَّه، وأن يُسَلِّم له الإمارة، ويكون الفهري رجلاً من رجاله في بلاد الأندلس، بحُكْمِ أنه حفيد هشام بن عبد الملك، لكن يوسف الفهري رفض ذلك، وجهَّز جيشًا وجاء ليحارب عبد الرحمن بن معاوية ومَنْ معه.


    موقعة المصارة

    من المؤسف حقًّا أن يلتقي المسلمون بسيوفهم، لكن كثرة الثورات وكثرة الفتن والانقلابات جعلت الحلَّ العسكري هو الحلَّ الحتمي في ذلك الوقت؛ ففي (ذي الحجة 138هـ=مايو 756م) وفي موقعة كبيرة عُرِفت في التاريخ باسم موقعة المصارة، دار قتال شرس بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من جهة ومعه القيسية، وعبد الرحمن بن معاوية الذي يعتمد في الأساس على اليمنيين من جهة أخرى

    وقبل القتال كان أبو الصباح اليحصبي (رئيس اليمنيين) قد سمع بعض المقولات من اليمنيين تقول: إن عبد الرحمن بن معاوية غريب عن البلاد، ثم إن معه فرسًا عظيمًا أشهب، فإن حدثت هزيمة فسيهرب من ساحة القتال، ويتركنا وحدنا للفهريين.



    وقد وصلت عبدَ الرحمن بن معاوية تلك المقولة، فقام وفي ذكاءٍ شديد يفوق سنَّ الخامسة والعشرين، وذهب بنفسه إلى أبي الصباح اليحصبي، وقال له: إن جوادي هذا سريع الحركة ولا يمكِّنُنِي من الرمي، فإن أردت أن تأخذه وتعطيَني بغلتك فعلت. فأعطاه الجواد السريع وأخذ منه البغلة يُقاتل عليها، وحينئذٍ قال اليمنيون: إن هذا ليس بمسلك رجل يُريد الهرب، إنما هو مسلك مَنْ يُريد الموت في ساحة المعركة

    ودارت معركة قوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرَّ يوسف الفهري


    عبد الرحمن الداخل وأمارات نجابة وعلم وذكاء

    كانت عادة المحاربين أن يَتَّبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارِّين؛ ليقتلهم ويقضي عليهم؛ ومن ثَمَّ يقضي على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يُجَهِّزون أنفسَهم ليَتَتَبَّعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية، وقال لهم قولةً ظلَّت تتردَّدُ في أصداء التاريخ، أمارةً على علمه ونبوغه، وفهمٍ صحيح، وفكرٍ صائب في تقدير الأمور؛ قال لهم: «لا تستأصلوا شأفةَ أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم»[13].



    يُريد –رحمه الله- أن هؤلاء الذين يقاتلوننا اليوم سيُصبحون غدًا من جنودنا؛ ومن ثَمَّ عونًا على أعدائنا من النصارى وغيرهم في ليون وفرنسا وغيرها، فهكذا –رحمه الله- كان ذا نظرة واسعة جدًّا تشمل كل بلاد الأندلس، بل تشمل كل أوربا، بل إني أراه بذلك التفكير يستطيع أن يُعِيد مُلك الشام بعد ذلك -أيضًا- إلى أملاك الأمويين؛ وذلك لما يلي:

    أولاً: ليس في قلبه غلٌّ ولا حقدٌ على مَنْ كان حريصًا على قتله منذ سويعاتٍ قلائل.

    ثانيًا: الفهم العميق للعدوِّ الحقيقي وهو النصارى في الشمال.

    ثالثًا: رغم كونه لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلاَّ أنه كان يمتلك فهمًا واعيًا، وإدراكًا صحيحًا، وفقهًا وعلمًا وسعة اطلاع، عَلِمَ به أنه إن جاز له أن يُقَاتِلهم لتوحيد البلاد تحت راية واحدة، فهو في الوقت ذاته لا يجوز له شرعًا أن يتتبعهم، أو أن يقتل الفارِّين منهم، ولا أن يُجْهِزَ على جريحهم، ولا أن يقتل أسيرهم؛ لأن حكمهم حكم الباغين في الإسلام وليس حكمَ المشركين، وحكم الباغي في الإسلام أنه لا يُتَتَبَّع الفارُّ منهم، ولا يُقتَلُ أسيرُه، ولا يُجهَزُ على جريحه، بل ولا تُؤخَذ منه الغنائم



    وكانت الهزيمة بالغة، حتى إن عبد الرحمن الداخل لم يجد أحدًا في طريقه إلى قصر الحكم في قُرْطُبَة، وسيطر جنوده على ما في يد جنود يوسف من الأسلحة والمتاع وما إلى ذلك، إلاَّ أن بعض الناس حاول انتهاب قصر يوسف الفهري نفسه وسبي أولاده وحريمه، فسارع وطرد الناس، وكسا من عَرِي من أولاد يوسف، وردَّ ما قدر على ردِّه، وهنا غضبت اليمنية وساءهم ذلك حين لم يستطيعوا أن ينتقموا من يوسف في أولاده ونسائه، وداخلهم أن عبد الرحمن الداخل تعصب لنسبه المضري

    وأقام عبد الرحمن بن معاوية الداخل بظاهر قُرْطُبَة ثلاثة أيام، حتى يترك الفرصة لأهل يوسف الفهري أن يجمعوا أمرهم وأن يخرحوا بأمان، فكان هذا بداية عفافه وحسن سيرته في الأندلس


    بين عبد الرحمن الداخل وأبي الصباح اليحصبي

    ومن المفارقات أنه بعد انتهاء موقعة المصارة وحين لم يرضَ عبد الرحمن بانتهاب قصر يوسف الفهري ولا سبي أولاده، غضب أبو الصباح اليحصبي زعيم اليمنية، وفكر في أن ينقلب على عبد الرحمن بن معاوية نفسه، وكان مما قال: «يا معشر يمن؛ هل لكم إلى فتحين في يوم، قد فرغنا من يوسف وصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدام ابن معاوية؛ فيصير الأمر لنا، نقدِّم عليه رجلاً منا، ونحل عنه هذه المضرية». فلم يجبه أحد لذلك



    ووصلت هذه الأنباء إلى عبد الرحمن بن معاوية، فما كان منه إلاَّ أن أسرَّها في نفسه، ولم يُبْدِها لهم، ولم يُعلِمْهم أنه يعلم ما يُضْمِرُونه له؛ لكنه أصبح على حذرٍ شديدٍ من أبي الصباح اليحصبي



    لم يُرِدْ عبد الرحمن بن معاوية أن يُحدث خللاً في الصفِّ المسلم في هذه الأوقات، ولم يُرِدْ أن يُحْدِثَ خللاً بين الأمويين ومحبِّي الدولة الأموية وبين اليمنيين، في ذلك الوقت المليء بالثورات والمعارك الداخلية؛ إنما كان كلُّ هَمِّه هو تجميع الناس ثم حرب النصارى بعد ذلك، وبالفعل وبعد إحدى عشرة سنة من هذه الأحداث عزل عبدُ الرحمنِ أبا الصباح اليحصبي عن مكانه، واستطاع أن يمتلك زمام الأمور كلها في الأندلس
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty صقر قريش وثورة العباسيين

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:16


    صقر قريش وثورة العباسيين

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    عبد الرحمن الداخل



    صقر قريش وثورة العباسيينبعد انتصار عبد الرحمن بن معاوية في موقعة المصارة ودخوله قُرْطُبَة عاصمة الأندلس في ذلك الوقت، لُقِّب عبدُ الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل؛ لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا[1]، فكان له الكثير من الأيادي البيضاء على الإسلام في بلاد الأندلس، وعُرِفت الفترة التي تلت دخوله قُرْطُبَة بفترة الإمارة الأموية، وتبدأ من سنة 138هـ=755م وتنتهي سنة 316هـ=928م، وسُمِّيت إمارة لأنها أصبحت منفصلة عن الخلافة الإسلامية؛ سواء كانت في عصر الدولة العباسية أو ما تلاها بعد ذلك من العصور إلى آخر عهود الأندلس.



    وبدأ عبد الرحمن الداخل بعد ذلك يُنَظِّم أمور الأندلس، وكانت هناك ثورات في كل مكان من أرض الأندلس، ورث بعضها وبعضها الآخر ثار عليه، وبصبر شديد وأناة عجيبة، أخذ عبد الرحمن الداخل يُرَوِّض هذه الثورات الواحدة تلو الأخرى، وتعامل مع كلٍّ منها بما يتوافق معها؛ فاستمال مَنِ استطاع من الثائرين، وحارب الباقين.



    ففي فترة حُكمه -التي امتدَّت أربعة وثلاثين عامًا متصلة من سنة 138هـ=755م وحتى سنة 172هـ=788م [2]- قامت عليه أكثر من خمس وعشرين ثورة، وهو يقمعها بنجاح عجيبٍ الواحدة تلو الأخرى، ثم ترك البلاد وهي في فترة من أقوى فترات الأندلس في التاريخ بصفة عامة.


    الثورات التي قامت ضد عبد الرحمن الداخل

    تَعَرَّضَتِ الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الداخل لعدد كبير من الثورات، تزيد على خمس وعشرين ثورة تغلَّب عليها جميعًا؛ ومن هذه الثورات:

    ثورة القاسم بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري ورزق بن النعمان الغساني، وثورة يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة 143هـ=760م [3]، وثورة هشام بن عروة الفهري سنة 144هـ=761م [4]، وثورات أخرى تتابعت عليه من سنة 144هـ إلى سنة 146هـ، وثورة العلاء بن مغيث اليحصبي سنة 146هـ=763م [5]، وثورة سعيد اليحصبي اليماني سنة 149هـ=766م [6]، وثورة أبي الصباح حيِّ بن يحيى اليحصبي سنة 149هـ=766م [7]، وثورة البربر في الأندلس بزعامة شقيا بن عبد الواحد المكناسي سنة 151هـ=768م [8]، وثورة اليمانية في إِشْبِيلِيَة بزعامة عبد الغافر اليحصبي وحيوة بن ملامس الحضرمي سنة 156هـ=773م [9]، وثورة سليمان بن يقظان في بَرْشُلُونَة سنة 157هـ=774م [10]، وثورة عبد الرحمن بن حبيب الفهري سنة 161هـ=777م [11]، وثورة الحسين بن يحيى الأنصاري سنة 166هـ=782م [12]، وثورة محمد بن يوسف الفهري سنة 168هـ=784م [13]، وثورات أخرى كثيرة قامت ضده، ولكنه ما لبث أن أخمدها كلها وقضى عليها.


    صقر قريش وثورة العباسيين

    ولن نقف إلاَّ أمام ثورة واحدة فقط من هذه الثورات الخمس والعشرين؛ وذلك لأهميتها الشديدة في فهم هذا الانفصال الذي حدث للأندلس عن الخلافة العباسية، وهذه الثورة حدثت في سنة 146هـ=763م؛ أي: بعد حوالي ثمان سنوات من تولِّي عبد الرحمن الداخل حكم الأندلس، وقام بها رجل يُدعى العلاء بن مغيث الحضرمي[14].



    وكان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني، والمؤسس الحقيقي للخلافة العباسية بعد أبي العباس السفاح، قد رَاسَلَ العلاء بن مغيث الحضرمي ليقتل عبد الرحمن بن معاوية؛ ومن ثَمَّ يضمُّ الأندلس إلى أملاك الخلافة العباسية[15].



    وهذا يُعَدُّ أمرًا طبيعيًّا بالنسبة لأبي جعفر المنصور؛ إذ يُريد ضمَّ بلاد الأندلس -وهو البلد الوحيد المنشقُّ من بلاد المسلمين- إلى حظيرة الخلافة العباسية الكبيرة، فجاء العلاء بن مغيث الحضرمي من بلاد المغرب العربي وعبر إلى بلاد الأندلس، ثم قام بثورة يدعو فيها للعباسيين، ويرفع الراية السوداء التي أرسلها له الخليفة أبو جعفر المنصور[16].



    ولم يتوانَ عبد الرحمن الداخل عن محاربته، فقامت لذلك حرب كبيرة بين العلاء بن مغيث الحضرمي وعبد الرحمن الداخل، وانتصر عبد الرحمن الداخل كعادته في قمع الثورات، ووصلت الأنباء إلى أبي جعفر المنصور -وكان في الحجِّ- بأن عبد الرحمن الداخل قد هزم جيش العلاء الحضرمي هزيمة منكرة، وأن العلاء بن مغيث الحضرمي قد قُتِل.

    وهنا قال أبو جعفر المنصور: قَتَلْنَا هذا البائس. يعني العلاء بن مغيث الحضرمي؛ يُريد أنه قتله بتكليفه إيَّاه بحرب عبد الرحمن الداخل، ثم قال: ما لنا في هذا الفتى من مطمع، يعني: عبد الرحمن الداخل، الحمدُ لله الذي جعل بيننا وبينه البحر[17].



    وكفَّ أبو جعفر من ساعتها عن التفكير في استعادة بلاد الأندلس.


    صقر قريش

    يعد أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي هو الذي سمَّى عبد الرحمن الداخل بصقر قريش، وهو اللقب الذي اشتُهِرَ به بعد ذلك.



    فقد ذُكِرَ أن أبا جعفر المنصور قال يومًا لبعض جلسائه: أخبروني: مَنْ صقر قريش من الملوك؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راضَ الملوك، وسكَّن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء.

    قال: ما قلتم شيئًا!

    قالوا: فمعاوية (معاوية بن أبي سفيان)؟ قال: لا.

    قالوا: فعبد الملك بن مروان؟ قال: ما قلتم شيئًا.

    قالوا: يا أمير المؤمنين؛ فمَنْ هو؟

    قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدًا أعجميًّا، منفردًا بنفسه؛ فمصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ودوَّن الدواوين، وأقام ملكًا عظيمًا بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدَّة شكيمته، إنَّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلَّلا له صعبه؛ وعبدُ الملك ببيعة أُبْرِمَ عقدها؛ وأمير المؤمنين بطلب عِتْرَته، واجتماع شيعته، وعبد الرحمن منفردٌ بنفسه، مؤيَّدٌ برأيه، مستصحبٌ لعزمه، وطَّد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذلَّ الجبابرة الثائرين.

    فقال الجميع: صدقتَ والله! يا أمير المؤمنين[18].



    وهكذا كان أبو جعفر المنصور العباسي معجبًا جدًّا بعبد الرحمن الداخل، وهو ما يمكن أن نُسَمِّيَه إعجاب اضطرار، أو هو إعجاب فرض نفسه عليه.


    عبد الرحمن الداخل والخلافة العباسية:

    تُثير قضية هذا الانفصال الطويل الذي دام بين الأندلس وبين الخلافة العباسية على مرِّ العصور عدَّة تساؤلات في نفوس جميع المسلمين؛ فلماذا ينفصل عبد الرحمن الداخل -الرجل الورع التقيُّ الذي أقام دولة قوية في بلاد الأندلس- بالكلية عن الخلافة العباسية؟!



    ووقفة عادلة مع هذا الحدث وتحليله واستجلاء غوامضه نستطيع القول بأن الدولة العباسية قد أخطأت خطأ فاحشًا بحقِّ الأمويين؛ وذلك بقتلهم وتَتَبُّعهم في البلاد بهذه الصورة الوحشية، فإذا كان الأمويون في آخر عهدهم قد فسدوا واستحقُّوا الاستبدال فليكن تغييرُهم، وَلْيَكُن هذا الاستبدال، ولكن على نهج رسول الله ، بلا قتل وسفك للدماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.



    كان من المفترض على الدولة العباسية القائمة على أنقاض الأمويين أن تحتوي هذه الطاقات الأموية، وتعمل على توظيفها لخدمة الإسلام والمسلمين، بدلاً من إجبارهم على خلق جيب من الجيوب في صُقْع بعيد من أصقاع البلاد الإسلامية في الأندلس أو في غيرها من بلاد المسلمين.



    فهذا عبد الرحمن الداخل الذي نتحدَّث عنه يصيح في اليمنيين بعد موقعة المصارة، ويقول لهم حين أرادوا أن يَتَتَبَّعُوا الفارِّين من جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري: لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم[19]. ليضمَّهم إلى جيشه بعد ذلك، فهكذا كان يجب على العباسيين أن يفعلوا، ويتركوا الأمويين يدخلون تحت عباءتهم؛ حتى يستطيعوا أن يكونوا لهم جندًا وعونًا لا نِدًّا ومنافسًا، كما رأينا النتيجة بأعيننا.


    عفو الرسول مع كفار مكة

    وهذا -أيضًا- المثلُ الأعلى والقدوةُ الحسنة رسولُ الله ، ماذا فعل بعد أن دخل مكة، وكان أهلها قد آذوه هو وأصحابه وطردوهم منها؟! وماذا قال عن أبي سفيان وهو مَنْ هو قبل ذلك؟! ما كان منه إلاَّ أن دخل متواضعًا، وقال: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»[20]. أليس أبو سفيان هذا هو زعيم الكفر وزعيم المشركين في أُحُدٍ والأحزاب؟! فلماذا إذًا يقول عنه مثل هذا؟! إنما كان يُريد أن يخطب وُدَّه، ويضمَّه إلى صفِّه، وبالمثل فعل الرسول مع رءوس الكفر في مكة حين قال لهم: «مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» فقالوا: خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم. فرَدَّ عليهم بمقولته التي وعاها التاريخ: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[21].



    وليس هذا من كرم الأخلاق فحسب، لكنه -أيضًا- من فنِّ معاملة الأعداء، وحُسْنِ السياسة والإدارة، فَلْنتخيَّلْ ماذا سيكون الموقف لو أن الرسول أقام الحَدَّ وقطع رءوس هؤلاء الذين حاربوا دين الله سنواتٍ وسنواتٍ؟! بلا شكٍّ كان سيُحدِث جيبًا من الجيوب داخل مكة، وكان أهل مكة سينتهزون الفرصة تلو الأخرى للانقلاب على رسول الله ، وللانفصال عن الدولة الإسلامية.



    لكن العجب العُجَاب كان في نتيجة ذلك بعد وفاته r ، فقد ارتدَّت جزيرة العرب جميعها، ولم يبقَ على الإسلام منها إلاَّ المدينة ومكة والطائف، وقرية صغيرة تُسَمَّى هجر، ثلاث مدن وقرية واحدة فقط؛ أي أن مكة التي لم تدخل في الإسلام إلاَّ قبل وفاة الرسول بثلاث سنوات فقط كانت في تعداد هذه المدن القليلة التي ثبتت على الإسلام ولم ترتدّ، وبلا شكٍّ فهو أثر فعل رسول الله الذي لم يَنْسَوْه، فكان أن استُوعِبوا في داخل الدولة الإسلامية، وثبتوا وقت الزَّيْغِ.



    وكان هذا ما سيتكرَّر لو فعل العباسيون مثله واستوعبوا الأُمَوِيين في داخل الدولة العباسية؛ ولأنهم لم يفعلوا ذلك فكان أن اضْطُرَّ مَنْ نجا من الأمويين للذهاب إلى هذه البلاد والانشقاق بها عن دولة المسلمين.



    وواقع الأمر يقول: إنه لو كان عبد الرحمن الداخل يضمن أن العلاء بن مغيث الحضرمي سوف يَعفو عنه ويُعطيه إمارة الأندلس، أو أي إمارة أخرى من إمارات الدولة العباسية إذا سَلَّم الأمرَ إليه فلربما كان يفعل، لكنه كان يعلم أنه لو قبض عليه لقتله في الحال هو ومَنْ معه من الأمويين إن كانوا مرشَّحين للخلافة، وهذا بالطبع ما دفعه لأن يبقى على عهده من الجهاد ضد الدولة العباسية، وهو أمر مؤلم جدًّا، وحلقة مفرغة دخل فيها المسلمون نتيجة العنف الشديد من قِبَلِ الدولة العباسية في بدء عهدها، ولا شكَّ أن الدولة العباسية قد غيَّرت كثيرًا من نهجها الذي اتَّبَعَتْهُ أولاً، وتولَّى بعد ذلك رجالٌ كثيرون حافظوا على النهج الإسلامي، بل إن أبا جعفر المنصور نفسه في آخر عهده كان قد غيَّر ما بدأه تمامًا، لكن كانت هناك قسوة شديدة في البَدْء؛ بهدف أن يستتبَّ لهم الأمر في البلاد، فمَنْ يحاول الالتفاف على منهج رسول الله فستكون العاقبة دائمًا هي الخسران، وهكذا كان فقْدُ المسلمين لأرواحٍ طاهرةٍ ودماءٍ كثيرةٍ غزيرة وطاقاتٍ متعددةٍ، بل فقدوا الأندلس فلم تَعُدْ مددًا للمسلمين طيلة عهدها؛ فالعنف في غير محلِّه لا يُورِثُ إلاَّ عنفًا، وطريق الدماء لا يُورث إلاَّ الدماء، والسبل كثيرة، ولكن ليس إلاَّ من سبيل واحد فقط؛ إنه الطريق المستقيم طريق الله : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].


    وقفة مع عبد الرحمن الداخل في قضائه على الثائرين

    ذكرنا -فيما سبق- أنه في خلال الأربع والثلاثين سنةً الممتدَّة من بداية حكم عبد الرحمن الداخل وحتى نهايته كان هناك أكثر من خمس وعشرين ثورةً في كل أنحاء الأندلس، وذكرنا -أيضًا- كيف روَّض بعضها وقمع غيرها بنجاح الواحدة تلو الأخرى، والتي كان من أهمِّها ثورة العباسيين التي قام بها العلاء بن مغيث الحضرمي، وكيف تَمَّ القضاء عليها.



    وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يجوز لعبد الرحمن الداخل أن يُقاتِل الثائرين وإن كانوا من المسلمين؟!

    وحقيقة الأمر أن موقفه هذا في قتال الثائرين داخل أرض الأندلس لا غبار عليه؛ لأن الجميع كانوا قد اتفقوا عليه أميرًا للبلاد، وقد جاء عن رسول الله أنه قال: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ أي: مجتمع عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَرَادَ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ»[22].



    ومن هنا فقد كان موقف عبد الرحمن الداخل صارمًا مع الثوار؛ وذلك لقمع الانقلابات المتكرِّرَة، والتي تُضعِف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد، إلاَّ أنه من الإنصاف أن نذكر أنه –رحمه الله-كان دائمًا ما يبدأ بالاستمالة والسلم وعرض المصالحة، ويكره الحرب إلاَّ إذا كان مضطرًا.



    وبلا شكٍّ فإن ثمن هذه الثورات كان غاليًا جدًّا؛ ففي السنوات الأربع من بداية دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس 138-142هـ=755-759م سقطت كل مدن المسلمين التي كانت في فرنسا، وذلك بعد أن حكمها الإسلام طيلة سبعٍ وأربعين سنةً متصلة، منذ أيام موسى بن نصير / وحتى زمن سقوطها هذا، وهكذا سُنن الله الثوابت، فما أن شُغِل المسلمون بأنفسهم إلاَّ وكان التقلُّص والهزيمة أمرًا حتميًّا.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty عبد الرحمن الداخل وبناء دولة الأندلس

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:18


    عبد الرحمن الداخل وبناء دولة الأندلس

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    حين استتبَّ الأمر لعبد الرحمن الداخل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيًّا من أمر الثورات بدأ يُفَكِّر فيما بعد ذلك، فكان أن اهتمَّ بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا؛ فقام بما يأتي:




    أولاً: إنشاء جيش قوي

    وفي بنائه لجيشه الجديد عمل على ما يلي:
    1- اعتمد في تكوين جيشه على العناصر التالية

    أ - اعتمد في الأساس على عنصر المولَّدين، وهم الذين نَشَئُوا نتيجة انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين من أهل الأندلس.

    ب - اعتمد كذلك على كل الفصائل والقبائل الموجودة في بلاد الأندلس، فضمَّ إليه كل الفصائل المُضَرِيَّة؛ سواء كانت من بني أمية أو من غير بني أمية، إلاَّ أنه بعد ثورة اليمانية لمقتل أبي الصباح اليحصبي[1] صار لا يطمئن إلى العرب، فأكثر مِنَ اتخاذ المماليك من غير العرب لا سيما البربر، حتى صار له منهم أربعون ألفًا، وبهم استقرَّ ملكه[2].



    ج - كذلك اعتمد على عنصر الصقالبة[3]؛ وهم أطفالٌ نصارى كان قد اشتراهم عبد الرحمن الداخل من أوربا، ثم قام بتربيتهم وتنشئتهم تنشئةً إسلامية عسكرية صحيحة.



    وبرغم قدوم عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وحيدًا، فقد وصل تعداد الجيش الإسلامي في عهده إلى مائة ألف فارسٍ[4] غير الرجَّالة، مشكَّلاً من كل هذه العناصر السابقة، والتي ظلَّت عمادَ الجيش الإسلامي في الأندلس لدى أتباع وخلفاء وأمراء بني أمية من بعده.


    2- إنشاء المصانع ودور الأسلحة

    أنشأ عبد الرحمن الداخل -صقر قريش- دُورًا للأسلحة؛ فأنشأ مصانع السيوف ومصانع المنجنيق، وكان من أشهر هذه المصانع مصانع طُلَيْطلَة ومصانع برديل.


    3- إنشاء أسطول بحري قوي

    أنشأ -أيضًا- أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من المواني.


    4- تقسيم ميزانية الدولة

    كان عبد الرحمن الداخل يُقَسِّم ميزانية الدولة السنوية إلى ثلاثة أقسام: قسم يُنفقه بكامله على الجيش، والقسم الثاني لأمور الدولة العامَّة من مؤنٍ ومعمارٍ ومرتباتٍ ومشاريعَ وغير ذلك، والقسم الأخير كان يدَّخره لنوائب الزمان غير المتوقَّعة.


    ثانيًا:الاهتمام بالعلمَ والجانبَ الدينيَّ

    أعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما؛ فعمل على الآتي:

    - نَشْر العلم وتوقير العلماء.

    - اهتمَّ بالقضاء والحسبة.

    - اهتمَّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.



    - كان من أعظم أعماله في الناحية الدينية بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة[5].



    وكان من العلماء في أيامه معاوية بن صالح بن حدير بن سعيد الحضرمي، وكان من جِلَّة أهل العلم ومن كبار المحدِّثين، وقد أخذ عنه جملة من الأئمة؛ منهم: سفيان الثوري، وابن عيينة، والليث بن سعد، ويُذْكَر أن مالك بن أنس قد روى عنه حديثًا، وكان عبد الرحمن الداخل قد ولاَّه القضاء[6].

    وكان من علماء الأندلس في عهده -أيضًا- سعيد بن أبي هند، والذي لَقَّبه الإمام مالك بن أنس / بالحكيم؛ لِمَا عُرِفَ عنه من رجاحة عقله، وقد توفي أيام الداخل[7].


    ثالثًا: العناية الكبيرة بالجانب الحضاري المادي

    ويبرز ذلك في الجوانب التالية:

    - اهتمامه الكبير بالإنشاء والتعمير، وتشييد الحصون والقلاع والقناطر، وربطه أول الأندلس بآخرها.



    - إنشاؤه الرُّصَافة، وهي من أكبر الحدائق في الإسلام، وقد أنشأها على غِرار الرصافة التي كانت بالشام، والتي أسَّسها جدُّه هشام بن عبد الملك -رحمه الله، وقد أتى لها عبد الرحمن بالنباتات العجيبة من كل بلاد العالم، فإذا نجحت زراعتها في الرصافة فإنها تنتشر في الأندلس كلها[8].


    رابعًا: حماية حدود دولته من أطماع الأعداء

    بالإضافة إلى إعداده جيشًا قويًّا -كما أوضحنا سابقًا- وتأمينًا لحدود دولته الجديدة قام عبد الرحمن الداخل بخوض مرحلتين مهمتين:

    المرحلة الأولى: كان عبد الرحمن الداخل يعلم أن الخطر الحقيقي إنما يكمن في دولتي ليون في الشمال الغربي، وفرنسا في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس، فقام بتنظيم الثغور في الشمال، ووضع جيوشًا ثابتةً على هذه الثغور المقابلة لهذه البلاد النصرانية، وهي:

    - الثغر الأعلى؛ وهو ثغر سَرَقُسْطَة في الشمال الشرقي في مواجهة فرنسا.

    - الثغر الأوسط؛ ويبدأ من مدينة سالم ويمتدُّ حتى طُليْطلَة.

    - الثغر الأدنى؛ وهو في الشمال الغربي في مواجهة مملكة ليون النصرانية.

    المرحلة الثانية: كان عبد الرحمن الداخل –رحمه الله- قد تعلَّم من آبائه وأجداده عادة عظيمة، وهي عادة الجهاد المستمرِّ وبصورة منتظمة كل عام، فقد اشتُهِرَت الصوائفُ في عهده؛ حيث كان المسلمون يخرجون للجهاد في الصيف وبصورة منتظمة؛ وذلك حين يذوب الجليد، وكان

    يتناوب عليهم فيها كبار قوَّاد الجيش، بهدف الإرباك الدائم للعدوِّ، وهو ما يُسمُّونه الآن في العلوم العسكرية بالهجوم الإجهاضي المسبق.
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty عبد الرحمن الداخل .. القائد والإنسان

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:20


    عبد الرحمن الداخل .. القائد والإنسان

    عبد الرحمن الداخل.. الأمير الفذُّ

    لولا عبد الرحمن الداخل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، هكذا قال المؤرِّخون عن عبد الرحمن الداخل، وإنَّا لتعلونا الدهشة ويتملَّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنِّ خريج الجامعة في عصرنا.



    مَلَكٌ من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيَّان الأندلسي، الذي يقول مُستَعرِضًا بعضًا من صفات عبد الرحمن الداخل:

    «كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الْغَوْرِ، شديد الحدَّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويُؤْثِره، وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه، وكان يحضر الجنائز، ويُصَلِّي عليها، ويُصَلِّي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى»[1].



    شخصية تُشخِص الأبصار وتَبْهَر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه –رحمه الله، ومع شدَّته وحزمه وجهاده وقوَّته كان –رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مُرهَف المشاعر.



    ومع هيبته عند أعدائه وأوليائه إلاَّ أنه كان يتبسَّط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويُصَلِّي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينة، لم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم دون حرَّاس، حتى خاطبه المقرَّبُون في ذلك وأشاروا عليه ألاَّ يخرج في أوساط الناس حتى لا يتبسَّطوا معه[2].

    ونستطيع أن نفهم شخصيته بصورة أوضح حين نعلم كيف كان في معاملته للناس، فقد جاء أن أحد الناس طلب منه حاجةً أمام أعين الحاضرين، فقضاها له، ثم قال له: «إذا أَلَمَّ بك خطب أو حزبك أمرٌ فارفعه إلينا في رقعة، لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك، ونكف شمات العدوِّ عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا -عزَّ وجهه- بإخلاص الدعاء وصدق النية»[3].



    إنها لَتربية ربَّانية لشعبه؛ فهو يُريد –رحمه الله- أن يربط الناس بخالقهم، يُريد أن يُعَلِّمهم أن يرفعوا حاجتهم إليه أولاً، يُريد أن يُعَلِّمهم أنه يملكه ويملكهم جميعًا، ثم مراعاةً لعواطف النفس الداخلية، وحفظًا لماء وجه الرعية عند السؤال قال له: فارفع إلينا حاجتك في رقعة كي نستر عليك ولا يشمت أحدٌ فيك.



    وها هو ذا –رحمه الله- لما انتصر على ثائر سرقسطة الحسين الأنصاري، «أقبل خواصُّه يُهَنِّئُونه، فجرى بينهم أحدُ مَنْ لا يُؤْبَهُ به من الجند، فهنَّأه بصوت عال. فقال: والله! لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ عليَّ فيه النعمة مَنْ هو فوقي فأوجب عليَّ ذلك أن أُنْعِمَ فيه على مَنْ هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا رافعًا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة، ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟! وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها، فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال: ولعلَّ فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة؛ لا أعدمنيه الله تعالى. فتهلَّل وجه الأمير وقال: ليس هذا باعتذار جاهل. ثم قال: نَبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا مَنْ يُنَبِّهنا عليها. ورفع مرتبته وزاد في عطائه»[4]. فهو هنا على رغم غضبه لمقام الإمارة إلاَّ أنه حلم عليه ولم يُعاقبه بل زاد في مكافأته؛ لَمَّا تكشَّفت له حكمة الجندي وفصاحته.


    عبد الرحمن الداخل.. الإنسان

    مع المدَّة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن الداخل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛ لم يُؤْثَر عنه أيُّ خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحُسن الخلق؛ مما يدلُّ على إنسانيته السامية، ومعدنه النفيس، وأخلاقُ الإنسان الحقيقية لا تظهر بوضوح إلاَّ في وقت الشدَّة، وحياة عبد الرحمن كلها شدائد وحروب؛ مما يُظْهِر أخلاقه بوضوح أمام أيِّ باحث في التاريخ، ويُحَدِّد ما إذا كانت حسنة أو سيئة.



    وكان عبد الرحمن الداخل خطيبًا مفوَّهًا يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، كما كان -أيضًا- شاعرًا مرهف الحسِّ، قال سعيد بن عثمان اللغوي الذي توفي سنة أربعمائة: كان بقُرْطُبَة جَنَّة حديقة اتخذها عبد الرحمن بن معاوية، وكان فيها نخلة أدركتُها، ومنها تولَّدت كل نخلة بالأندلس.



    قال: وفي ذلك يقول عبد الرحمن الداخل: [الكامل]

    يَا نَخْلُ أَنْتِ غَرِيبَةٌ مِثْلِي





    فِي الْغَرْبِ نَائِيَةٌ عَنِ الأَصْلِ

    فَابْكِي وَهَلْ تَبْكِي مُكَيَّسَةٌ





    عَجْمَاءُ لَمْ تُطْبَعْ عَلَى خَيْلِ؟

    لَوْ أَنَّها تَبْكِي إذًا لَبَكَتْ





    مَاءَ الْفُرَاتِ وَمَنْبِتَ النَّخْلِ

    لَكِنَّهَا ذَهِلَتْ وَأَذْهَلَنِي





    بُغْضِي بَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَهْلِي[5]



    ومن شعره أيضًا: [الخفيف]

    أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُيَمِّمُ أَرْضِي





    أَقْرِ مِنْ بَعْضِي السَّلامَ لِبَعْضِي

    إِنَّ جِسْمِي كَمَا عَلِمْتَ بِأَرْضٍ





    وَفُؤَادِي وَمَالِكِيهِ بِأَرْضِ

    قُدِّرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فَافْتَرَقْنَا





    فَعَسَى بِاجْتِمَاعِنَا اللهُ يَقْضِي[6]


    عبد الرحمن الداخل وفكره العسكري

    تمتَّع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقَّة والعجب؛ فحياته كُلُّها -تقريبًا- حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحارى والقفار والبحار، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلَّب عليها بلا استثناء؛ ليُوَطِّد مُلكه في بلاد الأندلس دون منازع.



    ولولا ذكاؤه العسكري ما تغلَّب على كل هذه الثورات، التي يحار العقل في كثرتها، وكيف قضى عليها جميعًا، ونعرض هنا لبعض ملامح فكره العسكري من خلال مواقفه في معاركه وبطولاته، التي شغلت طول حياته وعرضها؛ ومن هذه الملامح:
    أولاً: مبدأ المباغتة والحرص على المبادأة

    فهو يُخَطِّط بدقَّة من أجل الوصول إلى أهدافه، ثم هو لا يترك لخصومه الفرصة، بل يُسرع ليُباغتهم وهم في بداية أعمالهم القتالية المضادَّة له، والتاريخ يُؤَكِّد أن أفضل وسيلة للقضاء على أعمال التمرُّد هو تطويقها منذ بداياتها الأولى، وعدم السماح لها بالتطوُّر، والعمل على خنقها وهي لا تزال في مهدها، ويظهر هذا المبدأ واضحًا في معركة المصارة، فقد بات ليلته يستعدُّ للحرب بينما كان خصمه يحاول خداعه، بحُجَّة تأجيل القتال، وكانت المباغتة كاملة؛ بحيث لم تتمكَّن القوات المضادَّة من الصمود، على الرغم مما أظهرته في البداية من ضروب الشجاعة[7]، والأمر مماثل بالنسبة لبقية حروب الأمير عبد الرحمن ومعاركه؛ حيث كان للمباغتة دور كبير وحاسم في تقرير نتائج القتال من قبل أن تبدأ المعركة.



    ولم يكن حرص عبد الرحمن الداخل على الاحتفاظ بالمبادأة أقل من حرصه على المباغتة، فهو يحاول باستمرار وضع خصومه أمام مواقف تحرمهم من حرية العمل، ويفرض عليهم زمن المعركة، وكان في معاركه كلها يُجَابه قادة على درجة عالية من الكفاءة، فكان لا بُدَّ له من البحث عن الوسيلة التي تحرمهم من استخدام قدراتهم وإمكاناتهم.


    ثانيًا: الاقتصاد في القوى والمحافظة على الهدف

    وتظهر أهمية هذين المبدأين عند مطالعة سيرته، فقد كانت حياته سلسلة متصلة الحلقات من الوقائع والمعارك، وكان لا بُدَّ من الموازنة المستمرَّة بين الأهداف المتتالية للحرب، وبين القوى والوسائط اللازمة للتعامل معها، مع إعطاء الأولوية للأهداف الأكثر أهمية وخطورة عندما يظهر أن هناك أكثر من هدف يجب التعامل معه في وقت واحد، وهذا ما كان يحدث في معظم الأحيان، وأمام هذه المواقف بمجموعها كان لا بُدَّ من إجراء حسابٍ دقيقٍ لموازين القوى؛ بحيث يمكن استخدامها على أفضل صورة وفي أحسن وجه، وهذا ما أَكَّدته مجموعة الأعمال القتالية للأمير عبد الرحمن.


    حياة صقر قريش في سطور

    لقد كانت حياة القائد العظيم عبد الرحمن الداخل وقفًا على الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، وتثبيت بُنيانها، وإرساء دعائمها، ورَدِّ الطامعين فيها، فكانت الأيام التي عاشها الأمير عبد الرحمن في طمأنينة وراحة لا تزيد على أيام قليلة، وكانت حياته حركة مستمرَّة في تنظيم الجيوش، وعقد الرايات، وتوجيه القوَّات، وتحصين الثغور، والقضاء على الفتن والثورات، ووضع أُسس البنيان الحضاري.


    وفاته

    عاش عبد الرحمن الداخل تسعًا وخمسين سنة؛ منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وستُّ سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في المُلك ببلاد الأندلس، وتُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى 172هـ= أكتوبر 788م[8].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty هشام بن عبد الرحمن الداخل ( هشام الرضا )

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:22


    هشام بن عبد الرحمن الداخل ( هشام الرضا )

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    ولاية هشام بن عبد الرحمن الداخل





    هشام بن عبد الرحمن الداخل, هشام الرضاكان عبد الرحمن الداخل قد استقرَّ أمره على ابنه هشام خليفة له، فولاَّه العهد مع كونه أصغر من أخيه سليمان، فلقد كان أكفأ منه وأفضل، ولقد صدق حَدْسُه فيه؛ حيث كان الناس يُشبِّهونه بعد ذلك بعمر بن عبد العزيز t في علمه وعمله وورعه وتقواه.


    الفتنة بين أولاد عبد الرحمن الداخل

    وكان هشام بن عبد الرحمن - هشام الرضا- بمَارِدَة عند موت أبيه، وقد عاد منها إلى قُرْطُبَة بعد ستة أيام من وفاة أبيه، فبايعه العوامُّ ورجال الدولة، وكان ذلك سنة 172هـ= 788م، وكان أخوه سليمان بطُلَيْطلَة، فلما علم سليمان بالأمر غضب، وأعلن الثورة على أخيه، وجهَّز بالفعل جيشًا توجَّه به لقتال أخيه في قُرْطُبَة، فخرج إليه هشام بن عبد الرحمن الداخل والتقيا في جَيَّان، ودارت بينهما حرب شديدة انتهت بهزيمة سليمان، ففرَّ عائدًا إلى طُلَيْطِلَة[1].



    وكان لهشام أخٌ آخر يُسَمَّى عبد الله، وكان هشام يُحسن معاملته، ولكن يبدو أن عبد الله قد طمع فيما هو أكثر من ذلك، ففرَّ إلى أخيه سليمان في طُلَيْطِلَة، فلمَّا علم هشام بالأمر أشفق على عبد الله فأرسل له مَنْ يَرُدُّه ويترضَّاه، إلاَّ أن الرسول لم يلحق به[2].



    ولم يبقَ أمام هشام إلاَّ أن يُبادر إلى أخيه سليمان -كما كان يفعل أبوه- قبل أن يبدأه سليمان -كما فعل من قبل- ويحاول هو مهاجمة قُرْطُبَة، وبالفعل خرج إلى طُلَيْطِلَة وحاصرها فترة، فحاول سليمان أن يستغلَّ الفرصة وفرَّ منها إلى قُرْطُبَة؛ ليستوليَ عليها في غياب أخيه، ولكن أهلها حاربوه، فحاول الاستيلاء على مَارِدَة؛ لأنها قريبة من قُرْطُبَة، ليستطيع تهديد قُرْطُبَة منها إلاَّ أن واليها استطاع ردَّه عن مَارِدَة، فهرب إلى مُرْسِيَة ثم إلى بَلَنْسِيَة، وأخوه يُطارده، فلمَّا دبَّ اليأس إلى نفسه، طلب الأمان، فأمنَّه وكان قد أمَّن عبد الله قبله، وتركهما يرحلان إلى بلاد الشمال الإفريقي[3].




    عهد هشام بن عبد الرحمن الداخل

    وقد كان هشام بن عبد الرحمن الداخل –هشام الرضا- عالِمًا محبًّا للعلم، وقد أحاط نفسه –رحمه الله- بالفقهاء، وكان له أثر عظيم في بلاد الأندلس بنشره اللغة العربية فيها، وقد أخذ ذلك منه مجهودًا وافرًا وعظيمًا، حتى أصبحت اللغة العربية تُدرَّس في معاهد اليهود والنصارى داخل أرض الأندلس[4].



    ومن أبرز التغيرات الجوهرية التي تمَّت بالأندلس في عهد هشام انتشار المذهب المالكي فيها، وقد كانت البلاد من قبل ذلك على مذهب الإمام الأوزاعي[5].



    وكانت لهشام صولات وجولات كثيرة في الشمال مع الممالك النصرانية[6].



    وكان من علماء عصره صعصعة بن سلامة الشامي، وكان المفتي أيام عبد الرحمن الداخل، وفي بداية عهد هشام بن عبد الرحمن، كما ولي الصلاة بقُرْطُبَة، وروى عنه عبد الملك بن حبيب وعثمان بن أيوب[7]، كما كان من المحدثين في أيامه عبد الرحمن بن موسى، وقد روى عنه أصبغ بن خليل وغيره، وقد توفي هو وصعصعة بن سلامة أيام هشام بن عبد الرحمن الداخل[8].


    وفاة هشام بن عبد الرحمن الداخل

    وتوفي هشام بن عبد الرحمن الداخل -هشام الرضا- في صفر 180هـ= إبريل 796م فكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر، وتوفي –رحمه الله- وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، ودُفِنَ في القصر، وصلَّى عليه ابنه الحكم[9].
    Admin
    Admin
    Admin
    Admin


    الدولة :  تاريخ الاندلس 710
    عارضة الطاقة :
     تاريخ الاندلس Left_bar_bleue90 / 10090 / 100 تاريخ الاندلس Right_bar_bleue

    عدد المساهمات : 9005
    نقاط : 19215
    تاريخ التسجيل : 10/08/2010

     تاريخ الاندلس Empty الحكم بن هشام ( الحكم الربضي )

    مُساهمة من طرف Admin الأحد نوفمبر 06 2011, 16:23


    الحكم بن هشام ( الحكم الربضي )

    [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

    ولاية الحكم بن هشام




    الحكم بن هشام, الحكم الربضيتولَّى بعد هشام بن عبد الرحمن الداخل ابنه الحكم الشهير بالحكم الربضي، وذلك من سنة (180هـ=796م) وحتى سنة (206هـ=821م) [1]، لكن الحكم لم يكن على شاكلة أبيه ولا على شاكلة جدِّه، فكان قاسيًا جدًّا، فرض الكثير من الضرائب، واهتمَّ بالشِّعر والصيد، وقاوم الثورات بأسلوب غير مسبوق في بلاد الأندلس في عهد الإمارة الأموية؛ حتى وصل الأمر في آخر حياته إلى حرق بيوت الثائرين عليه، ونفيهم خارج البلاد[2].


    ثورة الربض

    من أشهر الثورات التي قمعها الحكم بن هشام – الحكم الربضي- ثورة الربض (202 هـ= 808 م) وهم قومٌ كانوا يعيشون في إحدى ضواحي قُرْطُبَة، وقد ثار أهلها ثورة كبيرة جدًّا عليه؛ بسبب ما عُرِفَ عنه من معاقرة الخمر، وتشاغله باللهو والصيد، وقد زاد من نقمة الشعب عليه قتله لجماعة من أعيان قُرْطُبَة؛ فكرهه الناس، وصاروا يتعرَّضون له ولجنده مما حثَّه على تحصين قرطبة، فأقام حولها الأسوار، وحفر الخنادق، وجعل جنوده على مقربة منه؛ فزاد ذلك من حقد أهل قُرْطُبَة عليه، وزاد توجُّسهم منه، ثم حدث أن مملوكًا له اختلف مع أحد العوامِّ فقتله؛ فثار أهل الربض، وزحفوا إلى قصره وأحاطوا به فقاتلهم قتالاً شديدًا هو وجنده حتى تغلَّب عليهم[3].



    ولم يكتفِ الحكم بهزيمتهم، بل أحرق وخرَّب ديارهم، وقتل ثلاثمائة من وجهائهم وصلبهم، وأمر بطردهم خارج البلاد[4]؛ فتفرَّقوا في البلاد ومنهم مَنْ ذهب إلى الإسكندرية في مصر، وأقاموا فيها فترة ثم ارتحلوا عنها إلى جزيرة كريت، فأقاموا فيها دويلة عام (212هـ=728م) استمرَّت مائة عام حتى استولى عليها البيزنطيون من بعد[5].
    الجهاد في عهد الحكم بن هشام

    ورغم أفعاله تلك إلاَّ أن الحكم بن هشام لم يُوقِفْ حركة الجهاد[6]؛ وذلك لأن الجهاد كان عادة في الإمارة الأموية؛ سواء في بلاد الشام أو في بلاد الأندلس، لكن كانت له انتصارات وهزائم في الوقت نفسه، وكنتيجة طبيعية لهذا الظلم الذي اتَّصف به، وهذه العلاقة التي ساءت بين الحاكم والمحكوم سقطت بعض البلاد الإسلامية في يد النصارى؛ فسقطت بَرْشُلُونَة، وأصبحت تُمثِّل إمارة نصرانية صغيرة في الشمال الشرقي عُرِفَت في التاريخ باسم إمارة أراجون، وكانت متاخمة لحدود فرنسا بجوار جبال البرينيه في الشمال الشرقي للبلاد[7].



    لكن الحكم بن هشام بفضل من الله ومَنٍّ عليه تاب عن أفعاله في آخر عهده، ورجع عن ظلمه، واستغفر واعتذر للناس عن ذنوبه، ثم اختار من أبنائه أصلحهم، وإن لم يكن الأكبر؛ ليكون وليًّا لعهده، وكان من حُسْنِ خاتمته أنه قام بهذا الاعتذار وهذه التوبة وهو في كامل قوَّته وبأسه، وذلك قبل موته بعامين[8].

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت أبريل 27 2024, 12:29